الفصل العاشر

2.5K 93 3
                                    

الفصل العاشر



عندما فتحت رانيا باب منزلهم..لم تصدق أنها وصلت سليمة..فمنذ خروجها من عيادة الطبيب هائمة..على وجهها لم تبكي ولم تصرخ ولم تندب حتى حظها بل كل ما شعرت به هو الوجع والكئابة..والتشفي من نفسها بعدالة حققها القدر..بانتقام منها ومن والدها لما فعلته بزوجها....

"أين كنتِ منذ الصباح؟لقد تأخرت"

صوت والدها الأجش..أخرجها من تلك الدوامة التي كانت تغرق فيها وتقاومها بإصرار وأن لا تنهار..رفعت ملامحها الميتة نحو والدها الذي وقف أمام نافذة غرفة المعيشة ينظر الى خارجها وهو يعقد كلا ذراعيه خلف ظهره..لم يكن التفت إليها بعد عندما ردت بجمود:"كان لديّ عملُ هام.."

إبتسامة ساخرة هي ما إرتسمت على ملامحه وهو يقول:"عند ذلك المعدم..أتعجب من تمسكك بالعمل معه وأنتِ من رفضتيه من قبل..ولم تري فيه رجل يناسبك..وفضلتي مجرد أخرس عليه"

تلونت ملامح رانيا بالغضب المخلتط بالقهر..وللحظات إنتابها الضعف المعتاد والخوف من إغضابه والسلبية في ردودها..ثم وكأن شيء ما توهج بداخلها..شيء مبهم يريد الصراع والظهور دفعها لتقول بصوت حاسم قوي:"لم أرفض أركان لعيبٍ فيه بل لأنه إختيارك..ولم أفضل عليه أحد..لأن أيان خارج المنافسة مع أي رجل كان"

إلتفت اليها مختار أخيراً وشعور بالإنتشاء يملأ صدره فخطوط اللعبة أصبحت بيده وإبنتيه عادتا الى كنفه..فبعد إتفاقه مع ديالا لن يصعب عليه أبداً أن يُعيد رانيا إليه مطيعة..هادئه ومسلمة بأمرها إليه تماما..اذا كانت ديالا نفسها بعد صراع أعوام عاد ليمسكها في قبضة يده..فكيف برانيا حديثة التمرد والتي لم تستطع أن تجد طريقها بعد...

"الناقص!!هل تمزحي"

لم ترد على الفور بل ظلت تنظر إليه بطريقة أثارت تعجبه..لقد أرادت الإنتفاض والصراخ في وجهه لتقحم في عقله أن رجلها لم يكن ناقص يوماً..ولكن الآن وهي تحمل في حقيبتها الدليل القاطع لغباء قرارها..بنظرتهم جميعاً إليه..هل تملك من الجراءة ما تنطق به لدفاع أهوج؟!هذا لن يدفعه إلا لمزيد من ذبحها..فتحت فمها أخيراً بصوت ميت:"أنا لن أترك العمل مع أركان..ونعم الناقص هو كل رجال العالم في عيني..هل من جلد آخر تريد توجيهه لي والدي؟!"

زفر مختار وهو يرفع عينيه للسقف للحظات وعاد يسيطر على أعصابه وإتخاذ طريق اللين معها محاولة لكسبها فنطق أخيراً بصوت أجش صادق وهو يخفض رأسه نحوها:"أنا لست بعدوك..بل وأتفهم تماماً ما تمرين به الآن..من الصعب نسيان شخص كان لأعوام شريك حياتك"

إلتوى فك رانيا بإبتسامة ساخرة ولم تكلف نفسها حتى الرد..فإقترب مختار منها وفك يديه بهدوء ثم رفعهما ببطئ الى أن أسندهم على كتفيها وأمسكهما بتشدد وهو يقول بصدق:"لقد خسرتك بسببه لأعوام..وقفتي في وجهي وعصيتني من أجل رجل باعك عند أول تحفظ منك نحو شيء هو وحده المذنب فيه..فطلقك ملقياً بكِ على طول ذراعه ولم يصبر أن يأتي بأخرى تأخذ مكانك"

كانت رانيا تستمع إليه بصمت وجهها خالي من اللون والإحساس..لم ترد رغم ذلك الشعور الشيطاني بداخلها الذي يريد أن يصرخ فيه بتشفي أنه إستقل بذلك الناقص فعاقبه الله في مدللته بجعلها معطوبة الروح محرومة الأمومة!!

وعندما طال صمتها..ببرودها وتباعدها رفع مختار كفه يحتضن وجنتها الشاحبة بحنان وهو يقول بخفوت:"بسببه أيضاً رفعت يدي عليكِ لأول مرة..أهنتك بسبب جدال ودفاع عن من لا يستحق"

رجعت برأسها للخلف لتبعد وجهها عنه ثم قالت بنبرة كئيبة:"ليس أول مرة تتضربني بل أذكر ان نِلتُ نفس الكف منك عندما تمردت وأنا في الثانية عشر..لأنني ببساطة أردت اللعب معه وأنت كنت تُصِر على إبعادي عنه وكأن ما به مرض معدي"

يده التي مازالت على كتفها إنغرست في لحمها بتعصب وقال:"لأنه بالفعل مرض عضال لا شفاء منه وأنتِ كنتِ من الغباء أن لا ترينه..إنه غير طبيعي ليس مثلنا..إن قابله أحد ما في الطريق صدفة لن يستطيع التعامل معه..وإن كان أحد يموت بجانبه لن ينقذه..هو من عالم آخر غير عالمك..عالمنا...بل يجب أن يقصيهم المجتمع ويبني لهم مكان ما بعيد عن الناس"

نظرت إليه رانيا بنفس النظرة الخاوية وكأنه مجنون ما ويهزي !!رغم تألمها لم ترد..أخذ مختار نفس آخر عميق قبل ان يشتم بعنف..ثم قال بصوت جامد لا جدال فيه:"عدتك إنتهت..كما إنتهت قصتك معه يجب أن تخرجيه من رأسك محدود التفكيرهذا..أنا سأساعدك بنفسي كالعادة لتجدي الإختيار الأفضل..بل والحل الأسرع لتطهير قلبك من ذلك المرض المدعو أيان!"

توجست ملامحها بردت فعل أخيراً وقالت بتوتر:"إيان ليس مرض..أنا أحبه"

عقد مختار حاجبيه بشدة وهو ينظر إليها ثم هزها من كتفيها قائلا من بين أسنانه:"لقد سمحتُ لكِ بنعيه والبكاء على شيء لا يستحق..والعمل مع ذلك الغبي الآخر ولكن الى هنا وإنتهى..غداً تجهزي لتقابلي من إخترته لكِ بنفسي..أنه رجل قَبِلَ بكِ كمطلقة من آخر يقل عنه بكثير..وأقسم يا رانيا إن حاولتِ التلاعب او الرفض..ستتلقي مني ما لم تجربيه في حياتك البائسة كلها"

توسعت عينا رانيا بذهول ووجها يبيض حتى ماثل لوح رخام أبيض جامد..ثم ما لبثت أن همست بتخاذل:"عريس وزواج!!أنا لن أتزوج أبداً كيف إستطعت التفكير بهذا؟!"

زم شفتيه..بغضب حتى كاد أن يخرج دخان ناري من بينهم..ثم ما لبث ان قال:

"أنتِ لستِ في موقع قوة للرفض أو الاعتراض بل إحمدي الله أني مازلت بجانبك وأدعمك..وإستطعت أن أوفر لكِ تلك الفرصة!"

إبتعدت عنه أخيراً خطوات لتنظر اليه وهي تتنفس بصعوبة وألم حقيقي ملموس يطعن صدرها..ثم إستطاعت أخيراً ان تستدير وتدخل غرفتها..إرتمت على فراشها على الفور تدفن وجهها في الوسادة..وعقلها لا يدور به إلا كلمتين:

"لن تنجب..زواج ولن تستطيع الرفض"

لم تستطع البكاء بل أخذت أنفاسها تضيق وتضيق بسرعة مجنونة حتى شعرت أنها تكاد تفقد الهواء المحيط بها تماما..ومن بين جفنيها المغلقين كانت صورته تترآى لها بتتابع في لحظات خاطفة مع صوته بكلمات مختلفة:"أنتِ حقي أنا رانيا..لي وملكي..حقي العادل وتعويضي"

وهمسة أخرى واعدة مع إبتسامة ساحرة كانت تجعل قلبها يئن وهو يشير:

"حتى وإن أردت أن أنظر لغيرك يوماً..كيف يستطيع القلب والجسد أن يمنحا ما ليس لهم؟!"

ثم يعود القاسي يردد في أذنيها:"إبحثي عن حياتك رانيا..وجدي ذلك الكامل فأنا للحقيقة لا أهتم...!سارة إمرأة حياتي التي أستطيع أن أمنحها طفلي"

"طفله..طفل رضيع صغير رفضته..نبذته..فعوقبت بالتهديد من حرمانها منه الى الأبد..عند هذا الخاطر إنفجر كل شيء و دفنت رأسها في الوسادة أكثر وبدون مقدمات كانت تصرخ وتصرخ بصوت مكتوم باكية بهستيرية"

بينما يد ديالا كانت تمتد تمسد على رأسها بحنان وهي تهمس بتعاطف:

"لا بأس..لا بأس"

..................

"اذا لم تحارب من أجل شيء تحبه..فأنت لن تستحقه"

هكذا وببساطة..كان مختصر حديثه مع أمه..المرأة البسيطة..الحنونة والتي لم تناصره لحظة ضد زوجته بل هاجمته بشراسة..تُحمله الذنب كله..

أغمض أركان عينيه..وهو يعود ليتنفس بصعوبة ويده تضغط على عكازه متخللاً لحم كفه دون أن يشعر إلا بألم أكبر ألف مرة مما طعن به سابقاً فديالا سمحت أن يتشفى فيه مرة أخرى ويدعس كرامته..أخبره بكل برود أن إبنته تطالبه بالطلاق..أراد أن يبكي ويضحك في أنٍ واحد..فديالا حبيبته الصغيرة والقوية المحاربة التي وعدته قبلاً أن تدافع عن علاقتهما لكلاهما..تهينه! تسمح لشيطان مختار أن يُفرق بينهما..للحظات طويلة ظل على وقفته المتخشبة..قبل أن تبرق عينيه بتصميم لم يتخيل يوما أن يجرؤ على فعله..ثم إندفع نحو باب الشقة ينوي المغادرة وملامح وجهه تحكي ألف حكاية عن ما هو مقدم عليه..

