الفصل الثالث عشر

2.6K 87 4
                                    

الفصل الثالث عشر

من الحماقة أن تعتقد أنك أذكى البشر..تقف من بعيد تحلل دواخلهم تستنتج بغرور أفعالهم..تضحك بسخرية من مشاعرهم..وتنتابك النشوة عندما تدفعهم قليلاً..تستفز الوحش الكامن بداخلهم،ليتصرف وفق توقعك..
"من عاب الناس أبتليَ"وهو على وشك الوقوع ضحية لتسونامى عاتي لن ينجو منه أبداً...
"حوّلي كل الملفات وعمل المهندس أيان لمكتبي"
رفعت رأسها مجفلة..تنظر لشهاب بتخبط وهي تهمس بشحوب:"لماذا؟"
السخرية المعتادة إحتلت ملامحه بتوحش متشفي وهو يقول:"علاقة مثالية ناجحة..ألا تعرفي أن زوجك المستقبلي في إجازة..مفتوحة"
إمتقع وجه سارة بخيبة أمل بشعور فشل مرير يجتاحها وهي تهز رأسها بإضطراب تهمس بتهكم:"لا كما تشدقّت وقُلت..علاقة ناجحة يلمسها الجميع الآن ومن قوتها المهندس لم يخبرني لا كمديرة لمكتبه ولا حتى خطيبة!"
كانت نبرته تحمل بعض القسوة وهو يقول:"زوجته لديها ظروف عائلية...وبالطبع لن يستطيع تركها"
نظرت لوجهه الوسيم وهي تشعر بالإعياء والإرهاق العاطفي والعقلي...بالحرب المقامة بداخلها تأكلها أكلاً..لن تبكى..لا أبداً لن تبكي وتمنح هذا الواقف أمامها نصره لحربه...قالت بإستسلام مميت:"بالطبع به الخير..نصف ساعة وستجد كل ما طلبته على مكتبك"
تقبضت يد شهاب بجانبه وشيئاً مكروهاً يهتز بداخله..شعور مبهم ينتابه ثم ما لبث أن تمتم:"هكذا ببساطة..ألن تثوري..تهرعي اليه تحاسبيه او تصرخي كالمعتاد..انها ليست بزوجة ؟!"
أغمضت عينيها وكل جزء فيها يرتعش بحزن عميق ينهي عليها ليتبقى حطام أنثى تمكنت من أن تقول والدموع تفر من عينيها قهراً:"لا..لن أفعل..لقد أثبت وجهة نظرك يا باشمهندس..وأنا الآن أحدثك من داخل سلة النفايات؟!"
إرتد شهاب بردة فعل عنيفة..وشعور أكثر مرارة إلا لما ينتابه..عم الصمت لدقائق لم تعلم مداها..قبل أن تقف من على مكتبها بأطراف مرتعشة تمر من أمامه متوجهة الى مكتب أيان وهي تهمس بضعف:"مبارك عليك حربك لقد ربحت بأقتدار...ولكن لدي كلمة لك قد تكون الاخيرة..أنا لم أفعل ما يضرك او يؤذيك..فلماذا تصر أن توجه جميع أسلحتك الى صدرى..ما الممتع فى مراقبتك لي أسقط الى الهاوية؟"
لم تنتظر منه رد بل هربت داخل الباب المغلق تاركة إياه ولأول مرة في حياته يشعر انه يتخبط داخل بحر عاتي يجذبه لدوامة لن يكون لها بداية او نهاية!
*******************
"هل أنت بخير"أشار بها فور أن احتل مقعد القيادة..فهزت رأسها بملامح حزينة موافقة..تتذكر عدم تركه إياها منذ أن وجدها فوق سطح عمارتهم القديم..يأتي الى منزلها بشكل يومي..يسأل عنها ومقدم كل ما يستطيعه من مساعدة حتى انه يقف بجانب أركان مستقبل التعازي من بعض معارف والدها الذي ظل لبضع أيام يتدفقون...مد يده يحتوي كفها الباردة بين يديه في تربيته رقيقة..وملامحه تخبرها أنه يحتويها..يشعر بها..يتفهمها دون أن تنطق...غيرت مجرى الأجواء الكئيبة السائده وهي تقول بنبرة الألم:"لماذا يصر بوجع ديالا حتى بعد أن ذهب؟!لقد ترك كل شيء بإسمي حارمها من حقها الشرعي"
لم يأتيها الجواب على الفور بل أغلقت ملامحه تماما بقتامة معتادة قبل أن يشير بجمود:"أعتقد أن الأمر لا يمت لديالا بصلة..بل ما فعله رغبة منه أن لا يحصل أركان على أمواله"
أحست بالدموع تعود تحرق عينيها..وهي تفتح الملف الذي بيدها بآلية..تنظر لوصية والدها الغير عادلة أبداً بقهر..ثم تعود لتجذب تلك الورقة التي خرجت مزيلة بتاريخ وفاته..
لقد رحل!كيف ولماذا هكذا ببساطة رحل تاركها لألم لا يحتمل لقد أبعدته عنها..عافرت أن تتحداه أن تريه قوتها التي كان يتهمها بعنادها رحل قبل أن تزيح كل الحواجز التي أقامتها..مات دون أن يخبرها بإعتذار واحد على تحطيم حياتها طوال عمرها..تركها دون أن يراضيها بكلمة ربما تشفع لها عنده..
مد أيان أنامله يلمس كتفها برفق إلتفت اليه بعينين إغرورقت بها الدموع..فأشار بتفهم:"أنت غير مسئولة عن تصرفاته رانيا..وهو لم يكن ليتغير..أبداً"
"لماذا رحل؟كيف له أن يكون بكل هذة القسوة؟ إبتعد عنا عمر بحاله وبعدها يذهب هكذا ببساطة دون أن يلتفت لمصاب كل واحدة منا!"
"وهل للإنسان اختيار في موعد تسليم روحه رانيا؟!"
أخرجت شهقه مكتومة وهي تقول:"لم اقصد..انا !"
"تشعري بالضياع..ببعض الهزيان..أعرف"
أشار بهدوء..ثم أخذ نفس عميق وأكمل:"الموت والفراق..ليس بالشيء السهل لنتقبله..وأياً كان ما فعله بنا هذا لن يغير حقيقة أنه والدك"
قالت بإهتزاز:"غريبة الحياة..بل وغريب ما يفعله سلطان الموت..انت من بين البشر من تقول هذا!بل وتقف في جنازته مساندنا"
عبس بملامحه وبان عليه السخط الشديد قبل أن يشير بغلظة:"وكأنك لم تعرفيني!أنا لن أشمت في موت أحدهم..كما انى كنت أساندك انتِ وأختك وليس الميت الذي أزيح فوقه التراب"
مدت يدها تمسح دمعها بنوع من العنف وهي تقول:"لم اقصد ما فهمته..بل أتعجب من حرب أبي عليك انت وأركان..وانظر الى حالنا الآن"فردت ذراعيها مشيرة بشكل تخيلي على الظروف وما وصل اليه جميعهم..بشرح مختصر!
عم صمت مهيب للحظات طويلة..قبل أن تقول رانيا بمرارة شديدة:"لماذا أشعر وكأن قطعة من روحي دفنت معه ذوت وماتت..بأني وحيدة..ظهري مكشوف أقف في معترك الحياة وحدي دون حماية وسند"
وهل قدم هو ما تقوليه..هل وجع الموت والفراق يعمي الانسان عن الحقائق وما عانته مع والد فاشل متغطرس مثل والدها..أخبر نفسه بصمت دون أن يجرؤ ويخبرها لها صراحةً..تحركت يديه مرة أخرى يحتوى كفيها بين أناملة يضغط عليها بشدة..ثم أشار:"أنتِ لستِ وحدك..انا هنا"
لم ترد لوقت طويل شاعرة بقلبها يهدر بعنف بين أضلاعها..أغمضت عينيها تستمتع بقربه بحنانه ودعمه بملامحه الرجولية الحازمة التي ينبثق منها الرفق الاهتمام..الطمئنينة فتشعر رغم كل شيء بأن داخلها يعود للحياة والدفء ببطء..بطء لذيذ وممتع ومؤلم في آن واحد....
