الفصل العاشر

2.2K 81 3
                                    

الفصل التاسع



كانت تُحدق في الفراش الذى ترك أركان أثرها عليه منذ وقت فقدت الشعور بتقديره!! الدليل القاطع الذي يصفعها بحقيقة قدرها في عينيه ليحيل ليلتها الغرامية التي ظنتها البداية الى ذكرى خداع...منحها الدليل الحي بأنها عاشقة غبية..امرأة ضعيفة قيدها الحب لتمتهن دون حساب دون توقف حتى أصبحت لعبة بين يديه يرميها متى أراد يُلقيها تحت قدميه داعسها متى يحب..ويعود بإشارة من إصبعه مناجيها لتمنحه الغفران يليه صك الامتلاك...لقد عرف أركان كيف يملكها و يتحكم في نبض قلبها...كيف يحولها لكيان هش جائع للحب..للإهتمام

لقد منحته دون حساب أوعقاب...طامعة في إستقرار وأمان لم تحصل عليه يوماً..لقد أحبها أركان ولكن بشروطه..بحججه..بخداعه وهو ما لن تغفره له يوماً!

لم تدرك أن جسدها تحول لقطعة من الحجر عينيها تلمع بها دموع أبت من تلقاء نفسها أن تهبط..حتى وهي تدرك الآن فقط وبحسبه بسيطة أن تفعيل زواجه منها كان ليضمن تكبيلها به لربطها أكثر وأكثر إليه...لم يكن هذا الغرام من أجلها هي بل من أجل قلبه هو...لقد بحث أركان فيها عن نفسه عن رغبته ولكن متى تحدث عنها هي؟!هل كانت من الغباء واللهفة ألا تدرك أنانيته فيها؟!كيف سلمت لرجل أخذ من ضعفها سلاح ضدها يحاربها به لتخضع له..ليتحكم فيها ويحركها كما يهوى...غير مبالي بجرحها الذي لم يشفى..

"كيف لم أدرك أنك أضعت نفسي مني..من يوم معرفتي بك؟!"

"أغلقت عينيها وهي تستشعر القبضة التي أحاطت ذراعها..كاتمة إنتفاضة جسدها الذي أفاق قليلاً..قليلاً فقط من تحجره ليشعرها بواقعها المر الذي أصبحت فيه..عندما أحست بقبضته تؤلمها تعتصر لحمها متخللة عظامها...وصوته المكتوم يخرج من بين أسنانه:"أين كنت؟لقد كدتُ أفقد عقلي..بحثت عنكِ حتى هاتفك لم تردي عليه"

استدارت اليه بوجه شاحب هربت الدماء منه فإستحال لقطعة من رخام ضربت صدره في مقتل مجتاحة جسده برعشة قلق مبهمة..إستشعر فيها الاحساس بشيء سيء لم يكن أبداً على إستعداد لمواجهته عندما قالت بنبرة مفرغه:"كُنتُ أنتظرك..حتى مل الصبر مني..وليتني لم أفعل وسمعت صوت العقل الذي أخبرني بخسارتي المسبقة؟!"

توقف قلبه عن الخفقان وهو يحدق بها فاقد الأنفاس..إرتخت يده من حولها ليستبدلها بمحاوطة كتفيها بحنان ثم ما لبث أن قال بصوت أجش وضع فيه كل ما يملك من سيطرة على الذات يوماً متهرباً مما إستشعره:

"عندما إستيقظت لم أجدك..فإعتقدت أنكِ بالأسفل عند أمي"

لم تبتعد عنه بل إحتل وجهها بجانب المرارة السخرية وهي تقول:"حقاً !ولماذا قد أذهب لأمك بعد ما منحتك إياه؟!بل كُنتُ أحتاج لرؤية أبي..وليتني فعلتها قبل أن أتنازل لك عن آخر ما تبقى من نفسي"

رفع يده الأخرى ليقبض على ذراعيها بقوة ورعب إجتاح جسده مصفوعاً بكلماتها...حدق فيها بذهول..متهرباً من الأمر كله وبنبرة غير واثقة قال:"ظننتكِ قد تحتاجيها كأي فتاة في موقفك"

كانت باردة بين يديه متباعدة قاسية كما لم يعهدها من قبل:"إنها أمك أنت وليست أمي!بل كان كل ما أحتاجه هو أبي ليفيقني من كذبة رميت نفسي بها منتحرة بين هياج أمواجها..تُدعى أنت؟!"

إختفت الأصوات كلها من حوله وتوقف الصوت الداخلي لعقله والذي أخبره بوقوع ما كان يرعبه ولم يبقى إلا ماقالته..أبى!!وكذب حبه :

"أنا لم أكن يوماً كذبة وأنتِ تعلمي هذا وإلا ما كنت قرأتيني ككتاب مفتوح وحللتي ألغازي مؤمنة..متأكدة أنني مهما فعلت سأعود اليك!"

قالت مغمغمة:"كذبت...أنا خدعت نفسي ولم أدرك أني من البداية لا أساوي شيء في حياتك..لم أعني لك أكثر من فتاة صغيرة لهوت بها مُضيعاً وقتك،لم تستحق منك قليلاً من الجهد أوالدفاع !"

ضيق عينيه وبريق شرس يُطل منهما وحاول أن يتجاهل الضجيج الذي يلف صدره وقال:"بماذا أخبرك يا ديالا؟!ولماذا لم تنتظريني لنذهب سوياً كما إتفقنا؟!"