*********************

عندما فتحت رانيا هاتفها تبحث عن تلك الأيقونة المختفية في ملف سري..لم تكن تدرك أن هناك قوة بداخلها تنبت وتصرخ للخروج..شيء يغذي روحها بالإكتفاء من كل ما يحدث لها بالصراخ في وجه الجميع بتوجيه الصفعات لنفسها قبل غيرها علها تستفيق"Remind"رغم الألم إستطاعت أن تبتسم..وهي ترى ذلك البرنامج الذي طوره أيان ليصبح من السهولة أن يتعامل عليه كليهما برسائل سريعة وسرية تامة..مازالت أخر رسالة هناك لم يرد عليها!إذ كانت أخر تواصل بينهم في ليلتهم المشؤمة..عندما نسيت إخفاء تلك الحبوب ووجدها هو..أغمضت عينيها مكتفية من الإحباط والوجع مدارية تلك الذكرى بالذات حتى يحين أوانها..وقبل أن تفكر حتى فتحت لوحة المفاتيح تنوي الكتابة عالمة ومتأكدة أنه الأن أتاه الإشعار لبدئها المحادثة وينتظر:

"صديقي العزيز..كما تحب تدعو نفسك..وزوجي الحبيب كما أصر أن أدعوك لآخر يوم في عمري..أحب أن أخبرك أنك ظالم!! قد تتعجب من جراءتي وقد تملأ ملامحك السخرية والازدراء التي أصبحت توجهها ضدي...ولكن هذا لا يمنعني أن أخبرك أنك خائن؟!"

توقفت يديها للحظات وهي ترتعش تتردد فيما تخط ولكنها لم تستطع إلا أن تفعلها فأكملت:"ما أجرمته لن يشفي جراحك وجراح قلبي الغائر مجرد إعتذار باهت ولكني أسفة..أسفة لأني لم أكن لك وجه للإخلاص..كنتُ أتمنى أن أكون قريبة منك بصدق وليس مجرد وجه للخداع كما إكتشفت..كنتُ أتمنى من نفسي أن أكون من القوة التي وعدت..كما كنت أتمنى وكنت ولكني علمت بالطريقة المرة أن الأماني مجرد أحلام توئد ببساطة أمام جبروت ضعف النفوس..

صدق أم لا أنا إكتفيت بك..حرمت نفسي من ذلك الطفل خوفاً عليه من ضعف والدة قد لا تستطيع الدفاع عنه..حرمت أحشائي أن تحمل نطفة منك..تتوج حبي لرجلي الأوحد..وتُخلد قصتنا حتى ألف جيل..نطفة تخبر العالم أجمع أن عشقي لك كان خالص دون زيف.."

توقفت لبرهة واحدة..فيدها اضطربت أكثر وجهها متعرق متغضن بالألم..إبتلعت غصة داخل حلقها..قبل ان تكمل بعزم:

"أسفه يا أيان..ولكن هذة المرة أسفي ليس لما فعلت بل لأن أنانيتى لن تتوقف هنا..بل أسفة لإخبارك أني لن أستسلم دون حرب..لن أصمت على خيانتك لي وعدم غفرانك او تفهمك..حتى وان لم تعد اليّ..فأنا موطنك الأوحد كما تشدقّت بوصفك لي يوما..ولكن أنا لن أتركك تنجو بسهولة.."

أغمضت عينيها وبقوة متهورة ضغطت زر الإرسال..وقبل ان تنتظر منه رد لاذع كانت تلحقها برسالة قصيرة"أنا أسفة لن أستطيع أن أسمح لك بهدم فرصتي الوحيدة..من حقي أن أحيا مثلك..وبدونك أنا في حكم الأموات"

كانت ملامحها تتصلب بعنف عندما أتاها الرد السريع بقسوة:"ماذا تريدين..أنتِ إمرأة منتهية"

لم تعلم أن دمعتين طفرتا من عينيها..قهراً قبل ان تكتب:"كم صاب تشبيهك..ولكن حتى المُصاب بمرض عُضال يأمل في بعض مسكنات الرحمة"

لا يعلم ما سر إنقباض القلب العاصي الذي مازال ينبض بقوة بإسمها لا غيرها ولكنه أرسل:"أنصحك بالبحث عن مسكناتك بعيداً عني..أنا لا أريد إعتذارك ولا ذلك التمسك السخيف؟"

لم يكن يعلم أن أصابعه تطرق على المكتب بعنف مخلوط بالقلق اذ طال ردها وطال جداً رغم رؤيته للنافذة المفتوحة بينهم..كاد أن يرسل أي كلمات أخرى ليستفزها أو أن يمسح ذلك البرنامج تماماً..متنازع بين هذا وذاك..كانت ترسل أخيراً:

"كنتُ أتمنى أن أخبرك في تلك اللحظة أني أحتاجك كما لم أحتاجك من قبل..أن أنزوي في صدرك..أختبئ من دنيا تُصر أن توجه لي الضربات بعنف..أحتمي بك حتى تتوقف الأرض عن الدوران والليل والنهار عن التعاقب..حتى تتوقف أنفاسي داخل صدري..ولكني أعلم الأن أن العدل وحده هو من يتحقق ويجب أن أواجه ما صنتعه يداي..."

إحترقت أنامله أن يرسل لها ليسألها عن سبب كل هذا القهر في رسائلها بعد أن كانت تتبجح بكلماتها التائهة المضطربة..ولكنه لم يستطع..لم يطاوعه جرح قلبه ان يفعلها مازالت طعنته منها حية تنبض بكل الألم..إنتظر وإنتظر أن ترسل مرة أخرى ولكنها ببساطة قطعت الإتصال..تاركة إياه يُنازع بين فكي الرحى..

*************************

مجرد التفكير أنه هنا أمام باب بيت مختار الزيني ينتظر منه كلمة الرحمة ليرى أنثاه هو..كان يبعث الجنون والغضب داخله..أي إحساس بالتردد..بالكبرياء طار مع الهواء..وهو يزداد إصرار على عودتها اليه مهما كان الثمن الذي سيدفعه...طرق الباب بعنف..وهو يصرخ بصوت خطير"إفتح الباب يا مختار..أريد زوجتى لا تدفعني لإفتعال فضيحة لك ولها؟!"

قلب مختار نظراته الباردة..بين إبنتيه وزوجته..ثم رد من خلف الباب:"ليس لك زوجة عندي..إذهب وإبحث عن تلك الصعلوكة التي تماثلك في مكان آخر او سأطلب الشرطة"

كانت أنفاسه العنيفه تخرج غير منتظمة وصدره يهبط ويعلو بإحتراق حمم بركانية تقبض على صدره..أسند كلا قبضتيه على الباب وهو يقول بصوت مكتوم:"ديالا أعلم أنكِ خلف الباب لذا هو لا يعنيني ما يقوله..إفتحي الباب يا ديالا دعينا نتحدث"

أجفلت ديالا ورأسها المنحني نحو الطاولة التي تستند.عليها بكلا كفيها يرتفع ..تنظر على باب المنزل مباشرة..تحدق بإضطراب..ذاهلة مرتبكة..عيناها تبرقان بتلك الطريقة التي تجعل قلبها يضعف نحوه و يلبي نداؤه ويتفهم كل شطحات جنونه..

أمسك مختار بذراعها بعنف وكأنه يأخذ إجراء إحترازي حتى لا تضعف وقال بحزم:

"لمرة واحده فقط إتبعي كلامى..دعي ذلك الحقير مثل كلب أجرب ولا تلقي له بالا"

شهقت ديالا بعنف وكأنها فاقت في تلك اللحظة من المشاعر العنيفة التي إجتاحتها..مصفوعة بما يفعله أركان وكأنها لم تتوقع نوبة جنون كهذه..لم تعلن أن شفتيها تحركت أخيراً تنطق بوحشية كنمرة صغيرة تدافع عن إحدى صغارها:"زوجى ليس بكلب ولا حقير..لا أسمح لك أبداً بإستغلال مشاكلي معه لتنعته بما ليس فيه؟!"

أصابعه إنغرست بلحمها بعنف وهو يهتف بها من بين أسنانه المطبقة:

"مشاكل؟! أنتِ من طلبتي مساعدتي والطلاق إن كان يُخيل لك أنكِ ستتلاعبين بي أنت واهمة يا إبنة نوال"

لم تقاومه ولم تمنحه رد على الفور بل رفعت رأسها تحدق فيه بمشاعر مبهمة..النظرات المتحدية في عينيه مصرة على حرب السيطرة بينهما..جعلت حركتها تسكن تماماً وهي تقول بصوت أجش:

"متى ستشعر بأبوتك الحقيقية نحوي..بل متى ستعرف أني لم أكن يوماً عدوتك..لم أستغلك كما تقول ياأبي بل لجأتُ إليك لأن هذا الفعل الطبيعي لكل فتاة لم تجد لها سند!"

"أليس من المفترض أن تكون داعمي..وسندي ياأبي؟!"

ارتخت يده عنها..وبهت وجهه تدريجيا حتى فقد لونه..شعر مختار في لحظة نادرة خاطفة بالمرارة تزرع داخله بالألم فعواطفه الأبوية تريد أن تحارب لتحتضن ديالا بالذات!هل سيضعف ويجعلها تهزمه؟!تصلب فكه على الفور وهم أن يُخبرها بشيءٍ ما بقسوة ولكن هتاف نوال الغاضب الذي لم يراه أبداً من قبل..جعل جنونه يعود بإهتياج مرة أخرى..

تقدمت نوال سريعا تسمح لأركان بالدخول وهي تقول بحزم:"لن أسمح لك يا مختار بمزيد من الدمار لهن.."

إلتفت لديالا تخبرها بجمود:"حديثي معكِ إنتهى..إذ انه لم يتواجد قط..كل تلك الفترة أحاول كسبك ودعمك وقد كدتُ أن أنجح وأنا أدعمك لتقويِ صلتك بزوجك ولكن في لحظات غباء وعناد تريدين هدم كل شيء يا ديالا وهذا ما لم أعد أطيقه أو أسمح به؟!"

شحب وجه ديالا وتلاشت كل مشاعرها السابقة تماماً..لم تكن تنظر الى أمها حتى ولم تتوقف عند تذكيرها إياها بذلك التقارب الذي كان قد حدث بالفعل بينهما لأشهر..بل وجهت حدقتيها اللوزيتان مباشرة للعينين الداكنتين المليئتين بالإتهام..

إقترب أركان وهو يشعر بقلبه يخفق بعنف بين أضلعه نظراتهما لا ترى الا هما وكأن المكان خلى من الجميع ولم يعد في الكون سواهما..توقف على بعد خطوات منها ثم نطق أخيراً بتصلب معاكس رغبته المتوحشة للهرع اليها وضمها بعنف وقوة حتى تمتزج بين عظامه وتذوب في مجرى دمائه:"كيف تجرأتي على فعلها بي يا ديالا بعد ما منحته لكِ من ثقة؟!"