حبست أنفاسها عندما لانت نظراته..وبرق فيها شيء جعل قلبها يرتجف..يده كانت أكثر ثبات من مشاعرها المتعثرة..وهو يمسك بيدها مره أخرى يتلمس معصمها بإبهامه..رأت حلقه يتحرك مبتلع ريقه بصعوبة وكأنه يقاوم شيء ما يريد فعله او قوله لم تحاول دفعه ليخرج ما بداخله مكتفياً لوقت طويل بتشرب وجودها بين يديه قريبة..قريبة جداً كما لم تكن خلال أشهر يبثها بعمق مشاعره المفعمة بحبه بحنانه وإحتوائه..وكأنه يصر أن يمنحها أكبر قدر من الطمئنينة..أن ينتشلها من احساس الضياع والفشل الذي تغرق فيه حتى ما عاد منها شيئاً تعافر لانقاذه..تحركت أصابعه مرة أخرى يشير..بنفس صعب:"لا تتكلمي عن الوحدة او الظهر المكشوف مرة أخرى..وأنا معك..أنا لن أتركك أبداً"
******************
رغم انها تشعر بعالمها يهتز يمحى فتكاد تنهار تماما تحت قدميه متوسلة اياه حب تعشمته قرب وعدها به وأغراها أن تحارب من أجله...ولكن كان من الغريب أن تبدو بكل هذا الثبات أمامه...كيف تكون صحوتها تلك تحيي كرامتها وتقتل روحها في آن واحد...
لاحظت أنه يحدق بها الآخر يكاد يتخبط من الحيرة وكأنه يحاول إيجاد كلمة ما يبدأ بها حديثه...فقطعت هي جدار الصمت وقالت بصوت أجش:"لديّ ما أريد قوله"
أخذ هو الآخر نفس عميق قبل أن يشير بكلتا يديه:"لديّ أنا الآخر ما أريد إخبارك به ولكن.."
بان على ملامحه التردد ولكنها من بين كل دموع الألم والإحساس بالنقص بالدونية..رأت بوضوح انه خلع ببساطة محبس خطبتهما! إبتلعت تلك الغصة في حلقها وهي تقول بهدوء كلفها كل ذرة ثبات بداخلها:"الأمر لا يحتاج لذكاء خارق يا بشمهندس...ولأسهل عليك الأمر أعتقد أن ما قررته أنا هو نفس قرارك!"
إلتمعت عينيه الخضراويين بنوع من التعاطف..وعاد لتردده قبل أن يسحب ورقة يبدو أنه كتبها في وقت لاحق..وقدمها لها بصمت تام..
تناولتها ساره بأيدى مرتعشة..تكاد تقتل في التو واللحظة من فرط الوجع..ولكنها فتحتها علها تجد ما في كلماته التي تتوقع قسوتها..شيئاً يدفعها للتشجيع لتحفظ آخر ذرة في كرامتها:"مهما أخبرتك من أسف لن أستطيع محو الإثم الذي إرتكبته في حقك على مدار أشهر..لقد حاولت ويعلم الله وحده أني حاولت بكل طاقتي أن أجعل تفكيري يتمحور حولك..ان أتخلص من طيفها أن أشعل قلبي بالقسوة نحوها..ان أوجه كل نبضة مني نحوك..ولكن لم أستطع..لا أعرف ما أخبرك إياه أعلم أني أذيتك بإعطائك أمل واهي ولكن انا حقاً لم أكن أنوي ظلمك..ما في نيتي تجاهك..كان منحك اسمي ونفسي وبناء بيت كما حلمتي وخططتي..ولكن ما إكتشفته أنا رجل ملك إمرأة واحدة!"
لم تستطع الإكمال رغماً عنها أطبقت على الورقة بعنف صدرها كان يلهث طالبة للهواء شعرت به يقف أمامها..محاولاً أن يتواصل معها..إبتعدت عنه خطوات بعنف مشيرة بذعر:"لا..لا أريد لا تعاطفك ولا قربك"
عم الصمت في أرجاء المكتب ببطء رتيب مشحون بأجواء كئيبة
قاطعته سارة بعدها وهي ترفع وجهها الشاحب الذي شابه قطعة سوداء بالية...ثم تمتمت:"أنا لا ألومك..أنا من أذيت نفسي عندما منحتك كل إهتمام أوقفت حياتي عند كلمة واحده فقط منك...أنا من خذلت نفسي بنفسي"
شعر أيان بالقلق وهو يلاحظ شحوب وجهها الذي زاد وكأنها تختنق..روحهها تعافر لتغادر جسدها...
إختفى كل العالم فجأة وهي تشعر بأنها إمرأة عجوز وحيدة تشحذ الحب من رجل كان كصخر جبل قاسي لم تستطع حتى خدش قشرة منه..بأنها كسيرة القلب والفؤاد ولكن من يهتم..
بآليه شديدة كانت تسيطر على إرتجاف كفها وهي تمدها تسحب محبس الخطبة..ثم تقدمت خطوات ترميه في سلة المهملات دون تفكير...
إلتفت لأيان الذي إرتد للوراء بذهول ولكنه سرعان ما سيطر على ملامحه محاولا أن يتفهم موقفها ولكنها صدمته وهي تبتسم بسخرية تخبره من بين دموعها:"العذر منك..الأمر لم تكن أنت المقصود به..بل هذا المكان الطبيعي لكل فتاة مثلي تحاول أخد مكان ليس لها"
حاول أن يجد أي كلام يعزيها به يجبر بخاطرها فلم يعثر على شيء قد يحتويها...تمتمت سارة من بين سحابات الألم التي كانت تلف حواسها:"عتبي عليك شيئاً واحداً..طالما هي تملكك لما أدخلتني في حرب ليس لي فيها طاقة لما أوهمتني بكلامك القاسي عنها أنك بترتها من حياتك..."
راقبته ينوي أن يجيبها ولكنها قاطعته سريعاً وهي تقول بحرقه:"لا أريد أن أعرف..العتب ليس عليك يا أيان..بل أتحمل كل الوزر وحدي فأنا من ألقيت نفسي من البداية في تلك النيران واهمة نفسي بوهم من سراب"
ودون إنتظار رد أو كلمة إضافية كانت تخرج مهرولة..تاركة إياه يشعر بالندم..والراحة التي لم يستطع إخفائها!"
********************
وقف أركان أمام النافذة يتكئ على إطارها بذراعه يتأمل تلاطم أمواج البحر الظاهر من بعيد...بينما كل فكرة شاردة مع كلتاهما!
لقد أتى موت مختار في هذا الوقت بالذات بشكل مفاجئ دون مقدمات او حسابات كعبرة لهم...وتحطيم كلا من رانيا وديالا وكأن ما نطق به وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة..يصر أن يرجع طفلتيه لنقطة الصفر!وكأن ما حققتها كلتاهما على مر أشهر طويلة..سراب ولم يكن.
"الشاي سيبرد"نطقتها رانيا تجذبه من أفكاره.
لم يلتفت اليها وهو يقول بهدوء:"أفضل أن أنتظر ديالا"
أخذت رانيا نفس عميق قبل أن تقول بآلية:"لا أعتقد أنها ستستيقظ الآن"
إلتفت هذة المرة وهو يقول بنبرة حيادية:"أريد الحديث معك وهي...في أمر هام"
أخذت رانيا نفس عميق وهي تقول:"إذن سأذهب إليها وأخبرها"
مسح وجهه براحتيه وهو يأخذ خطوته يسبقها وقال:"لا سأفعل أنا..أين والدتك"
تراجعت رانيا تجلس على المقعد ورائها..وهي تقول بثبات:"ذهبت لتزور قبره وحدها"
تأملها أركان للحظات بملامح مغلقة..متذكر عندما أتى بها أيان ليلتها قرب الفجر..في حالة يرثى لها ضائعة مشتتة..في حالة من نكران الواقع..ثم إستيقظت بعدها بحالة غريبة من الثبات..تدعي قوة يعلم جيداً كذبها وكأنها ترفض الإستسلام والإعتراف بالحقيقة تحمي نفسها من نوبة إنهيار أخرى..لن تقوم منها أبداً..ولكن إلام تفعل..بحالتها تلك؟!