أياً كانت الإجابة التي توقعها لم يكن أبداً أن يكون رد فعلها ضحك هستيري ..... نفضت  يديه بعنف لتبتعد عنه خطوات تتجه نحو الفراش..ومثلما بدأ ضحكها توقف كما توقف كل شيء بينهما تماماً. الصمت المرعب لف أرجاء الغرفة حولهما..بكل ما إستطاع ان يجمعه من رباطة جأش ...حاول ان يمنحها وقتها و يحتوي لحظات تمردها وضعفها او حتى صدمتها...أياً ما كانت تعانيه ديالا في تلك اللحظة سيبذل حتى آخر أنفاسه أن لا يجعلها تتهور أو يخسرها!؟

لم تُدرك أن دموعها تهبط بغزارة فوق وجنتيها الشاحبتين..وهي من قاومت بشدة أن لا تجعله يرى لحظات ضعفها مرة أخرى...جسدها المهتز بالبكاء فضح ما كانت تُحاول أن تخفيه عنه...لقد كان مرتبك..مضطرب تائه...يجهل حتى كيف يحتوي ذلك الألم؟!!عندما تقدم منها رامياً بعكازه جانباً تحول نحو الفراش أولاً...يجذب الغطاء سريعاً يداري الأثر الذي تُحدق فيه قاطعاً أياً ما يدور في عقلها بتلك اللحظة..

عندما رفع أركان عينيه الداكنتين نحو عينيها ليرى تلك النظرة المظلمة...اهتز حتى الأعماق وقد أدرك أن أياً ما كان أخبرها به ذلك الشيطان فهو وحده من سيدفع الثمن..

قطع تلك الخطوة بينهما..ولم يتردد لحظة أن يمد يده خلف رأسها ليغرس أنامله في شعرها الغزير ثم جذبها ليدفنها في صدره..أغلق جفنيه زافراً بحرقة عندما تقبضت يديها ممسكة بقميصه..ثم ما لبث ان قال بصوت مكتوم:"هل تذكرين وعدكِ لي...انك من القوة لتجعليني لا أخسرك...أياً ما كان قد حدث يمكننا معالجته فقط إمنحيني فرصة ثانية ديالا!"

تمتمت من بين طيات قميصه بصوت مختنق:

"لقد منحتك...منحتك فوق ما تتحمل طاقتي...أعطيتك حتى إستنزفت آخر قطرة مني...لقد وهبتك أكثر مما قد تستطيع أنثى التنازل عنه..وماذا جنيت لا شيء..لقد حان الوقت الذي أعترف فيه بهزيمتي"

ذراعه الأخرى إلتفت حول ذراعيها بذعر ليضمها اليه حتى شعر بالألم في أضلعه...بعكس خشونة صوته الذي هدر فيها:"كفى حديث بالألغاز..عن أي هزيمة تتحدثي؟!!لن أسمح لكِ بالتراجع الآن أو الخسارة..ولابهدم علاقتنا بعد ان وصلنا أخيراً لبر أمان ثابت"

أزاحته بحدة غير مبالية بهدير قلبه الذي كان صاخباً(نبضات قلبه الذي كُسِر)

نظر لعينيها رباااه!!لم تكن أبداً تلك العينان التي عشقتها وآمنت بها وحاربت الجميع لتبقى في انتظاره..لم تكن أبداً تلك المرأة التي ضمها بين يديه...تلك الحبيبة التي كان يتهرب من حبها ويرتكب المعاصي نحوها وهو مؤمن انه سيعود ليجدها طوع يديه...راقبها تمسح وجهها بعنف وكأنها تريد إخفاء تلك الدموع التي زُرِفت من أجله ثم قالت بصوت ثابت لم يكن لإهتزاز مشاعرها أثر به فهزه هو بقسوة:"إن لم تهرب منك رانيا ليلة الزفاف وفزت بها وبمالك...ما كان موقعي من الإعراب لديك يا أركان..هل كُنتَ ستستمر في حبي و الإعتماد على غفراني أم هل صور لك عقلك اني كُنت سأخون أختي وأستمر في منحك قلبي ونفسي مثلما خنت أنت عهد كان غير منطوق بيننا؟!"

عيناه لم تفارق عيناها..ذاهلاً مصدوماً بسؤال كانت إجابته أقسى مما قد تتحمله ديالا وأعنف من أن يطاوعه قلبه ان يخبرها به...صرخ فيها هادراً:"اللعنة ديالا..لقد إنتهى الأمر وأنتِ زوجتي...لماذا تريدى تعذيب كلينا؟"

صرخت هي الأخرى بهستيريا:"اللعنة تحترق بها وحدك..لقد سأمت منك ومن غدرك؛من تهربك لأنني لم أعني لك يوماً شيء إلا صفقة خاسرة هربت من تحملها و إختيارها فور أن وضِعَت أمام حفنة من المال"

لم تتغير نبرة صوته الذي لف أرجاء المكان:"عن أي إختيار تتحدثي؟!لقد أخبرتك أنكِ لم تكوني في حسابات مختار يوماً"

نبرة صوتها ماثلته علو وكأنهما في صراع قوي لا تنازل فيه:"ولم أكن في حساباتك أيضاً..كان إيماني الخيالي في الغرام مزعزعاً أو غير موجود من الأساس"

وصل الي حافة الهاوية وهو يهدر فيها :"إن كنت رفضت الإختيار كُنتُ خسرت كل شيء فأقنعتُ نفسي بأن أتمم الزواج منها لأدمرها وأعيدها اليه ثم ابتعد غير ملتفت حتى إليكِ أنتِ"!