إنتصب جسد ديالا أخيراً..جسدها كله ينتفض بغضب لا يقل عنفاً عن غضبه..ثم صرخت فيه بجنون:"إياك حتى أن تتفوه بتلك الحماقة أنت كنت وهم..سراب..قصر تعبت في بنائه وحدي وهُدِمَ فوق رأسي..أنت لا شيء يا أركان..فلا تحدثني عن ثقة أنت لم تكن أهلا لها أبداً"

حاول مختار التحدث وهو يقترب منه يحاول أن ينقض عليه يدفعه من صدره بعنف وهو يقول:"أخرج من بيتي حالاً..تحلى ببعض الكرامة الفتاة لا تريدك.."

صده أركان بعنف مماثل..ولم تزحزحه ضربة مختار خطوة واحدة بل تحرك برشاقة وخفه لا تناسب أبداً ذلك العكاز الذي يضع عليه حمله..ثم صرخ فيه بعنف:"أنت غير مؤهل إطلاقاً لأبوة لم تحملها لها يوماً..أنا لن أكلف نفسي حتى الرد عليك"

كان قد إقترب من وقفة ديالا الجامدة بالفعل وأحنى رأسه نحوها وهو يقول ببساطة وحزم:"طلبك مرفوض تعرفين هذا..لذا ستخرجين معي والآن أمامي ولن أسمح لكِ أبداً أن تجعليه يصل لمبتغاه وينشر الضرر لكل من حوله كما هي عادته..بأن يطولنا بعد ان نجونا أخيراً من قبضته"

إستدارات عنه تمنحه ظهرها..الإصرار والحنق بداخلها يزيد العناد والمكابرة..لا ليس هذا ما أرادته..على أركان أن يدفع الثمن أن يحارب من أجلها ليس لمال إختاره بل لدلالها له عامين كاملين لإستغلاله عشقها إياه والضغط على نقطة ضعفها:"أنا لست مجبرة لأسمع منك هذا الهراء..أخرج من هنا ومن الأفضل لك ان ترسل ورقة طلاقي"

أمسكت يداه ساعديها وجذبها بعنف حتى إستدارت بتخبط لترتطم بصدره مباشرة..رفعت وجهها الشاحب لتصطدم بتلك الملامح الإجرامية التي غطت معالم وجهه...وصوته يقصف فيها بحدة:"أنتِ غبية لو ظننتِ أني سأنطقها..حمقاء واهمة إن إعتقدت بأنكِ قادرة على الافلات مني..وطفلة لم تكن أبداً على مقدار كلمة منحتها لي"

يداها الإثنان إستراحت على صدره فصدمة ذلك الشعور الذي إجتاحه وكأن كل براكينه وشياطينه تبخرت فجأة..كيف لملمس كفين ناعمتين أن تتحكم بنبضه المجنون هكذا!تطفئه فلا تجعله يرغب في تلك اللحظة إلا بضمها..

رفعت وجهها أخيراً وهي تهتف به بخشونة:"سأكون غبية بالفعل إن سمحتُ لك ان تستمر في حياتي..أنا أبداً لن أعود إليك ،أبداً لن أسمح لخطيئتي بالتحكم بي"

ردد أركان عاقد حاجبيه وكأنه ينظر لمعتوهة لا تدرك ما تتفوه به:"خطيئتك..هذا على أساس أننا رفيقين..أنت زوجتي"

تملصت من قبضته متراجعة حتى فصلت بينهما أمتار..غاضبة حانقة..ساخطة..تشعر أنها مجرد عصفور محشور في أحد الفخوخ التي إتجه اليها بنفسه..لم تعلم أن ضعفها فلت منها في لحظة عابرة فإلتقطها هو على الفور وهي تقول:"كنت أَخبر نفسك بهذا وأنت توجه لي الصفعة تليها الطعنة"

رأت عيناه تلينان قليلاً..وهو يقول بصوت أجش:"وقد غفرتي لي كل هذا وأنا إعترفت بكل غبائي نحوك..الماضي يمكنني تصحيحه والتكفير عنه فقط إسمحي لي"

قهره حقاً ذلك الكسر الذي إرتسم في عينيها..والجرح العميق الذي خط مشوهاً ملامحها الجميلة..كان صوته خافتاً مترجياً وهو يناجيها:"ديالا"

وكأن نار من جهنم وكتلة من غباء إجتاحتها وأعمت بصرها وبصيرتها وهي ترفع وجهها نحوه تنظر لعينيه بقسوة وتهتف بوحشية:

"كل ما تقوله يذكرني بضعفي وإستغلالك لي..بكرامتي التي دعست عليها حتى تُحيي كرامتك..ناسي ومتناسي ما كنت أعنيه لك حقاً..ان كنت احببتنى لكنت  حافظت على كبريائي أولاً لأنه منك..لذا لا فرصة لك أبداً معي"

صمتت تراقب تلك النار التي إمتدت منها مندفعة إليه لتحرقه تماماً..دون قدرة له على إخمادها داخل قلبه..ثم ما لبثت أن قالت أخيراً"إن لم تطلقني..سوف أخلعك معرضة كبريائك العزيز لضربة في مقتل لن تقوم منها أبداً"

وكما توقعت تماماً اقترب منها دون وعي وقبض على ذراعيها بكفيه يهزها بعنف وهو يصرخ بوجه لونه كسواد الغضب:"لن أسمح لكِ..أبداً أبداً..أتفهمي لا يهمني عنادك اللعين ولا تلك القذارة التي تتفوهين بها ولكنكِ واهمة ان خُيل لكِ أني سأتركك"

قبل أن تقدم ديالا على أي ردة فعل كانت تسمع صوت أمها يصرخ بكليهما أن يتوقفا..وبوالدها يفلتها منه..مخبئها خلف ظهره..كان أركان أشبه بأسد حُبِس في قفص ضيق للغاية وتكالبت عليه كل قيود الأسر لم يشعر بنفسه أبداً وهو يحاول أن يصل إليها من خلف ظهر مختار فدفعه من صدره مما جعل أركان يلتف حول نفسه في دائرة مغلقه يزأر فيها مهدداً محطم كل ما يجده في طريقه من بعض الأثاث والتحف !

اشفقت عليه من جنونه ولكنها لم تستطع إلا أن تراقب ما يفعله بجمود..الطعم الصدئ في حلقه تعاظم لمعدل مجنون..كان يشعر بقلبه يكاد يمزق صدره غضباً مدرك بذعر أنه قد وقع في المحظور:"أنا لن أطلق..أنتِ لي ملكي..ملكي"

كان يزأر بها وهو مازال في تخبطه وثورته وبجنونه..لم يستطع أحدهم الإقتراب منه..لم يجرؤ مختار حتى على الاستمرار في دفعه بعيداً..خرجت ديالا من خلف ظهر أبيها أخيراً وإقتربت منه  لا يفصلها عنه إلا مقدار خطوة واحدة لم تخاف من بركان جنونه لم تخشى أبداً تلك الوحشية التي كانت تتقافز من كل عضلة في جسده..ثم ما لبثت أن قالت بخفوت شديد أشبه بمشرط حاد قطع أوتاره بمهارة:

"أنا لم أكن يوماً ملك لأحد..لقد أخبرتها لك مراراً من قبل وأنت من إستهنت بها ولم تزنها بشكل صحيح..لذا تذوق طعم الخسارة وأخبرني الآن عن شعورك وأنت تُطعن بخنجر داخل قلبك"

عاد كل شيء لينطفئ فجأة..وقف أركان بمكانه لتهدأ عاصفته كما بدأت هكذا وخلال ثوانِ كان ينطر إليها لاهث الأنفاس ممزق القلب مطعون الروح:"لا أستطيع أن أتذوق أنتِ تعلمين هذا؟!"

تقوس فمها وهتفت فاقدة كل تماسكها:"لماذا لأنك ضمنت بين يديك حبي لأنك رجل تفعل ما يحلو لك..وأنا مجرد فتاة غبية وقعت في حبك مستغلا ضعفها وحاجاتها ووجعها للتفهم والحب"

أغمض عينيه بقوة في محاولة واهية أن لا ينهار ومتوسلاً ألا يضيع ما عاهد نفسه ألا ينهار أبداً أمام الزيني بالذات ولكنه لم يستطع عندما قال بصوت أجش:"لا بل لأني لن أستطيع أن أتعامل مع خسارتك..إن فقدتك لن أستطيع العيش يا ديالا!"

رمشت بعينيها مصدومة..مقاومة نفسها أن لا تندفع وتلقي بنفسها بين ذراعيه..ثم قالت بقسوة:"مجرد كلام..لا يموت رجل من أجل إمرأة"

دس إصبعه أسفل ذقنها مرغماً إياها على الشعور بلمسته بالإمتزاج مع ديناميكية جسده عل تلامسهم هذا يوحدهم كالسابق وينجح فيما فشل فيه حديثه:

"لا أحد يموت من أجل شخص ولكن..ماذا يفعل جسد خالي من الروح والقلب..مكسور الوجدان..بمجرد أنفاس تترد؟!!بدونك أنا الميت الحي "

لم تعلم أنها أغلقت جفنيها والدموع عادت تفيض منهما..هزت رأسها وقالت بصوت مثقل بالدموع:"أنا أخافك..ما عدت أئتمنك على نفسي وقلبي هناك شيء فُقِدَ يا أركان..وكل ما تقوله وتفعله لن يعيده بيننا"

أغلق جفنيه للحظة واحدة مثلها وحديثها جعل قلبه يتوقف بين أضلعه كان تائه تماماً..لم يعرف ما الحل بعد؟؟ ما الذي قد يقدم عليه ويجعلها تمنحه فرصة أخيرة؟!

ساد صمت طويل بين الجميع وكأن كل فرد في الغرفة تجمد ولم يجد ما يقوله؟!

أخيراً إستطاع أركان أن يقطع الصمت وهو يقول بتعثر فما ينطقه يرسل اليه طعنات متتالية لا تتوقف من الألم..لقد إنتصر مختار أخيراً وكسر أنفه ومرغ كبريائه ولكنه لم يعد يفرق معه أمام مكسبها هي سوف يتنازل عن أي شيء وكل شيء كما تنازلت هي:"سيد مختار أنا..أنا أسف.."

إرتد رأس مختار بصدمة..ولم يفهم لوهلة ما ينطق به أركان..والذي رفع وجهه..ينظر لملامح ديالا التي شحبت وشفتيها التي إرتجفت تهمس من بينهم بنفي رافض ما يقدم عليه..

كان أركان متألما..متشنجا..ومقهور حينما قال:

"أقدم إعتذاري عن كل ما بدر مني في حقك..وعلى إستعداد تام لأعوضك بعض من خسائرك..اذ أنني الآن لا أملك كل ما إسترديته منك؟!"