شاء أم أبى يبدو أن عاتق ما يحدث سيتحمل هو تبعاته..فتح باب الغرفة..يخطو الى الداخل توجه الى الفراش الضيق..وتمدد بجانبها يضع إحدى ذراعيه تحتها والأخرى تلتف ببطء من فوقها ثم جذبها اليه يلصق ظهرها بصدره وهو يقول برقة:"التظاهر لا يجدي أمامي..أنا أحفظك"
إلتفت برأسها..تتشرب الحنان من ملامحه الحبيبة..ثم همست:"لم أكن أتظاهر..ولكن هذا المنزل أصبح يطبق على أنفاسي..يغمم على روحي بحزن لا أحتمله فألجأ لإدعاء النوم"
مد يده يلامس وجنتها الناعمة..ثم إنحنى قليلا يطبع قبله على جبهتها وهو يقول بلطف:"إذاً توقفي..عن القدوم الى هنا...لقد مر أكثر من شهرين حبيبتي"!
تمتمت بصوت مختنق:"لا أستطيع ترك أمى ورانيا..نحن نحتاج بعضنا"
قال بصوت أجش:"لقد مر وقت كافي على ما حدث..ولا اعتقد أن إحداهن ستعترض إن طلبتى منهن القدوم لمنزلنا بالنهاية..حملك هو الأهم للجميع في الوقت الحالي"
اهتزت عينيها للحظات كاشفه أسبابها الحقيقية لإصرارها تأتى يومياً الى هنا..ولكنها قالت بتهرب:"أتظن هذا..أعني أمي!
صمتت ثم إستدارت بعيداً عن عينيه تدفن وجهها في ذراعه الذي امتد ليضعه تحت رأسها..مما دفع أركان ليأخذ نفس بسيط مفكراً قبل أن يقول:"رانيا في الخارج تنتظرنا..يجب أن نتحدث في كل ما هو مؤجل"تمتمت بصوت مكتوم من فوق بشرته:"لا أريد..يا أركان..لماذا لا يريد أحدكم أن يصدق أني بخير"
"لا لست بخير..ولا رانيا بخير..الحياة لن تتوقف عند موت أحد"
إحتدت:"توقف..أخبرتك لاأريد"
سحب نفسه من جوارها ثم قال بتلك النبرة الحازمة التي تعلم عدم الجدال فيها:"الأمر لم يعد بإختيارك لقد تركتك تفعلي ما تريدي لوقت طويل..ولكن عندما أقرر إنهائه لحمايتك وطفلتي..لن أستمع اليك او لغيرك"
كانت ديالا شبه هائجة وهي تهتف بغضب محتد:"أخبرتك اني لا أريد شيئاً منه لماذا تصرين على فعل هذا بي"
تنهدت رانيا بتعب تنظر لأركان الذي جلس بجانب زوجته يضع يده على وجنته يتأملها بصمت.."تدخل لا تجلس صامت هكذا...انا تعبت من عقلها اليابس"
هز أركان كتف واحد بقلة حيلة ثم قال بصوت خشن:"هذا الأمر بالذات..ديالا وحدها هي المسئوله عن أخذ القرار به"
شهقت رانيا بإستنكار وهي تقول:"ما الذي تتحدث عنه ألم نتفق انك ستقنعها بأخذ حقها في الميراث!"
هز أركان رأسه بنفي شديد وهو يقول بجفاف:"أبداً..لم أوافقك على هذا..بل أردت جمعكن للحديث فى أمر آخر حتى وان كان ما ستسمعنه قاسيا ومرفوض ولكن لن أستمر في الصمت"
رمشت رانيا بعينيها محدقة فيه..وهي تقول:"ماذا تقصد..وهل بقي ما نتحدث عنه"
خلت عيناه من أي تعبير وهو يقول بنبرة خشنة خالية من اي تعبير:"بلى...سنتحدث عن ليلة موت والدك..والحديث الذي جرى منه يومها لديالا أو وصيته التي تركها بإسمك وحدك"
تولت ديالا الرد وهي تقول بشحوب مرير:"وماذا قد يكون لديك عن ما حدث..لقد أبعدني والدي عنه..ونحن شردنا منه غير مقدرين أو متناسين أن الموت قد يأتي على غفلة..يسرق كل شيء دون حتى أن يمنحني فرصة للحديث للتسامح..تارك ورائه ندم عميق..لن نستطيع محوه أبداً"
قال أركان بصوت أجش:"والدك لم يكن ليتغير يوماً يا ديالا..هذا هو طبعه..نظرته لكِ وأختك..تحقيره لي ولأيان..نهمه للدنيا وإصراره على التحكم فيكن"
ساد صمت تخلله أنفاس كلا الفتاتين عالي صاخب وكأن كل منهم ترفض ضمنياً ماهو قادم وسيقوله هذا الرجل..دون مواربة....
وجهه كان مثالا للقسوة..للتباعد عن التعاطف وهو يقول بلهجة باردة وكأن ما سيقوله ويوجعهن لا يستطيع أن يتعامل معه:"ربما أحبكن مختار بطريقته الخاصة انا لن أستطيع نفي هذا ولكن حتى وهو يموت يترككن للمجهول كفرع يابس ضعيف في مهب الريح...لم يقاوم أن يعيد كل واحدة منكن لنقطة البداية..للصفر وكأنه يبغض بشدة ما وصلتن اليه أخيراً بعيداً عن سلطته..لقد أراد تدمير كل ما وصلتنّ اليه..ليثبت وجهة نظره عليكن"
إنسحبت الدماء من وجه رانيا وهي تقول من بين أسنانها ضاغطة على حروفها:"كيف تجرؤ..أنت تشوه اعتراف ميت..كيف تستطيع أن تقف بجبروت في وجهنا وتخبرنا بهذا؟!"
لم يتنازل أركان وهو يهب من مكانه يقف بشكل متصلب..وقال بصوت مشتد قاصف إياها:"وانتِ كيف تنكرين كلامي الذي تعرفيه جيداً..لقد أراد مختار الزيني أن يعيدكن لسجنه حتى وهو ميت..أنظري لحالك انتِ وأختك الذي عاد أسوأ من الأول..أنظري لعيني رانيا وأخبريني اني كاذب"
هتفت بعنف مدافعة رغم علمها جيداً بكذب حجتها:"أن أراد هذا كان ترك نصيب ديالا وحدها حتى تستقل مادياً بعيداً عنك حتى ترثيه وربما تنفصل عنك...لا كما حدث وترك كل شيء لي"
صرخ بخشونة:"إن كان ملك الوقت..كان ليفعل"
صرخت مثله:"أنت تتجني على أبي"
"وانتِ تكذبين على نفسك..تريدي تصديق كذبتك..وكأن الرجل الذي أبعدكن عنه طوال حياته..لم تعرفيه قط..ولمعلوماتك ان كنت مازلت زوجة لأيان او حتى هناك أمل للرجوع أقسم لك ما كان ترك لك جنيه واحد"
تلاحقت أنفاسها وهي تقول بصوت هستيري عاجزة عن مجاراته او إنكار حقيقة تعرفها:"هذا ظلم..حجتك باطلة لقد أحبنا أبي..وأراد إصلاح كل شيء..لقد أخبرني مراراً انه يحب ديالا و أحبني"
كانت ديالا تنظر لكليهما وهي في حالة يرثى لها من الضياع..لم تستطع أن تشرك أحدهم في الإحتجاج أو الموافقة..تنظر بتعب يخالطه القهر وكأن..وكأنها تنتظر أحدهم ينتصر في هذا السجال..لتأخذ جانبه!"
بشكل عجيب ومثير للإرتياب والدهشة هدأت ملامح أركان تماماً وهو يقول ببطء:"أنا لم أقل أنه لم يحب إحداكن..ولكن لم أرى ما تتحدثي عنه أبداً عندما وجدتها أول مرة..."