توسع حدقتيها وتجمد الشعوربهما جعله يدرك ما صرح به فتوقف عن الحديث..رفع كفيه يخبط على وجهه بذهول وقهر ثم أكمل بعصبية و بإقرار بالذنب ومصارحة كان ينتويها وليته فعل:"أقنعت عقلي وقلبي أنكِ مجرد مراهقة حلوة المعشر لم أحبك..لم تمثلي لي شيء وعندما لوى والدكِ ذراعي مستغلاً قلة حيلتي وقتها ثارت كرامتي لرجولتي وأخذت على نفسي عهد أن أتخلص من كل ما ينتمي لمختار الزيني عقب أن أنتقم لنفسي وأدمره"

كانت كل ذرة في كيانها تتألم بعجز...تلهث بإنفعال وأنكسار لن يُجبرأبداً فتمتمت بقهر:"أي أني لم أكن بحساباتك من الأساس !!لكن القدر عاندك وألقاني إليك!! بالنهاية الفتاة المنبوذة من أسرتها والتي وعدتها بإحتواء مستغلاً ضعفها وحاجتها لم تكن تعني لك شيئاً لذا تركتها بنصف الطريق غير مبالي بمصيرها"

كان يقف في مواجهتها ثابت كقطعة من الصخر..ولكنه صخر تحول لكومة من تراب منهار داخلياً وهو يقول بإقرار:"لا كنتِ كل شيء..بل إعتقدت اني وجدت مكافأتي أخيراً بعد طول غربة وشقاء..بعد طريق طويل من الهوان قطعته وحدي ولكن كذبتُ على نفسي فأقنعتها أنكِ لم تعني لي ذلك القدر وتهربت منكِ بكل قسوة ظالماً لنفسي قبل ان أظلمك أنتِ"

صمت لبرهة ملتقطاً لأنفاسه ونظر اليها بإستسلام ثم أردف:"إنه كاذب..كنت أعلم أنه لن يتركني أنتصر عليه و أفوز بكِ قبل المال الذي خيرني بينه ورانيا أو لا شيء...أنتِ كُنتِ خارج الإختيار من الأساس..لم يضعك في أي مقارنة"

كانت وكأنها تريد بالفعل أن تخسر كل شيء معه وكأنها أخيراً فاض بها الكيل وما عادت تريد إكمال هذا الطريق عندما قالت بتصلب:"وإن فعل..وخيرك كما أخبرني..وإن كُنت أنا أو مالك فمن كنت ستختار؟"

عاد يهتف فيها بجنون:"هذا غير عادل..غير عادل أنتِ غير منصفة"

توسعت عينيها وهي تحدق به مصدومة ومدركة الإجابة التي لم ينطقها فحاول أن يسيطر على جنونه موضحاً بتوتر جعله يفقد كل ذرة تعاطف لديها:"إسمعى..ربما أنا بخست بقدرك في قلبي كابرت ضد نفسي مجازفاً لإنقاذ مالي شقى عمري الذي تذوقت الأهوال حتى أحصل عليه..ولكن أبداً لم تكوني أنتِ المقابل لأنه بكل الطرق لم يضعكِ كإختيار لي وأنا لم أفكر أن أضعك في تلك المقارنة"

للحظات طويلة كانت تحدق فيه متجمدة فمها فاغر بذهول كمن يرى ويشعر بروحه تفارقه وتُسحب منه وهو عاجز ضعيف عن الدفاع عن نفسه فإستسلم لحرمانه من الحياة!!

إقترب منها خطوة أخرى ومد يده الكبيرة الدافئة نحو وجنتها ووجهه يتلون بكل ألوان القهر فإرتعد جسدها بسبب لمسته وهي تطلق شهيق عالٍ أشبه بصرخة توسل لعل أحد ينقذ روحها المسكينة التي تتمزق بمشارط الغدر..إبتعدت عنه خطوة أخرى و بضعف يمس شغاف القلب وعينين تفيض بدمع المرارة أخيراً همست دون أن تدرك:"لقد كُنتُ أموت كل ليلة في إنتظارك بينما انت تستبدلني بحفنة من المال!!"

ابتلع غصة في حلقه وهو يقول بيأس:"ديالا..لم أستبدلك"

كان كل جسدها يرتعش وهي تقول بإختناق:"وإن صدقتك أنت وكذبته هو..هل هذا سيغير شيء؟!أنت كُنتَ تنوي بكل الأحوال تركي!!"