صمت لبرهة آخرى عندما سمع مختار يخبره بتعالي جاف:"ما الذي تحاول ان تصل اليه بتلك اللعبة السخيفة..تحلى ببعض الكرامة وطلقها وغادر من هنا"

أغلق أركان عينيه بقوة وفمه يتقوس راسماً خط من البؤس..مقاوم نفسه ومهذبها ولا ينفلت منه غضبه وطبعه الحاد..لم يفتح عينيه المطبقة وهو يقول بوجوم:"أنت إدعيت أنك خيرتني بينها وبين المال..مزوراً الحقائق متلاعب بغربتي وحاجتي..طاعن حبي لها في مقتل..ملوحاً في وجهي أني حتى لن أستطيع الإقتراب منها وإلا مصيري السجن والترحيل"

هتف مختار بغضب متوتر:"كاذب"!

فتح أركان عينيه أخيراً ينظر لعينيها الداكنتين المتألمتين ثم قال:"ربما أنا بي كل العيوب..ولكنكِ وحدكِ تعلمي أن الكذب لم أحمله يوماً..لم يعد بيدي يا ديالا ما أفعله أو أقوله إلا أني أحبك..وإن عاد الزمن وكنتِ أنتِ جزء من الصفقة..ربما كنت ترددت وحاربت من أجل مالي!ولكني أبداً لم أكن لأفرط فيك.."

أحست برعدة تسري في أوصالها..عندما إبتعد أخيراً عنها يعرج بتعب سامحاً له يطفو فوق السطح وقد فقد كل تماسكه..وصل أمام الباب..ولم ينسى أن يتوقف أخيراً ويلتفت اليهم ويخبرهم بإنهزام:"أسف على ما سببته لك يا سيد مختار..ان كان هذا سيريحك وأسف لإخبارك إفعل أنت وهي ما تقدران عليه ولكن أنا لن أطلق أبداً..لن أستطيع فعلها بنفسي..إن استغنيتِ أخيراً يا ديالا..أنا لم أكتفي بعد ولن أفعل أبداً طالما في صدري نفس يتردد"

*****************************

رغم مرور ساعات على تواصلهما الذي جعل شيء من المرارة يطفو الى السطح ليذكره ان لا فائدة مما يفعله..لا فائدة من أي شيء..وهو من هدم أطلالها وماحياً ذكرياتهما أو كما إعتقد في نفسه..مازال أيان يبكيها بداخله وينعي خسارة..يعرف يقيناً أنها ستستمر الى الأبد..ولكن رغم كل شيء..رسالتها الأخيرة المبهمة تحرق أحشائه تكويها بنار الذعر..اليد الناعمة التي لمست أنامله جعلته يجفل ساحباً كلا كفيه من فوق الحاسوب برد فعل غريزي..رفع وجهه بحدة فصدمه وجه سارة الممتقع ويديها التي أعادتها سريعاً الى صدرها تفركهم بحرج..حاول أن يرسم تلك الإبتسامة الدبلوماسية على فمه...وأشار بإصبعين نحو فمه ثم بباطن يده تحت ذقنه:"أنا أسف..كنتُ منهمك قليلاً في العمل"

حركت سارة شفتيها التي هربت منهما الدماء..ثم همست بخفوت أمام عينيه:"لا عليك..أنا من فاجأتك"

يكذب..وتعلم بطلان حجته..إذ أنه لم يكن يعمل أبداً..بل كان يفتح بعض ملفات ويغلقها بتتابع ليس لها معنى..ولمجرد لمسها إياه نفرها وكأنها نار أحرقته..مازال متباعد عنها..لا يمنحها فرصة للإقتراب رغم أنه أمام أهلها والناس أكثر مما يفعل..يأتي بالهدايا..يتناول معها الغداء أو حتى يتقبل دعوة والدها للعشاء..حتى والدته قد قابلتها بالفعل وَمِمَّا فاجأها وشعرت أنه صدمه هو شخصياً..ان المرأة متكلفة المظهر والحديث أحبتها ورحبت بها كإبنتها كما أخبرتها..ولكن هو..

شعرت سارة بطعم صدئ مرير يملأ صدرها ذابح مشاعرها وهي تعقد مقارنة بسيطة..بين رد فعله معها هي..ومع الأخرى السابقة..لقد رأته مراراً بعينيها يستغل الفرص في أي حفلة ليلمسها إصبعيها السبابة والوسطى دائماً ما كانت تستريح في راحة يده..كانت تعلم أن هذا الخطيب البارد معدم الكلام..هو رجل ناري الطباع يجيد كتابة الغزل..والتعامل ولكن يبدو أن طريقها طويل ومازالت الأخرى تسكنه..عكس ما إدعي هو كذباً

بطرف قلمه كان يطرق على كتفها فإبتسمت بألم على عادة لم يغيرها وكأنها مازالت مجرد مساعدة  لإمرأة بعد أشهر قليلة ستصبح زوجته:"ماذا هناك..هل أردتي شيئاً"

تمنت لو صرخت فيه:"أريدك أنت حق مكتسب لي كما عشمتني..ووضعت خاتمك بإصبعي ووعدتني بقلبك"

ولكنها عندما أشارت شرحت بهدوء:"لا..شيء فقط حديث معك إشتقت إليك..لقد تأخرت اليوم صباحاً..ولم ترد على رسائلي"

للحظة..أسقط في يده وهو ينظر اليها مجفلاً..كيف نسى أن يفتح الرسائل..التي وصله إشعار منها بمراسلته..ولكن وسط استغراقه في جنون رانيا نسي تماماً..فتح هاتفه وهو يشير كاذب بتوتر:"عفواً سارة سامحيني لم أنتبه عزيزتي"

أشارت سارة سريعاً بوجوم:"لا عليك..لا تهتم"

كيف لا يهتم؟!!يعلم أنه يظلمها وهو لا يريد لها الجرح يوماً..أجبر نفسه إجباراً أن يقف أمامها يمسك بيدها بين كفه ويطبق عليها في حركة ودية ويده الأخرى تُشير:"لا يجب أن أعتذار منك كيف لا أهتم وأنتِ اهم ما لديّ الآن ياسارة!"

ستكون من الغباء إن تخيلت بأنه شعربأي شيء من خلال إمساكه لها..بل كان الأمر أشبه بتطييب خاطر...

بينما نفس اليد أرسلت رجفه حب عميقه بداخلهاهي..عبر ملامسته العابرة لها..بينما هو كان تلامسه بارد متباعد..لم يحمل  أبداً ذلك الدفء الذي حملته كلماته المجاملة..ولكنها لا تملك إلا أن تصدق الكذبة وتبتسم وهي تهمس:"هل يمكننا اليوم السهر سوياً..في منزلي..لديّ ما أريه لك وأريد مشاركتك إياه من ذكريات طفولتي"

......................................

"أنت مازلت تحتفظ بالدمى خاصتي؟!"

صوتها الهادئ المنساب كان يصل لعينيه بكل خفه  منه..فتبرق بالعبث وهو يلتف وراء ظهرها ليحاوط  خَصرها بذراعيه..يطبع قبله على جانب عنقها قبل أن يمد يده بورقه كان كتبها سابقاً:"وزِدتُ عليها مجموعة جديدة..ولكنكِ لن تحصلي على إحداهم إلا أن قدمتي لي شيء يعجبني"

إستدارت بين ذراعيه وأسندت يديها على ساعديه بتلقائية..بينما قدها يميل للخلف متوازن على كفيه..وهي تشير ضاحكة:"وماذا سيكلفني هذا بالضبط ربما نستطيع عقد إتفاق جيد بحيث أحصل على ثلاثة أو أربعة في اليوم الواحد"

ازدادت عينيه عبثاً وهو يوازنها جيداً ليعيدها الى صدره ويشير بيده الأخرى غامزاً بطرف عينه:"أنا على إستعداد تماماً..وأنتِ وقُدرة تَحَمُلكِ؟!"

فلتت منه وهي تشهق بخجل عنيف:"يا قليل الأدب لم أقصد هذا الشيء..بل أنا أتحدث عن صناعة الطعام"

يده إمتدت يخلع قميصه ممرره من فوق رأسه قبل أن يندفع إليها فيلقيها فوق الفراش ويتبعها عندما راقب تحرك حلقها علم أنها تضحك بتلك الطريقة التي تأثره فأشار:"ولكني عنيت ذلك الشيء تماماً..وأنتِ في الموقع الصحيح"

عينيها لمعتا بشقاوة محببة وقالت:"أبعد تلك الدمى على الأقل لا تخدش براءة طفولتي"

كان يرتجف وهو يشير إليها بينما شفتيه تقبل باطن يدها:"لا تخافي أبداً على طفولتك فأنا أحفظها بداخلي..أتذكرها وأحبسها بذاكرتي..مكتفياً بها حتى عن ذكريات طفولتي أنا"

"أيان"

لم يستمع بالطبع ولكن يد سارة التي هزته أعادته من جولة ذكرياته "اللعنة" سب نفسه بصمت وهو ينظر لملامح سارة الثابته بتوترولسان حاله يقول:"أترى إكتشفت أنك في حضرتها ولا تستطيع حتى أن تتوقف عن سيل ذكرياتك مع امرأتك من مجرد كلمة عابرة!!تباً..تباً رانيا ليست امرأته بل سارة..سارة..رددها مذكراً نفسك لتجلدها بقسوة"

همست شفاه سارة أخيراً بإندفاع تقوده الغيرة الحارقة:"ماذا تعني لك زوجتك السابقة؟هل مازلت على تواصل معها؟؟أتتذكرها!!"

تصلب فك أيان..وإبتعد عنها خطوات..قبل ان يشير بحزم قاطع:"لا تعني لي شيء..أكثر من مطلقتي..حياتنا إنتهت ولن تعود وإن أطبقت السماء على الأرض..الأمر منتهي وإن كانت آخر إمرأة في العالم لن ألتفت إليها"

"ورغم معرفتها بكذب كلامه النابع من الغضب ولكنها شعرت بالإنتشاء مقنعة نفسها بالصدق فهي تحبه...ليس ذنبها أبداً أن قلبها دق له هو بالذات ومن يملك على القلوب سلطان لذا وبكل أنانية من حقها أن تأخذ فرصتها التي تنازلت عنها الأخرى بغباء

*********************

بقدر ما كانت تشعر أن قلبها يتمزق..لموافقتها على تلك الجلسة..بقدر ما كانت تجاهد أن لا يظهر النفور أو الرفض على ملامح وجهها بل كانت ترسم إبتسامة أنيقة باردة..وهي تسمع نقاش أبيها المتفاخر مع ذلك الطبيب ووالده..

والذي تنحنح أخيراً مجلياً صوته ليخبرها:"أُنسة رانيا بالطبع تذكرني؛ لقد كنتُ أراها في جامعة الكويت ولكن لم أكن أعلم أنها إبنة أعز صديق لوالدي.."