أشار لديالا في تعبير ضمني ملوح بكلا كفيه ثم أقرنه بالقول:"كانت تفتقد ما تتحدثي عنه..منزوية منعزلة ومنبوذة منه ومنكم جميعاً..لقد كانت أختك لقمة سائغة لمن يحاول..أذكر أن ما كانت تتعطش له ديالا مني كانت بضعة كلمات لا تعني شيء..ولكنها كانت جائعة اليها..بضع كلمات رانيا لم تحتوي إلا حنان وتفهم وإستماع لصخبها منحها ما يدفئ قلبها..إنها مرغوبة ومحبوبة أي أن كانت عليه شخصيتها...أشياء لم يمحنها لها والدك تارك إياها في مهب الريح"
قالت رانيا بنفاذ صبر:"أنا لن أتحمل هذا الهراء حتى وإن كان صحيح"
حسناً ان كان بنات مختار الزيني يتشابهن في شيء فمؤكد جينات العناد والتخلف ؟!أكمل أركان ببساطة:"إحزني على والدك كما تريدي حتى هي لن أمنعها أبداً...ولكن لن أسمح لإحداكن أن تعيدنا لنقطة الصفر..ان تسمحن له بتدميركن حتى بعد أن ترك العالم"
صمت ثم أضاف بإستنكار صريح غير مراعي لمشاعر أحد:"بالله عليك أي حب هذا وأي سماح وهو على فراش الموت..لقد كاد أن يقتلني حرفياً ويقتل أختك عندما علم بخبر الحمل..أبوكِ أمل حقاً أن أطلق أختك او تتركني"
"يكفي"همست ديالا بتعب...
اقترب أركان من جلستها..وركع على ركبتيه أمامها يمسد شعرها بحنان دافعه للوراء وهو يقول برفق:"أنا أسف...ما قُلته يؤلمني قبلك ولكن انا لم أعد أستطيع تركك وإياها تدمرن أنفسكن بعد كل ما عانيناه"
قالت بصوت أنهكته العاطفة:"انا أتألم"
قال أركان بصوت ثقيل:"هل تظني اني لا أشعر بكِ...لقد مر الشهرين ببطء للغاية ديالا وانا أراكي تنزوي تبتعدي عني..انا أتألم لألمك للضياع الذي إرتميت فيه"
هبطت منها دمعتين حبيستين وهي تقول بإختناق:"أشعر أن قلبي مثقل بوجع هو غير قادر على إحتوائه..هناك غصة لن تمحو أبداً!"
قال برقة:"هو والدك رغم كل شيء..وانا لم أقل أن تنسيه"
هزت رأسها نافية ما فهمه وهي ترفع كتفيها بإستسلام وقالت:"انت لم تفهم...لقد ظلمني ابي وهو حي يرزق وعاد يؤلمني بفراقه..لم يمنحني حتى فرصة لأخبره الى اي حد كنت أحتاجه كنت ألجأ اليه من الحين والآخر عله يلتفت لي..عل قلبه يحن لي يشعر بألمي..كيف أسامحه على ما فعله..كيف أغفر له كل هذا"
يده كانت تمسد على خصلاتها التي تحاوط وجهها مهما أبعدها عن ملامحها...منحها ابتسامة مطمئنة هادئه وهو يقول بحكمة علها تجد صداها عند كلتاهما:"لأن عليك أن تسامحي مرة واحدة!"
"لا أفهم.."نطقت ديالا

تراجعت رانيا عن وقفتها المتصلبه وعينيها الجامدة ترتخى شيئا فشيئا جلست ببطء درامى على المقعد وهي تستمع لحديثة الهادئ وهو يقول:
"ان اردتى يوماً أن تحصلي على اتزانك الروحي..فيجب أن تسامحي مرة واحدة...ستكون البداية..لتكتشفي ما يحدث بعدها بالتدريج من قوة روحانية ينتج عنها اتزان ذهني ويعقبه اتزان الشعور والأحاسيس..ستتخلصي من كل جروحك ومشاعرك السلبية..ستكتشفي أن العالم أجمع لم يستحق كل تلك الحروب والسعي والتحديات التي ستجعلك تفقدي جزء من نفسك!"
رأسها مالت ضاغطة على كفه تنظر اليه بتوهان محاولة أن تفهم ما يحاول أن يصل اليه تحثه أن يكمل:"يجب أن تسامحي نفسك يا ديالا..لأنك لم تخطئى في حقه..ومن ثم أغفري له.."
رغم قسوة فراق والدك ولكن لديك حكمة..يجب أن تعلمي أن الحياة واحده ليس لها تمثيل افتراضي ستعيده إن أخطأنا..اليوم الواحد بل والساعة الواحدة التي تمر يعقبها فعل او قرار هي الحياة الحقيقية بعينها..فإذا ما انتهيت أبداً لن تعود..إمنحي سماحك للآخرين..يجب أن تفعلي هذا لأننا ببساطة أن خرجنا من هذه الحياة أبداً لن نعود..يجب أن نتقبل ونتعايش مع كل لحظة وكأنها أخر لحظة من حياتك"
إتسعت عيناها الغارقه بالدموع وهي تهمس:"كيف...الأمر لا يبدو بهذه السهولة"
اخذ نفس عميق وهو يقول بصوت رخيم:"سنبدأ تدريجياً..وأعدك أن كل هذا الحزن سينذوي يوماً ما بعد إدراكك للحقائق..بعد أن تصلي لإتزانك الروحي والعاطفي..بعد ان تعودي انتِ وأختك لمكان ما بدأتن وتكملن طريقكن وحياتكن بشكل صحيح هذه المرة دون عثرات"
*********************
يجب أن تسامح مرة واحده
أم يجب أن تترك مرة واحده ؟!
او ربما مرات!
قد ينجح الأمر مع تسامحك الداخلي لنفسك !
تترك كل شيء خلفك تتحمل نتيجة أخطائك وحدك..
قد تكون مسامحة النفس هي الاصعب ولكنها هي الأسلم لصحتها العقلية والجسدية..هي أخطأت وأقرت وإعتذرت ولم تتوقع أبداً أن ينسى أحداً ما فعلت..ولكنها كانت ترجو المغفرة ولم تحصل عليها أبداً!وهي رغم كل شيء قررت أن تمنح نفسها الغفران لما فعلت..وقد نالت جزائها بالفعل..خسارتها إياه الى الأبد.
من هنا فقط ولأجله وحده قررت أن تمنحه الحرية منها..وعزمت على الإبتعاد عنه..هو يستحق منها تلك التضحية بل يجب أن تقوم بشيء شجاع لمرة واحده..أيان لا يمكن أن يدفع معها الثمن!
(لا تتوقع الكمال من نفسك..بل كن واقعياً وتقبل انك ستخطئ مثل كل البشر)
سمعتها ذات مرة وها هي تقتنع بها أخيراً..هي إنسان ضَعُفَ وأخطأ وان كان هو لن يمنحها الغفران..فستقوم هي بالخطوة الأخيرة وتقطع خيط معاناتهما الى الأبد...
كانت شمس المغيب تختفي تحت خط الأفق شيئا فشياً..تاركة ورائها كبد السماء بلون أحمر ينعكس على سطح الأزرق الهادئ الساكن دون جذر او مد دون ثورة معتادة تغرقهم بهمسه الذي يثور كالبركان عاكس حربه الداخليه كما"هما"يمثل لها أخيراً. نهاية رحلتها الطويلة لشعور مدمي معلنة نهاية الصراع..وجلد الذات مقرة أن كل ذلك الكبرياء والحب الاعمى يجب له من نهاية تختم رحلة البداية !
......
"صورة مثالية اخترتي التوقيت المناسب كعادتك"
نظرت لهاتفها الذي عاد يتزين برسالته الدافئه..
وبعكس ما قد كانت تشعربه من دقائق بالقهر يتلون في أبهى صورة! إبتسمت بهدوء بقوة تشب فيها بأول خطوة تأخذها بجدية لتغير نفسها عن اقتناع تام لما هي مقدمة عليه دون حتى أن تمنحه فرصة للتراجع عن قراراها..