هز رأسه بقوة وهو يحارب نفسه مسيطر على أعصابه حتى لا يفقدها:"ولم يحدث!!ها أنا أقر أمامك بغبائي..علمت بالطريقة الصعبة أنكِ كُنتِ كل ما أردتُ إمتلاكه يوماً"

رفعت له عينان ناريتان..رغم الألم والمرارة والقهر فيهما..وهتفت أخيراً متفجرة فيه بهسترية:"الإجابة لن تُغير شيء..أنت الملام الأكبر أمامي..أنت من بعت فتاة صغيرة أوهمتها بحب أسطوري..غازلتها بغير إنصاف متعدياً على حرمة رجل فتح لك بابه لتعود وتغدر بها..و تتجرأ بكل جبروت وتنوي الزواج من أختها..غير عابئ بقلبي الذي تلوى ألماً..بروحي التي غادرت وأنا أشاهدكما معاً وخيالي يجلدني برسم صورتكما الغرامية معاً!!الرجل الذي أحببت وأختي وذلك بسببك وحدك"

إتسعت عيناه وهي تُقر بحقيقة مُرة...مرت في خياله مثلها..كيف سمح لنفسه ولمختار الزيني وحتى لماله المزعوم أن يكونوا جميعاً سلاح فتاك ينال من فتاته؟!ما حدث كان أقسى من أن يتحمل نظرة الوجع التي تسكن عيناها..لم تماثل أبداً شيء قد رآه من قبل و جعلت قلبه يتلوى حزناً من أجلها..فقال بيأس:"لم يكن بيني وبينها ذلك الغرام الذي تتحدثي عنه"

أجابته بتصلب:"ولكنني لم أعرف ! لم أرى إلا خاتمك الذي كان حلمي وحقي تدخله بإصبعها!"

همس بتعب:"ديالا..."

إقتربت هي منه هذه المرة لتهمس بخفوت شديد أمام عجزه أن يدافع عن نفسه:"أنت لم ولن تستحقني!"

رفع كفيه أخيراً يمسك بكتفيها بتشدد غير قابل لإفلاتها وهو يقول بخشونة:"ربما أنا لا أستحقك..ولكن أبداً لن أسمح لكِ بالانهيار وإدخاله بيننا بعد كل ما إجتزناه سوياً..."

قاطعته بنبرة حادة كحد السيف كاشفة خسته أمام نفسه:"عن أي إجتياز تتحدث؟هل تقصد خديعة الأمس..ربطي بك وعدم استطاعتي البُعد عنك؟!كم خابت حساباتك..أنت أعمى يا أركان لأني منحتك نفسي وأنت لم تبذُل جهد لفهمها ذلك الشيء لن يوقفني أبداً حتى وإن كان أدمى قلبي حد التمزق وقهر نفسي فقط"

في تلك اللحظة بالذات كان يُخيل له سماع صوت إنفجار مدوياً لفؤاده..داخل أضلعه تَهَشُم مدوي مرعب..رامياً بكل كبريائه الذي تمسك به سابقاً متوهماً أنه يستطيع الابتعاد عنها لم يدرك أنه يتمتم بصوت مكتوم:"قد يتوجب على غروري الذكوري وجنوني أن يخبرك في تلك اللحظة أني لا أهتم إن فقدتك...ولكني أرمى بكل شيء بين يديك يا ديالا كاشفاً نفسي أمامك...أنا سأموت إن خسرتك ولن أستطيع التعايش أبداً مع فقدانك"

دفعته من صدره غير مباليه بألمه وهي تهتف بإنهيار وكأنها لم تسمع أياً من إعترافاته :"تباً لك..انت خسرتني وإنتهى الأمر"

صمتت لبرهة تلملم أشلائها ثم تابعت بصوت أتى من أعماق احتراقها الداخلي:"لقد منحتك الغفران يليه التفهم وأنت رجل لم تمنحني دفئك يوماً...أي رجل أنت وأي حقير أحببت..لقد تركتني ليلة زفافي أئن وجعاً في أحضان أمك وهربت..وعدت بجبروتك لتستغل جهلي وتغويني لأسلمك نفسي ل..."

صمتت لبرهة تبتلع ريقها ..إهتز صوتها وفقدت إيمانها بقوة توهمتها في نفسها يوماً..فالذكرى تجتاح كل كيانها لتبدد كل شيء..ثم قالت بخفوت شديد أشبه بمشرط جراح بارد يمزق أنوثتها وإنسانيتها هي لا هو:"أي امرأة أنا!!أي عاشقة غبية أنا..لقد غفرت لك بعد أن تركتني عارية مهانة في فراشك من أجل امرأة أخرى ؟!"

يا إلهي ...شهقت كمن توقف قلبه للحظات عن العمل وذهب لدنيا الأموات ثم عاد من هناك محملا بالأهوال والجحيم بعينه:"نحن انتيهنا..انتهينا...لقد منحتك كل حناني وحبي وقلبي مختلطا بأسرار روحي...فجرب كيف يكون كرهي..وخلاصي منك!"



" سأنتزعك مني؛كأنك خيال باهت مريض تملكني..ستتحول لمجرد ذكرى تُدفن هناك بعيداً..وكأنك لم تتملك نبض قلبي يوماً"

كل حنانه..تفهمه..احتوائه الذي وعد نفسه تبدد ليتحول الى رُعب جعله يفقد نفسه ويتصرف بغوغائية غير محسوبة العواقب...بكل جبروت تملكه يوماً كانت يده تقبض حول يديها بعنف يهزها بقسوة ليهدر فيها بصوت مكتوم:"وكأني سأسمح لكِ...ليس بعد أن كشفت نفسي لكِ مُقدِماً فروض الولاء..معترفاً بحماقتي وجنوني..متنازلاً عن جزء من نفسي ومما أنا عليه فقط من أجل خاطرك "

" أبتعد عنى"

كانت رأسها تتراجع للخلف إثر هزه إياها..عينيها جاحظتان من الألم ...وجهها شاحب وكأن الدماء لن تعرف طريقه مرة أخرى ما عاشت..لم يدرك أركان أنه يتراجع بكليهما نحو الفراش إلا عندما استدار يلقيها فوقه...لم يشعر بيده العمياء مثل عقله الذي فقد بصيرته اثر شعوره بالخسارة محاولاً إجتياحها بشيء من القسوة المختلطة بشعور الذعر الذي تعاظم بداخله..