إمتعضت رانيا بداخلها دون أن ترد..لأنها تعلم جيداً أن ذلك الرجل لم يكن صديق لوالدها يوماً بل هي متأكدة تماماً..أن هناك صفقة عمل بينهما توشك على الحدوث..وكلا الطرفين يريدان تتويجها بالزواج.

"مدام رانيا يا دكتور رامي"صححت رانيا بوجه خالي من التعبير..

جعل مختار يعبث غاضباً موجها لها إشارة تحذير..للحظة واحدة فقط بهتت متراجعة عن ما تنتويه بخوف ولكن كل شيء تبدد وعاد يطفو على السطح عندما قال رامى:"لا بأس..أيام قليلة وتصبحي رانيا فقط دون ألقاب.."

رسم مختار إبتسامة متشجنة  وتولى الرد سريعاً عنها وهو يقول:"بالطبع  يا دكتور رامي..سيحدث هذا بإذن الله"

ابتسم رامي مرة أخرى وهو يقول:"أريد ..أن نتحدث على إنفراد هناك أشياء يجب أن نضع قواعدها أولاً!"

إختفت كل الإنفعالات من على وجه رانيا وهي تقول بوجوم:"قبل أي إنفراد دكتور  هل تعرف لم تم طلاقي من زوجي الذي أعشقه؟!"

هكذا وفِي لحظة تحولت الجلسة الهادئه لكتلة من التوتر المشتعل..هدر مختار محذراً:"رانيا"

ولكن رامي أجابها متصلباً وعقله يقف عند إقرارها بعشق لم ينتهي كما إدعى أبوها:"لا بأس..أنا أيضاً مطلق منذ عام وأعلم أنه مؤكد لم يحدث وفاق بينكما هذا طبيعي "

وقفت رانيا من جلستها تنظر لأبوها بإصرار يخالطه التمرد بقوة هشة تظهر بخجل على السطح فتتمسك بها بكل إرادة تحاوطها معرضة إياها للجحيم الذي ينبعث من داخلها ليصبح كيان صلب:"لا..لم أطلق لهذا السبب بل لأني خدعته؛أوهمته بما ليس فيه..منعته من الانجاب عبر خدعة"

تدخل والد رامي على الفور وهو يهدر بالقول:"ما الذي يحدث هنا يا مختار؟!هل أتيت بنا الى هنا لتسخر منا؟لقد قُلت أنك فاتحتها وهي أكثر من مرحبة"

تقدم مختار من إبنته محاولا جرها من الجلسة بعنف وهو يقول مهدداً:"يبدو أن شيء ما أثر بعقلها وتحتاج فقط للتعقل"

هتفت رانيا بإشمئزاز صارخ:"أنا لم أوافق على شيء أبي؛بل مازلت أحب زوجي؛ وأخبرتك اني لن أكون يوماً لسواه لقد فعلتها مرة وهربت معه,فلماذا تعتقد أني لن أكررها؟!"

توقف مختار مكانه وجسده يتصلب بعنف ودون تفكير كان يرفع يده ويضربها علي وجهها  مباشرة,الصفعة جعلت وزنها يختل خطوات وضعت يدها على وجنتها سريعاً وهي تعدل من وقفتها.. كانت عيناها تماثل الزجاج وهي تقلب نظرها في ثلاثتهم بصمت ودون مقدمات كانت تهبط يدها  الى جانبها كاشفة عن أصابعه الغاشمة التي تركت أثرها..ثم ما لبثت أن قالت أخيراً بتشفي مرير:"في الواقع؛أنا لا أصلح لك أولغيرك..لأني مجرد مطلقة عاقر"

نظر اليها مختار في ذهول وقال"ما الذي يدفعك جنونك لفعله؟!هل وصل بكِ اليأس للدفاع عن المعاق بإتهام نفسك؟"

لم تتحمل رانيا..ولم تتمهل أبداً وهي تصرخ بصوت مبحوح:"زوجي ليس معاق..ونعم أنا عاقر بسببك,رفضت وتكبرت على إبن الأبكم مستغلاً ضعف نفسي..فحرمني الله من الأطفال الى الأبد لا منه ولا من غيره"

"تعففت فعففت يا أبي.."

الضربة كانت قاتلة وهي إختارت الوقت والطريقة المناسبة تماماً لتخبره..سقط مختار على أقرب مقعد بجانبه منحني الرأس يهز رأسه برفض ولأول مرة كان يرفع عينيه يسألها بتوسل:"انتِ تكذبين تريدين الإنتقام له,هذا لا يمكن ان يحدث"

النوة البحرية التي هدمت الدنيا فوق رأسه هدأت فجأة..وجهها تحول للوحة رخامية شاحبة والهدوء في عينيها العسليتين يثيران الخوف..بل الرعب وهي تنطق بجمود:"الأشعات وتقرير الطبيب في غرفتي إن أردت التأكد..بل هو حدث نتيجة لما نفخته أنت كالسم في أذني وأنا إنجررت وراءك بقلة ضميرمني "

تحركت أخيراً تنوي الإبتعاد عن مكان أصبح يطبق على صدرها وقالت:

"أعتقد ان العرض انتهى أبي..وان كان أيان معاق..فأنا معطوبة..الكفتين تساوتا أخيراً..لذا أتمنى أن تهدأ وتنفذ صفقاتك وتجارتك بعيداً عني تماما"

******************

بعد شهر

كانت ديالا تهم للخروج من غرفتها ذاهبة الى جامعتها التي إنقطعت عنها منذ ما حدث مع أركان والذي إعتقدت يوم أن خرج من هنا مكسور الخاطر أنه لن يعود اليها أبداً..لكنه فعل لا تعلم تحديداً كيف تجرأت شقيقتها لتدخله ليلاً الى غرفة نومها متسللاً..لم يقوم بشيء ولم يتحدث حتى لا يزعجها مكتفياً بضمها اليه قليلا وقبلها هامساً في أذنيها بأنه لن يتركها!

"هل مازال لديك وقت"

إلتفت ديالا نحو أمها وهي تقول بصوت أجش:"نعم..هل هناك شيء أساعدك به قبل أن أنصرف؟"

إقتربت نوال منها تبتسم في وجهها بحنان وهي تقول بهدوء:

"لقد نضجتى يا ديالا..كبرتي وأصبحتِ إمرأة كاشفة عن أنوثتك الحقيقية والتي كانت تختفي تحت قناع هدوئك وقوتك"

إرتبكت ديالا وتوردت وجنتيها بطريقة نالت تعاطفها:"ماذا تقصدين؟ولمَ هذا الحديث الآن أنا إمرأة بالفعل منذ أعوام"

ضحكت نوال وهي تمد يدها نحو وجنة إبنتها تربت عليها بحنان وقالت بخفوت: "ربما أنا إبتعدت عنكن وفرطت فيكن تاركة إياه يتحكم فينا جميعاً ولكن أبداً لم أغفل..عن أشياء مهمة ومصيرية في حياة كل منكن"

ازدردت ريقها وهي تقول بصوت مختنق:"ما الذي تريديه يا أمي من كل هذا؟"

إبتسمت نوال وهي تقول بهدوء:"ما أريده منذ شهر كامل ان تكتفي من العناد وتعودي لزوجك..تستمعين اليه على الأقل..من أجل مصلحتك أنتِ لا هو"

قالت ديالا بجفاء:"لا تقولي أن تلك المصلحة تنحسر في زاوية أن لا أحمل لقب مطلقة"

إبتسمت نوال بمرارة وهي تقول بتهكم:"لا لن أنصحك بهذا أبداً وقد فعلتها أنا لسنوات سامحة لحب والدك أن يتحكم بي..الخوف من لقب مطلقة يظهر كوحش قاتل يجعلني أنزوى رعباً..على كل حال هذا ليس وقت الحديث عني الآن"

"بل أنا أريد منك أن تسمعيه لأنكِ تحبيه..ولأن أركان يستحق "

قالت ديالا بثبات:"لقد إكتفيت منه يا أمي ولم أعد أستطيع تحمل المزيد..ما فائدة ان أبني قصور بالرمال..من أقل موجة يتحطم ويغرق..وأركان موج بحر هائج ليس له أمان او قرار؟!"

حدقت فيها نوال طويلا قبل أن تقول ببساطة:"إذن إبني بيت بسيط دافئ وابتعدي عن ذلك الموج المتهور قليلاً..إرمي أساسك هنا بعيداً عن الرمال..وإذهبي أنتِ لتمدي يدك تهدئي إهتياجه..حتى تطوعيه بين يديك"

كبحت ديالا أفكارها الخاصة بينما تقول بعدم فهم:"ما الذي يعنيه هذا..لا أفهم؟!"

أخذت نوال نفس عميق..ثم قالت:"ما أعنيه سَمِعتُك قبلاً تنصحي به أختك لذا لن أعيد على أذنيك..ولكن ما أريدك أن تفكري به..امنحي زوجك فرصة أخيرة إستمعي اليه..تنازلي عن تهورك وعنادك..عرفيه مدى غلطه دون أن تبتعدي عنه او تبيعي قضيتك..أتعلمي قبلاً نصرتك وشجعتك على الطلاق منه إذ لا مبرر أبداً لخيانته ولكن الآن وبعد أن إختارك أنتِ مُثبتاً بكل الطرق الصعبة وبعد أن تفهمتي أنتِ بنفسك أن الأخرى لم تعني له شيء يوماً..لا يسعني إلا أن أخبرك..حاسبيه فقط على ما صدر منه في حقك منذ أن سكنتي بيته..او أطلقي صراحه وصراحك عبر مواجهة أخيرة أتم ِالطلاق منه بهدوء دون إهدار المزيد منك"

صمتت نوال مكتفية بوجه ديالا الذي شحب وإبتسامتها التي إنمحت تماماً عالمه ان إبنتها لن تستطيع الإبتعاد عن أركان يوماً..ولكن ما الذي تنوى فعله او تهدف اليه ومنذ متى علم أحد ما الذي تفكر فيه ديالا؟!!

عاد صوت نوال تقطع الصمت وهي تقول بألم:"لا تنسحبي وراء إنتقام والدكِ الأهوج..لأنه لا يعنيه وجعك بقدر أن يتشفى فيه..إياكِ يا ديالا ان تكسريه أكثر مما فعلتي..إن كنتِ تنوين العودة اليه..أمسكى خيوط اللعبة بيدك..تحكمي بها وتعلمي متى تشدي ذلك الحبل حد الاختناق..ومتى ترخيه حتى يخيل له انه طائر حر..يفعل ما يحلو له..ثم وبدون أدنى تردد تجذبيه عائداً اليك؟!