إلتفت اليه بكليتها وبنفس الابتسامة الهادئه ردت:"منذ زمن غابر انت من علمتني كيف استمتع بمنظرأفول الشمس وهي تموت في السماء"
رفع أيان حاجبيه بنوع من الصدمة وهو يشير بإستنكار:"التعبير مدمي..لم أذكر أني عبرت لك عنه بتلك الطريقة"
أخفضت رأسها بعيداً عنه كي لا يرى الألم محفور فوق ملامح وجهها..تعتصر الهاتف بين يديها وكأنها تقاوم نفسها أن لا تهرب من أمامه..رفعت يديها تشير اليه بلغته:"أنت عبرت بالكثير..ووعدت بالأكثر..كما أنا منحتك وعود لم تنضب ولكن كلانا فشل وكذب..كلينا لم يُؤْمِن حقاً بما كان يهمس به للآخر"
لفهما الصمت لدقائق طويلة..لا همهمات لا حركة صادرة منها تشير على الرد..ولا هي تجرأت لترفع رأسها وتواجهه!كسر حاجز الصمت وهو يلمس كتفها بخفه..فأجبرت لمواجهته:"هل تلقي باللوم عليّ؟هل أنا من غدر وخان..ملأ أذنك ومدمى قلبك بالأكاذيب؟"
"لا"نطقتها على الفور!راقبت تشجن ملامحه..وجسده كله يتصلب وهو يشير:"لم يصلني هذا مما أشرتي..أم التعبير خانك"
نظرت له بعيني ضبابية تختلط فيها كل أنواع المشاعر..ثم اقتربت منه تبدأ هي بملامسته هذه المرة تأسر كل تلامس تستطيع أن تحصل عليه بينهما..حتى يمنحهما تواصل معتاد لا يحتاج الكثير من محاولات فهم قد تلوذ بالفشل..شفتيها تحركت بهدوء بطئ وهي تقول:"لم يخني التعبير يا أيان بل أتيت بك الى هنا لأنهي تلك المهزلة"
إنتفض ووجهه يلوح بالغضب المحتد يهز رأسه برفض قاطع مشير لرفضه ما توصف به علاقتهما !
تمسكت بكفه أكتر بإصرار ودون أن تدرك ما تفعله كانت تضعها على ضجيج قلبها النازف وهي تقول:"عندما عرفتك صغيرة..انت من منحتني أشياء لم أكن أستطيع ترجمتها في سن صغير لا انا من منحتك..مشاعر كبرت بيننا بالتدريج حب وعشق طفولة يكبر وينضج معنا ولكنك وحدك كنت من القوة والشجاعة والوفاء لتحفظها بقلبك..غير منكس وعدك لي!"
بدأت ملامحه الغاضبة في الاسترخاء..ينظر اليها بتفرس عله يفهم ما تحاول أن تصل اليه...
أخذت نفس طويل وصوتها يتحشرج قليلاً عندما أردفت:"وعندما عدت اليك هاربة من كل الظروف والقيود..محاربة إياه بحبك..انت منحتني رابط وفاء و أمان..ثقة..وعشق لا ينضب ولكن انا قابلت كل هذا بالنكران"
عينيه الخضراويين كانت تنظر لها بيأس وهو يشير بأحد يديه:"لم أعد أهتم بكل ما جرى رانيا..لا تفتحي جروح انا أحاول تخطيها"
شددت على يديه وهي تقول بقوة:"الجروح تنزف بالفعل ولا أنا ولا أنتَ نستطيع تخطيها ومحيها من ماضينا..كل ما حدث كان زلزال حطم كل أساسنا ومبانينا"
مر طيف في عينيه شبيه بالقسوة وهو يشير بتشدق:"أليس من الغريب أن تكوني انتِ من تقول هذا والآن؟!وكأن انا من ظلمتك وغدرت"
تشنجت تعابير وجهها بالألم للحظة قبل أن تعود للسيطرة عليها وتمتمت:"ولكنك ظلمتني بالفعل..يا أيان..او لم تفعل عندما طلقتني دون تفهم..دون الاستماع لي أي عشق هذا وانتَ تخلصت مني وكأنك ترمي إحدى أحذيتك البالية"
إنتفض بعيداً عنها بشيء من الوحشية عيناه الخضراوان كانتا تنفثان ناراً وهو يطلق صرخة مكتومة محتجة مشيراً بسخط:"وهل خيانتك كانت تحتاج توضيح..أنتِ خنتي..خدعتي ولولا خطئك أخيراً ونسيانك تلك الحبوب ما كنت عرفت أبداً..كنتِ إستمريتي في كذبك وخداعي..اللعنه اللعنه"
عاد اليها يمسك مرفقها بتعصب وهو يزمجر في وجهها وكأنه يتنازع ما بين ما يتفوه به الآن وما بين رمي كل شيء خلف ظهره ويضمها اليه بحرقة..يمزجها فيه..يخبرها أنها داءه ومرضه الذي ليس منه شفاء..أفلتها وهو يشير بتعثر كسر حدة غضبة:"لقد لوح الطبيب لأشهر بأن العلة فيكِ..بأنكِ تلجأى لحيلة تمنعك من حمل طفلي بين أحشائك..وأنا رفضت الاستماع والتصديق بكذبته ونهرته..كنت من الثقة والإيمان فيكِ انكِ لن تخونيني..بأنك ستحاربين العالم من أجلي..حبييتي لن تنظر لي بعين النقص وتطعن كبريائي ورجولتي بما هربت منه طويلاً"
شحب وجهها وهي تدرك كل كلمة يشير بها تفهم معاني جرحه وحطامه منها..اقتربت خطوة قاطعة المسافة بينهما لتستحيل إلى ابتعاد معدم أمسكت وجهه بين كفيها تواجه عينيه بإصرار..ورغم الظلام الذي بدأ يسدل ستاره..كانت قادرة على رؤية ملامحه تتشنج وكأن ما يستعيده من مرارة تطعنه في قلبه مباشرة دون رحمة..
"أنا أسفة"
أشار بقهر:"وهل هذا سيشفي جراح كلانا"
همست:"ليتني أستطيع التراجع عن ما فعلته ليت الزمن يسمح لي بالعودة للوراء..بتصحيح نفسي حتى أستحق رجل مثلك وأكون قادره على إحتوائه..ليتني أستطيع العودة لدقيقة فقط..دقيقة واحدة يا أيان لمنع نفسي من أخذ هذا السم الذي قتلني قبل أن يحطمك"
أشار بتأكيد من بين ساعديها التي تحاوطه:"حطمني وحدي رانيا كنتِ من القسوة أن تؤكدي نظرة مجتمع كامل لي بأني لا أساوي أي شيء"
تدفقت الدموع من عينيها ولم تدرك انها كانت ترتعش..كفيها الناعمتين تضغط أكثر على وجنتيه..ربما يشعر بأحاسيسها المتخبطة لتعاستها و لخسارتها..وقهرها بفقدانه قبل فقدان..أغمضت جفنيها بحرقة وهي تقول أخيراً:"لا بل انا تحطمت مثلك بل قُتِلت يا أيان..اذ أن هذ السم سيحرمني من أمومتي..لن أرى صغيرمني وأشعر به يداعب أحشائي أبداً"
عضلات وجهه كانت تنتفض..حرك رأسه يمين ويسار بعدم فهم..عقله تحول لكتله من الضباب متوقف تماما عن العمل..مؤكد أن هناك خطأ ما هناك خيارين مما وصل لعقله أحدهما انه لم يفهم حقاً ما تقوله وفقد بضع كلمات الحقيقة او الأخر انها تهزي بتشبيه فيه بعض المبالغة....
قبل أن يقدم على أي استفهام او رد فعل..كانت هي تقول بملامح فضحت الجرح الذي لن يلتئم أبداً داخل قلبها:"انا لن أنجب يا أيان..لقد دفعت ثمن ما فعلته بكلينا"
أحس أيان وكأن قبضة تعتصر قلبه..وكأن حمل ثقيل قد وضع على كفيه بأن أنفاسه حشرت غير قادر على إلتقاطها وهو يشير:"ما الحماقة التي تتفوهين بها..هل جننتِ انت سليمة تماماً بل كان بإستطاعتك أن تحملي بعشرة في بطن واحد لولا فعلتك الغبية؟!"