الغضب الأسود كان يلون الرؤية أمامها...منصهراً في أوردتها وهي تدفعه بعيداً عنها تقاومه بشراسة مماثلة لقسوة العمى الذي غلف قلبه وضميره: "أنتِ لي..لن أسمح لشيء يجعلني أخسرك بعد أن أمتلكتك..إن كان عقلك توقف عن التفكير وغلف بغمامة كذب مختار...سأذكر قلبك وجسدك ليعرفا من مالكهما دون جهد مني وأنكِ لن تستطيعي الحياة بدوني"

توقفت مقاومتها تاركة إياه لهوسه في خلع ملابسها ونظرت اليه بعينين واسعتين وهي تنطق بجليد إستشعره يتدفق في أنحاء جسدها بين يديه:

"أرجوك إفعلها يا أركان حتى لا أبذل جهد في كرهك ونسيانك..أنا أستحق منك تلك الخدمة"

صوتها تدفق الى مدارك عقله بعنف صاعق فأوقفه عن الجنون الذي تلبسه ولم يدرك أنه كان ينتفض عنها بجزع وصدمة...راسماً صورة لن تنساها ما عاشت على وجهه من الخوف بينما يده الآثمه التي طاوعت جنونه سابقاً كانت تُعيد لملمة ما تبقى منها لا إرادياً..أغلقت جفنيها وهي تعتدل ببطء مبعدة جسده الضخم والذي كان يشرف عليها..بهدوء طاوعها فيما تفعل بينما عيناه تنظر لها بذهول...دقيقة واحدة هي ما منحتها لنفسها قبل أن تتحرك من مكانها متوجهة الى مقعد جانبي وسحبت معطفه الصوفي لتدفن فيه ذراعيها وتلملمه الى صدرها بقوة لتداري ما قد مزقه منها ثم وبدون حتى أن تمنحه المزيد كانت تختفي من أمامه الى الأبد..تاركه إياه بوجه شاحب فاقد كل معاني الحياة وكتفان متهدلان كأنه شاخ لأعوام مردد إسمها داخل حنجرته وكأنه لن يجرؤ أن يُعيد نطقه ما عاش ...

*****************

كانت تعبث بخاتم خطبتها الذي ألبسها إياه بالأمس القريب فقط متذكرة السرعة التي حدث بها كل شيء!!وقت قياسي قد ظنه الجميع لهفة من العريس ليقيد بها محبوبته!!خدعة أقنعت الجميع حتى صدقتها بنفسها ثم رأت تلك الإبتسامة المزيفة التي تعتلي ملامحه راسماً بها سعادة وهمية...وذلك الذراع الذي إمتد يحتضن كتفيها من أجل صورة للذكرى عقب إلباسها خاتمه..كان حضن بارد متباعد لم يتعدى لمس كتفيها بخفة وكأن شيء مهول وحاجز من الصلب لن يهدم يوماً يقف بينهما...ولكنها قادرة على خلق ذلك الصدع فيه حتى يتحول لزجاج هش سهل التحكم لتعبر نحوه جاذبة إياه من دنياه الخاصة...هو قال أن لديه أمل بها وبعلاقتهم...سيحرص على تأسيسها وتقويتها ببنيان سليم ثابت غير قابل للإهتزاز وهي تؤمن به وتصدقه....

رفع أيان وجهه عن شاشة حاسوبه أخيراً...يرسم تلك الإبتسامة المبالغ فيها نحوها ولكنها تجنبت ذلك الشعور..تغرق نفسها بالثقه أن ذلك البريق الآسر الذي رأته سابقاً وتلك النيران المهتاجة في عينيه الخضرواين هي قادرة على إعادتها و جعله يوجهها اليها هي لا غيرها ! أشار لها بإستفهام:"ما سبب كل تلك الثورة التي تفضحها ملامحك؟"

نبرتها التي كانت مترددة يوماً...مهتزه وضائعة عند كل حديث معه..تبدلت للقوة وهي تنطق بهدوء وثبات:"لم تكن ثورة  ولكنها إصرار على الوصول اليك و تحويل إرتباط العقل لشيء أسمى من أن نَصِفَهُ بالكلمات يوماً"

لم يتخلى عن تلك الابتسامة التي وضعت على شفتيه بينما نظراته كانت مثبتة على وجهها ولكنه أبعد ما يكون عن رؤيتها أمامه...رفع كفيه هذه المرة ليضع أحدهم أمام فمه والأخرى تحت ذقنه مشيراً بشرود:"أتمنى أن تجدي غايتك"

موقع يديه تبدل ليضع أصابعه على راحة كفه مكملاً حديثه:"لا ترهقي نفسك وعقلك بالتفكير بعقد مقارنة..كل شيء سيأتي في موعده.."

بدل يديه مرة أخرى مشيرا لها بأصابعه وبيده الأخرى وضعها نحو صدره:"أنا وأنتِ نحتاج للوقت..للتعود وترتيب حياة نضع أساسها بتعقل..بعيداً عن أي مشاعر جارفة..رابط الزواج لا يحتاج إلا لتخطيط العقل ؟!"