************************

كان أيان يرتدي ملابسه في غرفته في بيت أمه والتي عاد اليها مجبراً منذ أن باع منزله..وها هو الآن يقدم على تأسيس آخر ولكن هذة المرة بلمسات سارة الخاصة..تنفس بضيق يملأ صدره..هو يحاول بجهد أن لا يتجنى عليها ولكنه لم يستطع هناك شيء يمنعه..يقف حائل بينهما حتى عندما يجلسان ليختارا مجرد أريكة لا تعني شيء لا يستطيع حتى أن يجد نفسه فيها..ليس كما فعل مع رانيا يذكر أن كل شيء تم في أقل من أسبوعين..لقد كان كل ما يفعله بمتعة خالصة بفرحة لم يختبرها أبداً ولم يشعر بها قبلاً..

وقوف أمه في وجهه جعله يعقد حاجبيه بإستفهام..يبدو ان لديها ما تقوله..دخلت إيناس على الفور وهي تقول:"كيف عروسك الجميلة سارة؟"

إبتسم بسخرية وهو يشير:"بخير..أعتقد انك تحدثيها بشكل يومي ولا تحتاجي سؤالي"

إضطربت إيناس وهي تقول دون مراعاة:"تمهل وانت تشير لا أفهم أغلب معانيها"

تنهد أيان بصبر ولم يلتفت أو يقف عند طريقتها..وقد أصبحت شيء شب عليه منذ الصغر سحب ورقة من أمام المكتب وكتب بها ما قاله سابقا..وقدمها. لها قرأتها أيناس وهي تقول على الفور:"بالطبع ولكن لا ضرر من سؤالي عنها..الفتاة جميلة ومثقفة والأهم تحبك ومخلصة لك..انا إرتحت لها تماما..هذة من تمنيتها لك وليست الخائنة الأخرى عديمة الأصل والتربية "

تصلب أيان وهو ينظر لها بغضب أهوج مشير بتحذير شرس مع همهمة خرجت من داخل حلقه رغماً عنه:إياكِ وذكرها بسوء..أحذرك أنتِ وغيرك رانيا ستظل إمرأة كانت مني!"

تشنج وجه ايناس..وهي تقول مندفعة:"وأصبحت الأن من واحد غيرك...باعتك بالرخيص دون أن تنظر وراءها"

بهت وجهه أيان وبدا أنها أخذته على حين غرة فرفع كفه يديرها مستفسر:"ماذا تعني؟"

صمتت للحظات طويلة قبل ان تقول بغيظ:"أعني أنها خطبت لطبيب إبن صديق والدها بعد إنتهاء العده مباشرة رجل كانت تعرفه منذ أيام الكويت..ويخططان لحفل زواج قريب بالفعل؟!"

إحمر وجه أيان بغضب أهوج وشعور بغدر قاتل يغرس كسكين عنيفة بداخله..منذ. عدتها أي منذ ما يقارب الشهر..هل يستطيع أن يصدق هذا كيف ورسائلها المهددة..وجنونها الأهوج وردوده المتعثرة التي ترسل لها من وقت لآخر..كيف يستقيم الأمر وهي آثمة بالفعل؟!!

*********************

منذ أن خرجت من باب الجامعة بعد إنقطاع دام شهر كامل..توجهت الى شارع سان استيفانو تتمشى هناك على طول الشاطئ..كانت تشعر بروحها المتنازعة والمنهكة إنها تريد الغرق في صوت البحر ورائحة المالح...ولفحة الهواء الباردة الناعمة الآتية من موجه الهائج فتجعل روحها تستكين وتنطفئ براكينها..وقد فعلت..منذ نصف ساعة أو أكثر وصلت الي كبري"إستانلي"ممر العاشقين كما يطلق عليه..فتتوقف لبرهة تتأمل سحر الأزرق تحته وتغلق عينيها ثم تأخذ نفس عميق..فتستكين روحها المتعبة..يتخلل هدير البحر بين أوردتها ليشعرها أن مائه يختلط بمجرى دمائها فتمنحها قوة غريبة..لتكمل في الطريق الذي بدأته حتى وهي تتذكر وجه أركان المتألم..صوته المقهور وهو يقدم على ما فعله..يكسر نفسه من أجلها..ولكنها ببساطة لم تكتفي فليجرب قليلاً معنى أن يوئد الروح حية فليذق من نار سقم التي جعلها تتلظى بها لعامين ثم يختمها بزواجه من تلك الحية!

استشعرت رنين هاتفها فأخرجته من جيب معطفها..تجنبت الرسائل المعتادة ما بين مترجية لفرصة او مهددة وبعضها غاضبة شاتمة..ثم أجابت على الفور مكالمة شقيقتها التي قالت بقلق:"أين أنت لقد مررت على الجامعة ولم أجدك"

دفنت ديالا إحدى يديها في جيب معطفها وأجابت بهدوء:"كنت أحتاج لبعض السكينة ولن يمنحها لي إلا صوت البحر المرافق لرائحته.."

زفرت رانيا بتعب قبل ان تقول:"أخبرينى أين أنتِ تحديداً لآتى اليك..أحتاج انا الاخرى لوقت مستقطع..ما رأيك في غذاء معاً وربما أدعوك لتناول المثلجات؟!"

أجابتها ديالا زامة فمها بضيق:"لن أخبرك أين انا..تستطيعي رؤيتي في المنزل"

نظرت رانيا لذلك الذي ينكوي على الجانبين أمامها تهز كتفيها بعجز معتذرة قبل ان تسألها:"لماذا ديالا؟أنا أريد بعض الوقت معكِ حبيبتي بعيداً عن الجو الخانق..و"

قاطعتها ديالا وهي تقول بحزم:"أعلم أنكِ تساعديه..كما أني متأكدة أنه بجانبك وهو من يريد أن يستغل فرصة خروجي بعيداً عن مختار متعشماً أنه قد يؤثر علي ولكن فلتخبريه أنه يحلم؟!"

أغلقت الهاتف على الفور..دون أن تنتظر رد..ثم عادت تتأمل البحر بهدوء غير متراجعة في قرارها..

*****************

علي الطرف الآخر كان أركان يكاد يجن يتقافز مثل إحدى ذكور الشمبانزي في موسم التزواج والذي على الأرجح لم يجد أنثى واحدة توافق على الإتحاد معه..كتمت رانيا ضحكة أصبحت عزيزة على زيارة محياها..وهي تربط هذا التخيل بأركان الذي يقفز على قدم واحدة يلعن قلبه الأحمق تارة ويلعن معرفة أبيهما تارة ويدعو على ديالا تارة أخرى الأحمق؟!

"أعطينى مفاتيح سيارتك أعتقد أنى أعرف أين هي تلك الحمقاء"

تشنج وجه رانيا وهي تقول بإستنكار:"حمقاء؟!"

صمتت لبرهة ثم تابعت بحزم:"لا أسمح لك على فكرة...وليكن في معلوماتك انا أساعدك من أجلها هي لأني لا أريدها أن تقع فيما وقعت فيه انا..ولكني لن أسمح لك أبداً بأذيتها وانت تبدو قادر على هذا الآن"

تأمل أركان وجه رانيا الذي فقد كل بريق للحياة وكأنها كبرت لأعوام رغم محاولتها المستميتة لإثبات عكس هذا للتمسك بتغيير نظرة الجميع لها وأولهم نفسها وكأن روحها المعطوبة من الداخل تستبدل ببطء بأخرى..بها شيء ملموس ومحير لم يستطع الوصول اليه او فهمه ! ولكنه أكيد من ان حوريته تفعل؟!

تنهد أخيراً وهو يقول:"أؤذي روحي يا رانيا قبل أن أمسها بسوء..لقد فعلتُ أكثر شيء كنتُ أتخيل الموت ولا أقترب منه..ولكني تنازلت وحملت كفني وكبريائي من أجلها فكيف يخيل لكِ بقدرتي على هذا؟!"

بان التردد أكثر وأكثر على ملامحها قبل ان تتهور قليلا وتمنحه المفتاح لتخبره:"علي كلٍ أنت لن تعرف أين هي لا أحد يستطيع توقع ديالا..او يعرف ما يلمس روحها"

إختطف المفتاح منها على الفور قبل ان يقول بخشونة:"تحدثي عن نفسك وعن أهلك..لكن أنا أعلم أين أختك الآن وماذا تفعل بالظبط؟"

رفعت حاجب أنيق مستفسرة فأجابها وهو يرمي عكازه جانباً ويعرج نحو الباب بثقة للإستنغناء عنه وهو يقول:"هي تحديداً الآن في البلد"محطة الرمل"تتمشى في إستانلي وأنفقت كل ما في جيبها على بائع"الفريسكا"

نظرت رانيا في أثره وشبح إبتسامة يرتسم على شفتيها:"هو يهتم بالتفاصيل..ديالا محقة..الغبي الجاف يهتم ولكنه لم يكن كافٍ ربما هي تقف بجانبه محاولة لأول مرة إتخاذ دور في حياة أحدهم لتوازن الأمر ولكنها صادقة مع نفسها تفعلها من أجل شقيقتها فقط..ولكن إن كان عليه هو فهي مقتنعة تماماً بأنه يجب ان يدفع الثمن..همت أن تستدير لتخرج من المكتب تتابع العمل كالمعتاد..ولكنها وقفت متسمرة مكانها عينيها تجحظ بالألم بينما وجهها كان ساكن وخالي من أي تعبير..عكس قلبها الذي كان يهتز إثر طعنة بتوحش غير قادرة على إيقافه وهي تراقب ذلك الحبيب الغريب يدخل باب المطعم ويبدو أنه يصر ان يوئدها حية؟!

**********************

"ديالا؟!"

الصوت الأجش جعلها تلتفت ورائها..عقدت حاجبيها للحظات بتعجب عندما تعرفت على صاحبه..لم تكن في حالة تسمح لها بدخول أحد ما في دائرة الصمت التي لفتها ولكنها أجبرت شفتيها أن تنطق بترحيب باهت:"مرحبا سيد شهاب"

تقدم شهاب يقف مجاوراً لها لم يرهق نفسه أن يخرج يديه من جيب معطفه وإكتفى بالقول:"لقد مر وقت طويل منذ أن رأيتك..لماذا توقفتِ عن إدارة المطعم"

عادت ديالا تنظر للماء الجاري من تحت الجسر..بسكون قبل أن تهمس بخفوت:

"لقد عاد صاحبه..ولم يعد لي مكان هناك..تستطيع القول أنه حان دوري للعب في منطقة أخرى"

لم يكن شهاب بالغبي يوماً..بل إنه يعرف تماماً بما يجري بينهما وقد إلتقط بعض المعلومات التي يتنقلها بعض العاملين في المطعم بسرية تامة عبر النميمة عن مديرهم الشاب الذي طلق زوجته الثانية من أجل خاطر الأولي فعاقبته هي الأخرى برفع دعوة"خلع عليه"كتم إبتسامة تشفي وهو يتخيل متوحش الطباع يُخلع بسهولة من قِبل زوجته وليس حتى مجرد طلب طلاق...