أسقطت كفيها بعيداً عنه وكتفيها يتهدلا بإستسلام وهي تقول:"كان يا أيان والماضى لا يعود..حبوب منع الحمل التي تناولتها دون استشارة طبية دون أن أسمح لنفسى بحمل أول طفل منك..قررت أن تعاقبني بطريقتها فأُصِبت بمرض يمنعني من الإنجاب إلا عبر عملية جراحية إن قمت بها أيضاً نسبة خطورتها العالية ستمنعني من الإنجاب أبداً"
حبس أيان أنفاسه وهو يرى الدموع تحتشد داخل مقلتيها من جديد وهي تقول:"طبيبنا هو من أخبرني بنفسه...على كل حال أنا لم أتي الى هنا للمزيد من استعطافك..بل لأحررك مني وأخذ أنا الحل الباتر بدل عنك"
كانت أنفاسه تتلاحق وهو يشير اليها وقد أوشك على التوسل:"تكذبي..مستحيل أن أصدقك أن أثق بما تقوليه"
نظرت إليه..تُقر الألم الفاضح فوق معالمه..متذكرة ما فعله بها خلال أشهر قسوته إتهامه اياها..نعتها بالخيانة بالعطب والنقص وأخيراً تعليقها بحبال هواء بالية ليس منها رجاء ولا أمل:"هذا هو تحديداً ما دفعني أن أتخلى عنك الآن وأقطع عليك الطريق هذه المرة..الى هنا وكفى يا أيان انت لن تثق بي أبداً..وانا لم أعد أأمن جانبك"
لم تعلم تحديداً ما الذي حل عليه فجأة وهو يشير بنوع من التوهان:"ما الذي تقوليه..هل تلك فعله لعقابي الإنتقام مني لإخباري الى أي حد جرحتك"
رمشت بعينيها وهي تنظر اليه مجفلة ثم قالت بشحوب:"لا أنا صادقة..لا أريد عقابك اذ أن لم يوجد ما أعاقبك عليه..بل أنا أتيت لأخبرك بحقيقتي..حتى تجد القوة أخيراً للإبتعاد عني..انا خنتك كسرت إيمانك بي..حطمت الثقة غير المشروطة التي منحتها لي..وأخيراً أنا لن أنجب..وانا أعلم الناس كم تتوق روحك وتشتاق أبوتك لطفل من صلبك؛ لذا أنا أنسحب يا أيان سأغادر من هنا..من تلك المدينة التي كانت من القسوة أن تمنحني كل شيء..وفجأة تصفعني بحرماني حتى من أنفاسي التي أحياها من أجلك"
نظر إليها صامتاً عيناه الخضراوان تحركتا بتعبيرهما الجامد..تابعت رانيا بإهتزاز:"أنت لم تتخلي عن امرأة أخرى تربطها بك..وأنا ما عدت قادرة على التعامل مع تلك النيران..خاصة واني أعرف أنها ستمنحك ما تطوق اليه روحك"!
أطلق ضحكة مريرة وهو يشير بخشونة ساخرة:"رائع متى أصبحتي فدائية لهذا الحد ستتركيني لأخرى ستضحي من أجلي"
قالت بحرقة وبدون تفكير:"بل سأموت..سأموت يا أيان يوم أن أعرف أنك تزوجتها أخيراً يوم أن أدرك أنك منحتها ما هو لي يوم أن أتأكد بأنك لمستها كما كنت تلمسني..يوم أن أعلم أنها ستحمل طفلك الذي حرمت أنا منه!"
كلماتها كانت تطعن قلبه كما فؤادها..مرة بعد مرة اذ يدرك كلاهما الآن ان إخبارها بموتها ليس إستعارة او تشبيه مبالغ بل ستقدم على الموت بنفسها إن لم يأتيها فتخيله مع أخرى حية..ألم يوشك على الجنون القتل وهو يتخيل أخر من الممكن أن يضع إصبع واحد عليها!
تجمد الزمن حولها وكأن الآخر فقد حاسة التعبير عن نفسه..ما الذي يجب أن يقوله في حالة الضياع التي عادت رانيا ترميه فيها دون مقدمات دون انصاف..لقد كان يتوق خلال الفترة المنصرمة للوقت المناسب الذي يخبرها به عن إنفصاله وأنها إمرأته الوحيدة..أن بعدها لا طعم للنساء ولا مذاق أبداً..عن انه رجل لإمرأة واحدة كما هي له وحده !
وكأن صمته عقب جملتها تلك منحها اجابة أخيرة باتره..بأنه مؤكد تخلى عنها اخيراً ونفض يديه منها..لقد كان مصدوم يتألم..ولكن حبه اياها لم يكن بالقوة الكافية اذ هو طلقها مرة واستمر ما يقارب العام في جرحه اياها في دعسها دون الالتفاف لما تعانيه..اذن ما الذي يجبره للاحتفاظ بإمرأة أشبه بعاقر!لم تتمكن من البقاء اكثر تحركت من أمامه ماره بجانبه تنوي الرحيل فتحركت كفه قبل أن يمسك يديها بقوة يجذبها اليه يشبك أنامله في أصابعها يضغطها بشدة..كانت انفاس كليهما عالية صاخبة بضجيج متألم كل منهما يعيش حربه الداخلية التي لم تصل للآخر تفاصيلها همست بكلام لم يصل الى عينيه وهي تدفن وجهها في كتفه:"انا أحبك..أمنحك غفراني بدلاً عنك..لأني أحبك أفعل هذا وأمنحك فرصتك العادلة في الحياة التي تستحق لأني..أحبگ"
ودون كلمة أخرى كانت تسحب يدها منه نازعة نفسها عنه وغادرت بغير رجعة تاركة إياه يصارع إعصاره!
*******************
"أنت تعودي لكسر وعودكِ معي تتخلي عني وانا في أمس الحاجة اليكِ"
اغمضت رانيا عيناها لبرهه..ثم تركت الملابس التي تضعها في حقيبة سفرها المفتوحة..تتوجه الي ديالا تربت على ملامحها المتعبه وهي تقول بهدوء:"لقد تحدثنا في الأمر على مدار أيام..أنا يجب أن أغادر من هنا الأمر فوق إحتمالي يا ديالا"
قلبت ديالا بسخط وهي تتمسك بكفيها:"تباً له..انتِ أقوى منه لن تغادري وتتركي كل أحبائك من أجل قاسي مثله!"
أخذت رانيا نفس عميق قبل أن تجلس بجانبها على طرف الفراش وهي تقول بهدوء:"هو ليس لديه أي دخل هذه المرة أنا من قررت الإبتعاد عنه ومنحه فرصة يستحقها بعيداً عني"
أفلتت منها شهقة الألم وهي تهمس:"اذا كان إختيارك لماذا تبتعدي؟"
همست بصوت مرتجف:"لأن موعد زواجه اقترب جداً كما أعلم..أنا لن أستطيع التعامل مع كل هذا الألم يا ديالا..لا قدرة لي أبداً أن أبقى في نفس المدينة التي تحمل ريحها رائحة خيانته لعهدي"
تابعت ديالا بقهر:"وهل نفي نفسك في بلد ووطن بعيد هو الحل؟!"
صمتت ثم تابعت بتوسل:
أرجوك أرجوك ابقي معي؛انا أحتاجك..من سيقف بجانبي وأنا أضع طفلتي ألم تعديني بأنكِ الوحيدة التي سترعى شئون صغيراتي"
قالت رانيا بحنان:"لديكِ والدتنا..ووالدة زوجك..ولديك العالم كله الذي يحتويه لك أركان"
صمتت ثم أضافت متصنعة المزاح:"لا تكوني أنانية لديك كل هذا..وتريديني ايضاً"
همست ديالا:"ولكن أنا أريدك أنت..صديقتي وأختي وجزء من نفسي..لا أحد يساويك رانيا"
قالت رانيا بصوت فضح حرقتها:"أكررها لكِ اكتفيت من هنا لن أستطيع التواجد معه مصادفته هو وهي..أخبرينى لو كنتِ مكاني هل كنت ستتحملي؟!"
زمت ديالا فمها بضيق بينما ملامحها تقسى بجرح قديم رغم تخطيها اياه مازال يغور في جزء من روحها لن يندمل ابداً:"لقد مررت بالفعل..كنت مازلت زوجته وهو يقيم ل زفافه الآخر..لقد رأيت بعيني لحظات عقد قرانه عليها..ولكني لم أخبره قط ولم أهرب مثلك!"