كان ينهي كلامه بأن أشار إلى عقله جاعلاً ملامح سارة تبهت..لا هي لا تريد ذلك العقل الذي يُصر أن يضعه بينهما..لن ترضى بتلك الكذبة التي يريد فرضها عليها...بل تريده كاملاً هي تستحق ان تتسلل الي داخله هازمة الأخرى في عقر دارها نازعة إياها منه بكل ما تملكه من قوة...

أشارت بقوة رافضة ما يتفوه به:"يحتاج للإثنان...لا تخدع نفسك..الزواج كيان قائم بذاته خلية تُبنى بتتابع إحداهم بالحب والأخرى بالعقل..لبنة يتبعها جدار مختلطة بمادة صلبة من التفهم والصدق والاحتواء ليخرج ذلك الكيان للنور بالنهاية..قوي متين يصمد أمام أي إعصار عاتي لا يستطيع حتى خدشه"

تراجعت سارة عن الاسترسال عندما رأت تلك النظرة في عينه..كبحت شعور بالألم وهي تقرأ تلك النظرة التي فضحته...متذكرة حديث أمها بقسوة:"رجل إحتلته إمرأة أخرى وإستنزفته حتى لم يتبقى لديه ما يقدمه اليكِ او غيرك.."

راقبته وهو يجذب ورقة مفرغ فيها كل ما يريد قوله..خطه الأنيق كان مرتبك يفضح إهتزاز مشاعره..عندما تناولتها تقرأ ما يحتويها كانت تحبس أنفاسها حتى لا تطلق صرخة تمرد وجنون في وجهه مدركة بقوة أنها ستواجه الكثير حتى تصل اليه فقرأت:

"ربما أنتِ لديك حق..عناصر بنائك سليمة تماماً بحسبة بسيطة لا يتخللها خلل واحد ولكن أنتِ واهمة يا سارة إن ظننتِ أن الحب قد يقوي أي بنيان عزيزتي بل الحب ضعف..يجعلك تتغاضي عن أشياء وتتنازلي عن الكثير مهدرة نفسك..مقدمة فروض الولاء دون حتى أن تستشعري مقدار خطئك..لذا الحب ليس مهم كما تعتقدي...بل تفهم الطرفين لكل ما يحتاجه الآخر ونعم الصدق والمصارحة..كشف مشاعرك أومخاوفك هو كل ما يهمني وأريده في حياتنا القادمة"

مؤكد هو لم يسمع صوتها المرتجف ولكنه رأى إبتسامتها الباهته وهي تومئ برأسها موافقة..تخبره برجاء مستتر:"بالطبع أتفهم حاجتك تلك ولكن الحب سيأتي..يجب أن يغزو تلك الحياة والرابط الذي تتحدث عنه!"

هو لم ينوي أبداً ظُلمها..عندما أقدم على توثيق علاقته بها لم ينوي إلا أن يتقي الله فيها...هي ليست طرف في مشكلة قلبه..إنه يريد أن يتخلص من طيف مالكته!! هز رأسه بموافقه مشيراً اليها:

"لا أحد يستطيع ان يحكم على علاقة قبل بِدأها كما أن الكثيرون وجدوا حياتهم الحقيقية في إرتباطهم الثاني عزيزتي"

أشارت سريعاً بقلب خافق:"ولكنك الأول لي يا أيان..."

عم الصمت والإرتباك بينهما وكأنها صرخت بأكثر شيء غبي في تلك اللحظة...أما هو كانت ملامحه مغلقة لا تُعبر عن شيء...لم يحاول الرد أو الإحتواء والتوضيح أكثر مما منحها بالفعل..الباب الذي طرق مرة واحدة ثم فُتح دون إهتمام بالاجابة جعلها لأول مرة تحمد الله لرؤية هذا الوجه المستفز لإنقاذها من موقف وحديث موجع لا تعرف أين كان سيصل بهما "مازال طريقك طويل جداً يا سارة"همستها بإمتقاع وهي تراقب شهاب يتقدم ملقيا بتحية باردة...وألقى بجسده على المقعد الذي يواجهها..تلكئ للحظات وهو ينظر اليها نظرة مبهمة ثم واجه أيان الذي لم يتخلى وجهه عن ملامحه الثابته وقال:"مبارك يا عريس الخطبة"

لا تعرف تحديداً ما الذي يجري بين الإثنان وكأن هناك حلقة مبهمة أو صراع خفي..رفض لم يبديه كليهما في تصرفاته أشار أيان بهدوء لا يعكس تلك العاصفة التي تألقت في عينيه الخضرواين:"العاقبة لك.."

هكذا فقط؟! صمتت سارة دون تعقيب إلا ذلك الشعور بالإحتراق هل يستطيع كل من كان أن يجذبه لحقيقته النارية إلا هي؟!

لم تكن مستعدة أبداً عندما إلتفت اليها شهاب قائلاً بنبرة ذات مغزى:"صور الخطوبة على صفحتك في التواصل الاجتماعي منتقاه بعناية.."

صمت لبرهة موليّ شفتيه بعيدا عن عيني أيان ثم قال بخفوت بنبرة باردة كالرصاص:"منتقاه بعنايه من قبلك..لأول مرة أرى سارق يتفاخر بغنيمته غير مهتم أن يرى الناس حقيقته!!"

شحب وجه سارة تارك ذلك الأثر المعتاد والذي يتركه شهاب على ملامحها ..يجلدها يقهرها ومخرساً حتى حجتها...

خبط أيان بنوع من الحدة على سطح مكتبه فألتفت وجههين ينظران اليه أحدهما بذعر والآخر بسكون وثبات..