تنحنح شهاب وهو يقول بلطف:"لقد كنتُ ماراً من هنا صدفة..عندما لمحتك"!

لم تلتفت اليه وهي تقول بنفس المجاملة:فرصة سعيدة اذاً أن رأيتك"

ساد هدوء نسبي لدقائق قبل ان يلفت نظر شهاب دفتر رسم متوسط الحجم تضعه على السور مثبتة إياه بكفها..فعاد ليجذب طرف الحديث معها لدقائق وقال:"أنتِ في فنون جميلة..كما اعتقد"

هزت رأسها مجيبة إياه دون أن تلتفت اليه..فمد يده يطالبها وهو يقول:"هل يمكنني أن أرى بعض من أعمالك"

جذب انتباهها بسهولة..عندما إستدارت إليه أخيراً بكامل جسدها..تمد يدها بما طلب بتردد..ثم قالت بثبات:"يمكنك بالطبع ولكنه يحمل بطياته بعض الصراعات الخاصة بي"

أخذه منها يفتحه على الفور يقلب بين صفحاته بإعجاب وهو يقول:"أنا أجيد الإنصات ولكني لا أفهم في علم النفس كثيراً...لذا يمكنك شرح تلك الصراعات وسأسمعك"

لوت ديالا شفتيها بإمتعاض وهي تقول:"وبأي صفة قد أشرح لك ما يجول بخاطري..يكفي ان جعلتك ترى خطوط فنانة عظيمة مثلي"

رغم أنه إلتقط المزاح في صوتها ولكنه رفع بصره ينظر لها بتدقيق جعلها ترتبك..وجنتيها الباردتين الشاحبتين توردتا بشكل ساحر وهو ينطق بتلكؤ متلاعب:"لو إحداهن نطقت بهذا كنت سخرت منها على الفور..ولكن انتِ يليق بك الغرور يا جنية؟!"

كان الهواء البارد يأتى بنسيم قوي محرك الأشياء من حولهم فطير بعض من أوراق دفترها..كاشف عن رسم وجه واحد بشكل متتابع بين الأوراق التي تقلب وراء بعضها..فمدت يدها تأخذه منه وهي تقول بثبات:"شكراً للمجاملة..ولكن من فضلك يا بش مهندس أنا لا أحبذ رفع الألقاب مع أحد هذا اللقب استثناء لزوج أختي..وأخي؟!"

تجنب شهاب ردها وهو يقول"زوج أختك...هل تعيشين معنا في نفس الكوكب..ألم يصلك تداعيات ما يحدث"

هزت ديالا رأسها بعنف وهي تحني رأسها تدس دفترها في حقيبتها القماشية لتخبره بهدوء:"فليستغبى كما يريد..كما كل بني جنسه..ولكني لن أعترف إلا أنه زوج أختي وسيظل"

ضحك شهاب بمرح وهو يقول:"مهلاً..أنا من بني جنسه أي أنني غبي"

رفعت وجهها على الفور تنظر له بنفس النظرة الممتعضة فتطاير شعرها حول وجهها محاوط عينيها..فقطعت ما تريد أن تقوله محاولة أن تزيحه عن مجال رؤيتها..لم يفكر شهاب إطلاقاً او يحسب خطواته عندما مد يده بتلقائية محاولا أن يساعدها..!

لم تكد تصل يديه ليلمس حتى تلك الخصلات العسلية الناعمة الكثيفة..وكان صوت عنيف جهوري يقصف بغضب أهوج"أنت تتجرأ وتلمس زوجتي؟!

نظر شهاب لذراعه التي علقت في كف الرجل الذي كان أشبه بثور هائج أجلى حنجرته واستدعى حواسه للقتال ولكنه لم يُمنح حتى حق تقرير القتال أو الرد..عندما سمع وشعر بعظام ذراعه تتهشم حرفياً وكأنها بعض أعواد من أغصان شجر يابس..لم يتحمل كم الألم عندما صرخ بصوت جهوري محاولا أن يخلص ذراعه بيده الأخرى ولكنه هيهات..عندما لكمه أركان بإهتياج مفاجئ وهو يكمل لاهثاً:"يا حقير كيف خَيل لك شيطانك انك تستطيع لمسها والوصول اليها..والله لا أتركك إلا وأنا قاتلك"

لم تكن ديالا أزاحت شعرها المتهدل بعد وهي ترفع كفيها تلطم وجنتيها بعنف"يا ويلّي"

عندما راقبت جسد شهاب الذي طرح أرضاً مختل توازنه..قفزت تقريبا على ظهر أركان محاولة أن تتمسك فيه بكل ما أوتيت من قوة وهي تصرخ به: "توقف..أتركه..يا كائن الغوريلا الأحمق..لم يلمسني ولم أكن لأسمح له يا أركان.."

ولكنه لم يسمع عندما مسك فيه شهاب بيده الأخرى مسيطراً على ألم ذراعه ضاربه في وجهه بقسوة..جعلت أركان يرتد خطوة للوراء..منتهزا الفرصة رفع قدمه محاول ان يوجه له ضربه في قدمه التي مازالت تحمل أثر لإصابته..صرخت ديالا مرة أخرى محاولة ان تمنع ذلك الجنون:"توقفا.."

ولكن أحدهما لم يستمع"أنتما تسيئا لي اللعنه علّيكما وعلى غباء الرجال جميعاً"

تدخل بعض الناس لإيقاف تشابكهم..ولم يفشلوا في مساعهم اذ بعد دقائق انفض ذلك الاشتباك..فسحبت ديالا نفسها سريعاً قبل أن يلتفت اليها كائن الغوريلا خاصتها..مشت مسرعة تغلي وتزبد وهي تتمتم بحنق:

"كان يوم أسود عندما فكرت ان استمتع بموج البحر"!

رغماً عنها حرقت الدموع عينيها..لم تلتفت للوراء أبداً بل ظلت على خطواتها المسرعة..لبضع دقائق..حتى إستطاع أخيراً أحد الباعة المتجولين إيقافها..على الطرف الأخر من الشارع السريع..توجهت على الفور..لأحد السلالم وهبطت بضع دراجات عابرة الممر الذي يقع أسفل الشارع تحت الأرض ثم صعدت مرة أخرى على المنفذ الأخر أوقفت البائع وهي تخرج ما في جيبها..تخبره بشهيق متقطع"اريد كل ما لديك..حظي سيء اليوم"

أنزل الرجل الكبينة الزجاجية المتنقلة التي يحملها على كتفه ولم يسأل أو يستعجب بل اخبرها بمحبه"أمرك يا ست الكل"

قالت على الفور وهي تتناول منه أحد الحبات وتلقيها في فمها علها تخفف عنها الجنون الذي رأته"تقصد متعوسة الحظ خائبة المسعى"

هم البائع أن يخبرها بشيء ما يخفف عنها عندما راقب رجل ضخم طويل يشرف عليها من علو ويده تحاوط خَصرها يخبرها بصوت مكتوم:"بل الجاحدة..الجافية عديمة القلب.."

إستدارت ديالا على الفور ترفع وجهها وهي تصرخ فيه بهستيرية:"إبتعد عني حالاً..إياك أن تتجرأ وتلمسني"

أمسك أركان بكتفيها يهزها بعنف وهو يصرخ فيها مفاجئها بجنونه:"لا يحق لي لمسك لكن هو يحق له أن يسرح بيديه على شعرك يا ديالا"

نظرت إليه مدعية الذهول وقالت ناوية على إستفزازه وكأنه مجنون يهزي:

"لقد كان به الخير ويساعدني..لم يكن بالأمر الجلل"

بدأ بعض الناس في التجمع..فنفخ بغيظ قبل أن يشد ذراعها بعنف ويخبرها:

"أنتِ ستأتى معي لقد إكتفيت منكِ..وأقسم يا ديالا إنك لن تخرجي من عندي إلا وعقلك عائد إليك "

شدت ديالا منه يدها بقوة ثم تخصرت وهي تقول:"نعم يا أستاذ أركان وهل أنا مجنونة..لقد كنتُ حمقاء بالفعل عندما عرفتك ولكني الآن فقط تعقلت وها أنا أصحح خطأي"

جذ على أسنانه وهو يعود يطبق على يدها ويخبرها:

"هيا أمامي لن أحاسبك هنا"

هتفت فيه"أتركني"

جرها بضع خطوات"لن يحدث"

أومأت برأسها وهي تقول بتشنج:"جرب الجنون الحقيقى اذن"

لم تفكر إطلاقاً عندما إرتفع صراخها..وأنينها مستنجده ومستعطفه: "أجيروني..النجدة,عدو أبي يحاول خطفي.."

إنخرطت في البكاء والعويل دافعه اليه صدمة..لم يمهل البشر وقت طويل عندما تجمعوا بالفعل مخلصين إياها منه..توقف الطريق محدث أزمة مرورية..وتجمهر الناس حول أركان صرخ بعنف:"إنها زوجتي...زوجتي"

أنكرت ديالا التي ضمتها بعض النساء الى صدرها بحماية:"يكذب ولا أعرفه..أنا مازلت أنسة"

رغم تكالب الناس عليه ممسكين إياه من ملابسه وكأنه حرامي ضبط في سطح أحد المنازل نظر اليها بإستنكار جلل وهو يقول:"أُنسة؟!ألا تخجلين أمامي وانتِ تدعي تلك الكذبة"

نظرت اليه بصدمة ووجهها يتورد تلقائيا معيداً اليها ضخ الدماء في كل إنش منها..ثم قالت بإنتقام:"اشهدو بأنفسكم ها هو يحاول أن يشوه سمعتي أيضاً.."

صمتت ثم أشارت اليه بإتهام:"كيف تجرؤ.."

إنهال عليه السباب من كل مكان ومحاولة جذبه من جميع أنحاء ملابسه والبعض تطرف ان يمنحه قبضة في معدته او على صدره...!

كانت ديالا في تلك اللحظة تشعر بلذة إنتصار وشماته تبددت سريعاً. عندما رأته يلهث تقريبا ليدافع عن نفسه وسط كل هذا الكم من الناس..فأفلتت نفسها من النسوة وإقتحمت تلك المعركة التي كادت أن تفتك به..عادت للصراخ مرة أخرى:

"توقفوا توقفوا..لقد تذكرت أنه زوجي"

وكما جرت العادة الناس ما تصدق أن تجد معركة لتشبع فيها لطم البعض تركه وإنسحب على الفور شاتم جميع النساء وجنونهن والبعض الآخر أصر أن يمسك فى خناقه..يديه طواعية حاوطتها ليحميها من أي غبي قد تطولها يديه بينما يجهر بصوته:"ستحاسبين..أقسم يا ديالا أن لا أرحمك على كل هذا"

......

لم يمر وقت طويل حتى وصل بها يجُرها خلفه الى سيارة رانيا..