تنهدت رانيا بتعب وهي تقول برفق:"التسامح والتوازن الذي وصل اليه كليكما جعلني أنسى بالفعل...لذا أرجوكِ لا تنخرطي في الماضى لقد ولى يا ديالا"
قالت ديالا على الفور:"وهذا ما أحاول قوله يمكن للألم أن يمر وجروحنا أن تشفى..نتخطى العثرات وننجى من السقطات ولكن ليس بالهروب مثلك بل بالمواجهة الصمود القوة والمحاربة !
لم تستطع ان تجادلها أكثر اذ أخذت قرارها بالفعل فمالت تضم أختها بين ذراعيها وهي تقول:"سأشتاق لضمك اليّ يا ديالا..أرجوك من أجلي ؛ لا ترفضي ما سأحوله لك من حقك الشرعي "
تشنج جسد ديالا كالمعتاد عندما تأتى على مناقشة الأمر..ثم ما لبثت ان قالت بجفاء:"انتِ واهمة ان إعتقدتِ أني سأمد يدي على قرش واحد من أموال والدك"
"والدنا"همست رانيا بتأكيد..
قالت ديالا بصوت مكتوم:"والدنا..ولكني لن أقترب من هذا المال رانيا..لقد أراد بالفعل ان لا أحصل عليه ورغم أني أحارب نفسي الأن لأسامحه ولكني أبداً لن أقترب على قرش واحد منه.."
نهضت أمام عينيها تغادر الغرفة بتعصب ثم إلتفت اليها تخبرها صارخة بطفولية:"ان رحلت أنتِ الأخرى لن أسامحك أتفهمين..الهروب لغة الضعفاء..وانتِ كما قال أركان تعودي لنقطة الصفر يا جبانة"إختفت ديالا بعيداً عن مرمى عينيها.
بينما همست رانيا بصوت مكتوم:"يجب ان تتقبلي ما يحدث..أنا لن أستطيع الإستمرار هنا..بل نفي نفسي في بلاد الغربة مثل ما فعل والدك قديماً هو الحل الأمثل لي..وان إختلفت أسباب كل منا"
لن تكذب على نفسها وتدعي الفدائية لقد إنتظرته يوماً وإثنان وثلاث..ربما يأتي ليستفهم منها..يغفر..يخبرها انها امرأته التي يحب وهي إختياره الأول والأوحد...ولكنه لم يظهر قط وهي لا تلومه..اذ ان أيان لم يعد مدين لها بأي شيء!
............
"لم يتبقى لي إلا أنت..هنت عليكِ ان تتركيني"همست نوال بعتب باكية..لإبنتها وبكريتها..اقتربت منها رانيا تقبل رأسها وهي تقول بحرقه: "يكفي أمي ليس أنتِ الأخرى..ألم تخبريني انك ستلحقي بي..عقب أن تلد ديالا وتطمئني عليها؟"
همست ديالا بقنوط:"وانتِ ألم تستطيعي تأجيل سفرك لأسابيع أخرى حتى تطمئني عليّ"
قالت رانيا بإرهاق:"ديالا .أرجوكِ ليس مرة أخرى"
إقتربت ديالا من أركان تمسكه من قميصه فرفع عيناه بتعجب من عصبيتها الموجهة كلها اليه وهي تهتف فيه:"سحقاً لك أنت الأخر..إفعل شيء إمنعها..أنا أريدها معي"
إمتعض فم أركان وذراعه تلتف حول خَصرها بتلقائية ضاممها اليه وقال بتشدق:"وهل هي أحد وجبات الطعام التي تشتهيها وأُجبر لشرائها لكِ؟او حتى لعبة أبقيها معك!"
بكت مرة أخرى ومزاجها الكئيب يحل فوق رؤوسهم:"هذا ليس عدلاً..اللعنة..اللعنة على كل الرجال في العالم..أتمنى..أتمنى كارثة تأخذكم جميعاً"
"بك الخير بطتي..تسبيني وتتمني لي السوء وانتِ بين ذراعي"
قالت بذات الصوت الكئيب:"انت لست رجل"
"ماذا قُلتِ"نطقها بذهول
و يديه نهشت خَصرها وهو ينظر لها نظرة مرعبة متجاهل الضحكات الخافتة من أمها وأختها والتي خرجت مكتومة مشوبة ببكاء الفراق
شهقة أفلتت منها وهي تقول بسخط:"أعني أنت غيرهم جميعا
انا أحبك..بل أنت كل الرجال"
يديه إرتخت عنها قليلاً يمسح ذرة تراب وهمية عن شعره وهو يقول:"إجابة جيدة يا فتاة..وإلا كنت كسرت عنقك"
قالت رانيا:"اسفة لمقاطعة عرضكما الهزلي المعتاد..ولكن لديّ طائرة يجب أن ألحق بها"
همت ديالا أن تتحرك من ذراع زوجها تتوسلها البقاء ولكن تشبث أركان بها ومنعها وهو يقول بهدوء حازم مسيطر:"أتركيها تغادر..إمنحيها الفرصة لتنسى بعيد عنه وعنها..وأعدك في يوم ما ستعود من تلقاء نفسها..بعد أن تدرك أن كل الألم والوجع لا يساوي شيء أمام يوماً واحداً تقضيه في الغربة الموحشة"
.....................
عندما فتحت نوال الباب..وهي تقفز تقريباً من مقعدها داعية الله بكل حرقة أن تكون إبنتها عدلت عن ما في رأسها الصلب اذ كانت نوال ترفض كلياً أن تعود الى هذا البلد مرة أخرى بل كانت كل ما تتمناه ان تظل هنا لما تبقى من عمرها وتقترب من بناتها وتنتظر أحفادها..ربما تستطيع ان تعوضهم ما فقدوه في الماضي..."
فتحت الباب متلاحقة الأنفاس لتصدم تماما وهي ترى أخر شخص توقعت رؤيته واقف على باب بيتها بعد طول إنتظار..بعد أن كوى قلب إبنتها بالفراق..بعد أن بكته بين ذراعيها وهي تخبرها انه علم"بعقمها"المؤقت ويبدو أنه أخيراً إنسحب من حياتها مقتنع بضرورة الفراق..لم تستطع أن تمنع نفسها من الهتاف في وجهه بسخط بحرقة بثورة:"ماذا تريد..أتركنا بحالنا..وإذهب لحياتك وعروسك"
إبتلع أيان ريقه..وهو يحاول إستيعاب هجومها عليه اذ لم تكن السيدة نوال ضده يوماً بل دائما وجهها بشوش مرحب محب..حتى وهم في عز أحزانهم.."
أشار بهدوء مسيطر:"أريد رؤيتها"
عندما لم ترد..شرع في فتح هاتفه يكتب ما يريده ولكنها أوقفته وهي تقول:"ان كنت نسيت؛انا أفهمك منذ كنت مراهق يلتف حول ابنتي ومنحتك ثقتي الكاملة..مؤمنة بك ولكنك خذلتني!"
عاد الذهول والحيرة تكلل ملامحه!عن ماذا تتحدث هو الذي خذلهم ام هم جميعاً الذين ذبحوه حياً..كتب بإصرار:"لا أريد التحدث في الماضي من فضلك..لا يحق لأحد ذكر الخذلان أو ما مررنا به إلا أنا ورانيا"
قدم الهاتف فخطفته منه نوال بتجهم..ثم صاحت بإنفعال باكي:"وهي أخبرتك آخر ما لديها..أتوسلك أن تتركها؛إمنحها الفرصة لتلملم أشلائها..إذهب يا أيان بكل نفس راضية ان كان تبقى لدينا معزة عندك أترك صغيرتي في حالها"
كان قد نفذ صبره وهو يشير بإصرار:"أريد ان أراها"
"لقد رحلت..رحلت وتركت للجميع البلد كلها..رحلت تبتعد عن كل من حملها الذنب ويلومها وكأن الجميع أصبح ملائكة لا تخطئ وهي شيطان رجيم يجب رجمه"
أحس بجسده ينتفض وهو يحدق في فم المرأة الذي يهزي..رحلت أين وكيف ولماذا"
صاح هو الآخر بعصبية بأصواته المهمهمة وهو يشير:"أين..أخبريني لا تدفعيني للجنون خالتي"
قست عيناها وهي تهتف بِه:"الى الكويت هي في طريقها الى المطار إرتحت الآن إطمئننت انها ابتعدت عن طريقك"
"لا لم أفعل..اذ أكاد أفقد زوجتي للمرة الثانية على التوالي بالمناسبة إبنتك أغبى إمرأة عرفتها بحياتي"
وقبل ان تجيبه كان يهرول من أمامها وبين عينيه شيء واحد سيلحق بها حتى وإن كان الثمن حياته ويعيدها اليه..فقط يربطها مرة أخرى بقيد لن تستطيع أن تنفك منه أبداً وبعدها..بعدها فقط سينتقم منها بطريقته الخاصة على اللوعة التي تصر ان تضعها فيه باستمرار"
............................