أشار بتعصب:"تعرف اني أكره تلك الفعلة قل ما لديك ووجهه لي وليس لإمرأة أصبحت تنتمي إليّ"

الخبث المطل من عينيه إستشعرته سارة بوضوح بينما يقول مدعياً الاستسلام:"لا أعتقد أنك ستهتم بما أخبرتها إياه..انه شيء تافه بالنسبه لك"

زفر أيان بضيق وهو يشير بكفه في حركة دائريه ثم الى شهاب ملحقها بوضع كف على كف:"تلف وتدور كعاداتك..انت تستمتع بدور الغموض أصبحت أضيق منه"

هز شهاب كتفيه بلا مبالة ثم قال:"حسناً تذكر أنك من طلبت..."

صمت لبرهة ثم قال متابع ملامح وجهه بدقه:"كنت أخبرها بمروري صدفة على مطعم زوج جنيتك لتناول غدائي وكالعادة أقلب في صفحتي الشخصية لأتوقف عند صورة خطبتكما !"

نظر اليه أيان واجماً ثم أشار بتشكك :"حسناً هل هذا كل ما في الأمر؟!"

هز شهاب رأسه ببطء ثم قال بهدوء:"لا..ولكن ما حدث صدفة غريبة اذ أن زوجتك هي مديرة المطعم الأن وبالصدفة البحتة رأت ما نُشر وعرفت بخطبتك"

هل رأى كليهما شفتيه ترسم اسم رانيا بوضوح؟ملامحه كانت تتشنج وكأن ما يخبره به طعنه في قلبه مباشرة ودون رحمه..كان حلقه يتحرك بوضوح أمام أعينهم أطرافه تتصلب..كل كيانه تجتاحه مشاعر لم يستطع أحدهما تفسيرها..لحظات من صمته الخاص أجبرا عليها قبل أن يسيطر على نفسه بمهارة راسماً برود خادع وهو يشير لشهاب:"وكأن الأمر يعنيني لأعرفه...انها مطلقتي..إنسانة لم يعد يربطني بها شيء..عاجلا او اجلاً كانت ستعلم.."

شعر شهاب بالإمتعاض والغيظ لكنه لم يتوقف عندما أعاد سمعاته الموسيقية على أذنيه وأكمل ما إنتوى إخباره به بكل جليد العالم:"جيد اذن أحدكما على الأقل إستطاع ان يتخلص من أثر الأخر بداخله..على كل أنا اخبرتها بهذا عندما سقطت منهارة..منفصلة عن الواقع بين رواد المطعم...

لم يكمل كلامه عندما رآى الأخر ينتفض من جلسته مانحه ما أراده تحديداً أمام الأخرى..ذلك الجذع المخلوط باللهفة والخوف ليطفو أيان الذي عرفه على السطح قاتلا ذلك الأخر الذي ملأته القسوة والمرارة...ولكن سرعان ما تبدد شعور شهاب المنتصر عندما راقبه يتهرب مما حدث وهو يشير بعصبية:"أخبرتك أن الأمر لا يهمني..تلك هي مشكلتها الخاصة يجب ان تتعامل معها وحدها"

إدعى شهاب التفهم وهو يكمل أمام عينيه:"بالطبع هذا ما أخبرتها به عقب إفاقتها..حتى أنها رفضت الذهاب للطبيب وطلبت مني ان أوصلها لشاطئ في العجمى !

***********************

لقد كان يراهن نفسه وهو الذي لم يخسر تحديه يوماً اذ بعد نصف ساعة بالضبط خسر صديقه كل قوة وتجبر ظنها...نظر شهاب لملامح سارة الباهتة بتسلي مستمتع جداً بإمتقاعها بالألم المتعاقب على ملامحها وبأول صفعة يمنحها إياها أيان مدرك وجاذم بأنها لن تكون الأخيرة...ثلاثون دقيقة هي ما إحتاجها أيان لينهار ويخرج مسرعاً من مكتبه يحفر الأرض من تحت قدميه حفر نارية غير مرئية..تاركاً سارة خلفه ولم يحتاج أحدهما للتوقع اذ يدركان الى أين وجهته التالية..لقد شعرت سارة منذ أن تركت مكتبه بكل حركة تصدر عنه غاضبة مكبوتة وقلقه..لم يحتاج حتى للإشارة للحديث لتفضح أفعاله...ما يعانيه خوفاً عليها...هربت من وجه شهاب وهي تتمتم بحرقة عن سؤال لم ينطق:"أنا خطيبته رسمياً...كما أخبرك امرأة تنتمي اليه..انا ولا غيري؛أنا على ثقة أنّ لديه موعد ما خاص بالعمل"

أبعد شهاب سماعاته بعيداً عن أذنه ثم قال مدعي الاهتمام:"عفواً أنسة مخطوبة هل قلتِ شيء..لم أسمعك؟"

الخبيث..إبليس مفرق الجماعات يحرقها..يشعلها..يصوب سهامه نحو حياتها داسس سمومه..هتفت بقهر:"أخبرك أنه رجلي أنا..هي لا تعنيه لم يذهب اليها"

توسعت عينا شهاب وهو يدعي التعجب وقال:"عفواً..وما دخلى بالأمر؟ انتِ من تحتاجي لإقناع نفسك عزيزتي بهذا لا أنا..."