نطق أخيراً بجفاء"أنا يا ديالا تجمعين الناس علي لضربي"

مطت شفتيها ببرود وهي تقول:"انت من حاولت أن تلمسني وأنا أرفض هذه الحجة أني زوجتك لا تمحنك الحق أبداً لهذا تستحق ما طالك"

رفع أركان وجهه الذي ناله ما ناله بجانب تلك الندوب لحادثته السابقة..لم يستطع ان يرد وقد أسقط بيده وكأنه أمام معتوهة لم يعرفها أبداً:"أنتِ جننتِ بالفعل"

مطت شفتيها بإمتعاض وهي تقول:"الجنون الحقيقي لم تراه بعد يا عزيزي لأني وبكل صراحة كنتُ أريد أن أقترب وأشاركهم ضربك"

فغر فاهه بذهول..وشعر بالعجز مرة أخرى اذ كان مجبر أن يحجم جحيم غضبه معها مؤقتاً حتى يحصل عليها بمكان ما أراد:"أوصلني لبيت أبي حالاً لم أعد أطيق أن أبقى معك في مكان واحد أكثر من هذا"

فتح فمه يرد عليها بغيظ وهو يتذكر إهتمامها الجلل بأن تعود لبائع الفريسكا لتأخذ منه كل ما لديه في"زكيبتها"العزيزة..لقد كان الأمر أهم لديها من أن يتخلص هو من تلك الجموع التي تصر على ضربه"إنسي بيت مختار وحافظي على مؤنتك من الطعام تلك..لأنى لدي حساب طويل معك.."

صمت لبرهة واحدة ثم تابع على الفور من بين أسنانه قاطع عليها أي طريق للرد:"قد أغفر لكِ أي شيء..أي شيء يا ديالا..إلا إدعائك أنكِ أنسه وإنكار مجهودي وتعبي ليلة كاملة وصباحها"

إمتعضت ديالا على الفور ورغم إحراجها ردت قاصفة إياه:"وما بالك تقولها بفخر هكذا يا حبيبي..لقد إستغرقت منك تلك الليلة محاولات عامين كاملين وكانت تكلل بالفشل او بتشنج عضلي..هل نسيت محاولة المشفى؟!"

سيقتلها..سيجذب ذلك اللسان ويكفنها به قبل أن يدفنها!!عندما نطق أركان أخيراً كان يقول بتلك النبرة المرعبة والتي تجعل همجيته تطفو على السطح:"لا يهم يا ديالا نصف ساعة أخرى..ولن أرحمك لكل ما فعليته بي...بذكر هذان العامان انا لم أفشل بل إبتعدت محافظاً عليكِ من تطرف غضبي..ولكن طالما أنتِ لا تَكُفِي عن التلميح لعلةٍ ما في رجولتي فيجب أن تجربي بنفسك كذب نظريتك؟!"

توترت وهي تقول:"أنا لم أقصد شيء كان مجرد رد على كلامك..والآن أعدني"

قاطعها وهو يشغل محرك السيارة:"أخرسي"

..................................

كانت رانيا تدور في غرفة المكتب شاعرة أنها حيوان صغير مذعور حشرة في الزواية لم تستطع أن تخرج وتواجهه..مصدومة أنه أتى الى هنا..الى مكان يملكه أركان وتعمل به هي!!ربما رسائلها لم تتوقف في ما بين مهددة ومذكرة وأخرى غاضبة متهمة..لن تنكر انها وجدت به متنفس لوحدتها لوجعها..كان قلبها يتقلص بالألم وهي تذكر أن كل يوم يقضيه بعيداً عنها قريب من الأخرى فهي تفقده ولكنها لم تستطع الإقتراب منه الآن ومواجهته..يجب أن تتسلح اولاً بكل دروع دفاعها..حتى لا تستسلم سريعاً في حربها معه..أم ربما ما تعرفه الآن عن حالتها الطبية ضربها في مقتل شاعرها بالمرارة بالظلم إن إقتربت منه مرة أخرى..

شهقت رانيا بصوت عالي وهي تقفز من مكانها..عندما فتح باب المكتب فجأة وأطل منه ما كانت تتهرب منه منذ ساعة او أكثر..

كان النادل يتبعه وهو يقول مانعاً إياه:"يا سيد هذا ممنوع..إلتفت اليّ انا أحدثك"

أشار أيان بغضب:"أخبريه أني أخرس لذا لن أرد عليه..ولا يعنيني قوانينه"

توسعت عينا رانيا بصدمة قبل ان تبتلع ريقها الجاف وهي تشير للنادل مخبره اياه:"غادر انت..البشمهندس أيان ليس غريب إنه صديق قديم"

إرتسمت السخرية القاسية على فم أيان وهو يسمع وصفه الجديد ..صديق؟! تقدم يخطو للداخل مغلق الباب ورائه..كانت رانيا تشعر بالتخبط من سبب وجوده..بأنها  تغرق شيئاً فشيئا..دون توقف في حدة مشاعرها رباااااه متى أصبحت تخاف مواجهة أيان؟!بل ربما هي فقط مرتعبة من فكرة إهانتها منه مرة أخرى ان يكون أتى ليوقفها عن ذلك التواصل اليتيم بينهما..ولكنه هو الذي يتجاوب معها مشجعها على الإستمرار..

تمالكت نفسها وهي تقول أخيراً:"هل هناك خدمة أستطيع أن أقدمها لك؟!"

كلماتها الجافة أثارت غضبه.. وجودها هنا في مكان أركان تعمل معه رؤيتها حقيقة في محل يحمل رائحة خطيبها السابق أشعل النار بأحشائه.. كيف إستطاع ان يقاوم منذ أن علم ألا يعترض أشار أخيراً:"اذكرك انك وعدتِ وأقسمتِ..ان لا تقتربي  من محيط أركان أبداً وها انتِ تعملي معه"

رفعت رانيا حاجبيها بتعجب ثم قالت بتلقائية بسيطة:"لقد نكست الكثير من وعودي معك كما فعلت أنت..لذا بوقوع الطلاق أنا تحررت  من أي وعد أطلقته؟!"

كان الشرر يخرج من عينيه حارقاً متهوراً أهوج..قست ملامحه بدرجة مخيفة وهو يسمح لنفسه ويقترب أكثر يمد يده جاذب كفيها بعنف متفحصهما..يقلب فيهما بجنون وكأن عمى أصابه ليدرك أن لا شيء هناك إلا خاتم زواجها منه هو..لم يشعر بنفسه وهو يمررأنامله على ذلك الخاتم بقسوة وكأنه يتأكد من إنتمائه اليه..ثم إبتعد أخيراً يصرخ فيها بأصواته المبهمة مع ترافق يديه التي تشير بإتهام:"أنتِ خُطبتِ لطبيب فور أن أخبرتك أن تبحثي عن رجل كامل لم تكذبي خبر..وتتبجحي بحبي وتتهميني بالخيانة..وانتِ غادرة خائنة..وضيعة!"

فغرت رانيا فاهها بذهول يتعاقب على وجهها كل أنواع الألم..للحظات طويلة سمعت زئيره تفهم إشاراته وتكذب عينيها..

"كيف تجرؤين على الارتباط بآخر وان تتشدقي بحبي أخبريني رانيا هل هذا ما خططت له منذ البداية الغدر بي..حتى تحصلين على رجل سليم يمنحك طفل مثالي"

النار كانت تفتك بأحشائه مجرد تخيلها مع رجل آخر..يكتشف أسرار أنوثتها التي تفتحت على يديه..يملكها ويلمس روحها..يعرفها رانيا مجردة بعيداً عن غدرها به رجل آخر يذرع بذرة منه داخل أحشائها وهي تستقبلها بكل ترحيب جعلت إياه يتحول وكل حواسه تحثه على القتل..

أزاحته رانيا  وإتهاماته تقتلها في الصميم..لم تشعر بنفسها وهي تعود  تضربه بكلا كفيها علي صدره بعنف تصرخ فيه بقهر:"عن ماذا تتحدث يا غبي هل تذكرت الآن أن آخر سيتملكني..سيكشف مني ما كان متاح لك وحدك..رجل أصبح أنا إمرأة حياته ويأمني على أطفاله..."

أمسك كفيها بيده صارخاً فيها مشيراً بعنف:"توقفي عن كلامك القذر"

إرتجفت شفتها السفلي ولم يتراجع غضبها إنش واحد وهي تهتف:"لا تلومني الآن وانت بنفسك من طلبت مني يا أيان أنت من تخيلتني أنا بين ذراعي آخر..ألست أنت من طلبت هذا..أخبرتني بكل برود أنك أكتفيت بأخرى وأني لم أعد أفرق لديك..أنا من حقي أن أبحث عن حياتي مثلك؟!"

أمسك كتفيها يهزها بعنف وهو يحرك رأسه برفض:"ليس برجل آخر..أنتِ لن تستبدليني برجل آخر لا أستطيع أبداً التعايش مع مجرد الفكرة."

كم تمنى في تلك اللحظة ان يكون صوته مفسراً..علها تسمع ما يخبرها إياه..لا تعلم تحديداً ما سر الجنون الذي تلبسها ربما الضغط الهائل الذي تتعرض له من الجميع..أم ذلك الحزن الذي أصبح يعشش بداخلها رافض ان يتركها"نعم سأتزوج يا أيان..سأبحث عن نفسي..سأمنح رجل آخر كل ذرة مني كانت لك وحدك..كما انت منحت ما هو لي لأخرى"

كان يلهت أنفاسه غير طبيعية اطلاقاً بدا من الجنون في تلك اللحظة أن يراقب ما تخرجه تلك الشفتين الأثمتين..كان يجرح ويشعر ان كلامها كالمشارط الحادة تمزقه..يفقد كل ذرة تماسك لديه يراقب فمها الذي يسبه تارة..وينفي تارة أخرى..ويشرح بإستفاضة خيالاتها مع آخر لم يعلم انه كان يشير مهدداً منذ وقت"أصمتي..أصمتي"

ولكنها لم تصمت بل استمرت في الصراخ في التهديد كأنها كائن متوحش لم يعرفه يوماً..شعر أيان بأن كليهما ألقيّ في حفرة من الوجع لا فرار منها وأنهما لن يكفا عن جلد بعضمها بالكلام ساقطين..وساقطين لأسفل الدرك..نظر إليها وقد كف هو عن صراخه شفتيها بهتاف  حاد حتى خُيل له أنها على وشك الإنهيار..لم يفهم معظم ما تقوله ولم يفكر مرتين عندما جذبها نحوه حتى إلتصقت بصدره غير مدرك حتى لما كان يفعله أحنى رأسه نحو شفتيها..وقبلها..



قراءة سعيدة

ملحوظة
وجب التوضيح ورد في الفصل العاشر خاطرة علي لسان أيان الخاطرة بقلم " أسراء محمد"

همس الموجحيث تعيش القصص. اكتشف الآن