جنتي قلبك وأسعد أيامي قضيتها في قربك لأجلك وحدك جعلت كل كلماتي الصامتة تنطق وان كنت أنت الداء فعندكِ وحدك الدواء"
بينما يقود سيارته بتهور نحو مطار الاسكندرية في مدينة برج العرب..دق على هاتف ثلاثتهم بجنون فلا مجيب..يرسل رسائله كطريقة تواصل معتادة بينهم..وأيضاً لا إجابة..تذكر حربه الطاحنه منذ أتحفته بالمصيبة الجديدة التي وضعت كليهما فيها..لقد ظل لوقت طويل لا يستوعب حقاً أنها تدفعه ليرتبط بإمرأة غيرها..تسلم بزواجه من أخرى..بأنها لن تمنحه طفل كان حاجته الداخليه اليه أشبه بمنحه الحياة..بأنها تقطع كل الطرق بينهما..لقد كان في حالة من الإضطراب والخوف من أن يصدق لقد كان أكثر رعباً وهو يرى كل تحكمه الذي ظن بصفحة جديدة يفتحها معها تنزلق من بين يديه...لم يتردد بعدها ان يذهب للطبيب والذي أخبره بعد تردد بالحقيقة كاملة..لقد أراد قتله للحظات وضربه حتى يدميه..لماذا دفعها لكل هذا اليأس؟!حملها فوق كتفيها فوق ما تطيق اذ كانت تعاني من إنهيار علاقتهما بالفعل..رباااه هو يريدها..يقبل بها أي ان كان المصير المنتظر لقد وصل لشيء واحد بعد أن استعاد تفاصيل كل ما مر بهما..انه لا يريد سواها..وأي ان كانت علتها هو سيتقبل بها فهي أهم لديه من مليون طفل تمناه .."
وصل بعد أقل من ساعة الى ساحة المطار صف سيارته دون تركيز أو اهتمام بما يحدث لها وخرج مهرولاً نحو صالة المغادرين..يتخبط في كل من في طريقه..يزمجر بجنون وهو ينظر لكل الوجوه ما بين مودع باكي وأهل منهارين من لوعة الفراق أين هم؟زمجر وهو يلهث يندفع الى البوابة الأخيرة عله يجدها..ولكن صدمه إمساك أحد أفراد الشرطة به يمنعه من التقدم:"الى اين..ممنوع يا سيد"
أشار بعجز محاول التفاهم معه..فلم يصله لغته وهو يعيد القول:"تحدث هل أنت أخرس..ما الذي تحاول فعله بإقتحام بوابة المرور"
فتح أيان يديه بإستسلام وهو يشير على أذنه وفمه بإقرار وتصديق لما أشار به ضابط الأمن..مما دفع الرجل أن يرتبك..مهمهم بإعتذار:"اسف..لم أقصد هل أنت مسافر تحاول اللحاق بطائرتك"
لأول مرة بحياته يشعر فعلاً بعجزه يكاد ينهار مما يحدث..هو يفقدها ولا يستطيع التعبير عن قول ما يريده..تركه الرجل..ليبحث أيان عن هاتفه بتخبط فلم يجده بحث بعينيه عن أي شيء فلمعت عينيه وهو يسحب أحد الأوراق الموضوعة وقلم من أمام مكتب أحدهم دون إستئذان وكتب بخط متعثر:"أحدهم يغادر ويجب أن أمنعه"
قرأ الشرطي كلماته ثم قال بهدوء أسف:"هذا مستحيل من يتخطى هذه البوابة لا نستطيع إعادته ومنعه..العصبية تمكنت منه وكاد أن يجن مفتعل مصيبة ولكن الخبطة التي أتت على كتفه عنيفة نزقة جعلته يلتفت بحدة وبدل ان يمسك في تلابيب المعتدي..شعر بالإرتياح بالنجدة وهو يشير:"أخبرنى انها لم تغادر..يجب أن أتحدث معها"
فسرت ديالا ما يقوله على الفور لأركان وهي تكاد تتقدم لتنهش وجهه بأظافرها ولكن أركان تولى الرد وهو يقول جاذاً على أسنانه:"حمد الله على السلامة يا أغبي المهندسين هل تذكرت الآن..دعني أخبرك تحمل نتيجة فعلتك غادرت ولا تريد ان ترى وجهك"
ممزقاً بين التسليم بالأمر وبين أنه يكاد يتوسلهم المساعدة"يجب ان أراها انا أعلم أن الإجراءات تأخذ أكثر من ساعتين ونصف لا يعقل أبداً أنها غادرت بالفعل...أرجوكما"
عندما فتحت ديالا فمها تقصفه عادت ملامحه الأخوية الحبيبة تضربها في صميمها فلم تقول الا:"هي خلف تلك البوابة الالكترونية..أعدها اليّ..انا أريدها معي ولا أحد غيرك قادر على إقناعها"
ولكن كيف..كيف يصل اليها؟
"تريدها"نطقها أركان بحزم
"هل تحتاج للسؤال"أشار بيأس
نطق أركان بحزم أشد:"لماذا..لتجلدها وتعذبها مرة أخرى؟"
لم يفكر مرتين وهو ينظر من خلفهما بعيني مجنونتين محترقتين:"بل لأعيدها إليّ فهي جزئي الناقص..مني وكلي"
امتعض أركان وهو ينظر له بتشفي من ما يحدث ثم دون تردد صاح في الظابط مما أجفلهم جميعا
"والله ان هذا غير عادل..بلد لا ترحم العاجز فيها..هل لأنه معاق لا تريدون إعطائه حقه لمنع زوجته من السفر"
جحظت عين الجميع بصدمة بينما إرتعبت ديالا من وقاحة زوجها المعتادة وهي تنقل نظرها بينه وبين أيان
فعاد أركان الصياح بصوت جهوري:"أي القوانين هذه أي ظلم نحياه..الرجل زوجته تهرب منه..وانتم تمنعوه حقه..لأنه لا يستطيع التعبير عن نفسه"
وضعت ديالا كفيها على خديها تلطم بصمت بينما أيان كان أكثر من مرحب بالمبادرة بينما تقدم نفس الشرطي منهم يسأل أركان بحدة:"ما الذي تحاول فعله..والله أحبسك"
"إحبسني..إقبض عليّ..ولكن لا تهدر حق أخي زوجته تسافر دون إذن تهرب منه ولا يستطيع منعها هل لو كنت مكانه كنت ستسمح بهذا"
قال الرجل من بين أسنانه:"طالما تجاوزت نقطة التفتيش لا نستطيع أن نفعل شيء"
واجهه أركان بإصرار"لا بل طالما مازالت هنا لم تصعد الى الطائرة او يختم على جواز السفر..تستطيع العودة"
نقل الشرطي نظره بينهم وعينيه تثبت على أيان الذي لاحظ أنه كان يفقد أي صله بالأناقة او الإهتمام بملابسه كالعادة بل كان أشبه بمشرد بائس مسكين ثم رفع جهازه وهو يقول:"ما إسمها"
إبتسم أركان بإنتصار بينما يمنحه ما يريد مستمعاً بإنتشاء ندائها العاجل لتتوجه الى اقرب ضابط أمن وتسلم نفسها"
"يا ويلّي دفعته للقبض على أختي"نطقت ديالا بلوعة
فقال أركان بخبث:"سيكون مشهد ممتع أيضاً عندما يتم القبض على البشمهندس بتمهة الإدعاء الكاذب عندما يفشل في إثبات أنها زوجته"

قراءة سعيدة
.........................................

همس الموجحيث تعيش القصص. اكتشف الآن