************************

العشق والكره وجهان لعملة واحدة...قد تختبئ بين طيات أحدهما مشاعر أخرى متباينة..نتمسك بواجهة واحدة منهما ؛ منتظرين الخلاص من كليهما..ولكن هل يستطيع هو ان يكذب على نفسه كما كذب على سارة...في تلك اللحظة بالذات بينما هو يقف على رمال الشاطئ..عينيه مرغمة تراقب بلهفة القوام الأنثوي الذي يقف أمامه يولي وجهه للبحر..شعرها الناعم يتطاير حولها حزين هزيل فاقد بريقه كأنه يتحدث عن حال صاحبته..ترتدى فستان أسود حريري يتطاير بفعل الهواء البارد خالق لوحه سريالية..معبرة عن الألم الوجع والإنتظار..كان أيان يُقر بأنه كذب على نفسه وعلى إمرأة وعدها برباط لن ينفصل..

شعرت رانيا بذبذبات معتادة أدمنتها حد فقد نفسها..حد تخليها عن قلبها مانحة إياه لينصهر مع دقات قلبه الذي تجاورها الآن لم تحتاج للإلتفاف..لم تجرؤ أن تفعلها..لتعرف أن من إحتل وحدتها وعزلتها وانهيار عالمها من القهر والوحدة لم يكن إلا هو...!

ترك أيان لكليهما عدة دقائق أخرى...دقائق كانت كفيلة ان تجعل أحدهما يتنازل عن تلك المواجهة ويفر هارباً..ولكن لم يكن هو ذلك الطرف ! لقد حان الوقت ليضع خط النهاية ليسد الطريق على نفسه قبلها اذ أن طريقهما الطويل سوياً ذكرياتهما تأبي أن تُصدق أن كل شيء إنتهى بغير رجعه...لم تكن تملك الشجاعة بعد لتبدأ هي بمواجهته..لم تملك رانيا القوة للنظر الى عينيه..ولكنه فعل عندما لمس كتفها بخفة ثم تراجعت أنامله سريعاً بعيداً عنها وكأن لمسها الذي كان يثير كل جنونه ومشاعره يوماً أصبح نار تحرقه...

كانت تضغط على شفتها السفلية بأسنانها بعنف في محاولة واهية لمنع عينيها المنتفختين من تأثير البكاء ان تزرف دمعها مرة أخرى ولكنها لم تستطع فإنفجرت باكية بحرقة بنشيج متقطع لم يدرك أنه يهمس بداخله"لا تنهاري..أرجوكِ..لم أعد أتحمل لمسك او مواساتك!"

متى تحول أيان للقسوة نحوها؟!بل كيف أستطاع أن يرى عينيها الباكية دون أن يهرع إليها ليأخذها بين ذراعيه..ربما لتذكره تمثيلها المتقن وهي تخبره بفشل محاولته!وهي من تخدعه كالأحمق..؟أطلق زمجرة من داخل حلقه وهو يشير بتعصب:"لم يعد يليق بكِ أدوار الضعف وانتِ من أثبت بكل الطرق أنكِ متجبرة حديدية خالية من المشاعر يا مدللة أبيكِ"

همست بضعف وهي تغمض عينيها بقوة حتى لا ترى المزيد من سموم اتهاماته:"توقف أرجوك..."

يده إمتدت مرة أخرى يلمس كتفها بنوع من القسوة في حركة تعلم جيداً معناها ففتحت عينيها تلقائياً تنظر اليه بوجل ثم أشارت بلغته:"ما الذي أتى بك الى هنا يا أيان؟ألم تنتهي مني بعد؟!"

لماذا أتى الى هنا؟هو نفسه لا يعلم الاجابة!ولكنه أراد أن يراها ولأول مرة منذ ما حدث رغب ان ينظر الى عينيها..أن يلمسها..أن يشتم ذلك العطر العالق في أنفاسه متخلل شريانه عن قرب..تهرب كلياً وهو يشير بهدوء ظاهري:"أخبرني شهاب ما حدث وعلمت أنكِ هنا ولأجل صداقة قديمة كانت بيننا أردت أن أنهي ما حدث وأخبرك أن تعيشي حياتك..إبحثي عن نفسك..وتعلمي من أخطائك"

لوهلة كان كل ما رأته هي صورة مشوشة لا شكل لها...شاعرة بثقل مبهم داخل أضلعها...لم تدرك رانيا بأن أنفاسها كانت تزداد عنفاً..وأن صدرها يهبط ويعلو بدون انتظام ..تمكنت رانيا أخيراً من إخراج صوتها صارخة بقهر:"أيها الخائن...عديم الرحمة؛عن أي حياة تتحدث؟هل لديك وجه لتأتي الآن وتخبرني بهذا الغباء"

وجهه العنيد كان يزيد إصرار على المُضي في طريقه..رانيا صفحة وانتهت..قطب وهو يشير ببرود لم تعرفه يوماً فيه:"بل ما أتعجب منه انا ما لديك من الجراءة لتعاتبيني لتتهميني بالخيانة وعدم الرحمة أيضاً!!هل غضبك أعماكِ رانيا عن رؤية الحقيقة؟"

كانت تشعر بالضعف والوهن فأصبح وقوفها في حد ذاته معجزة...فكرة رؤيتها لأيان الآن في تلك اللحظة و يلتف حول إصبعه خاتم أخرى كحية رقطاء صغيرة تُكبل بنصره داسة به سمها الذي يعلم الله وحده كيف لفت به رجلها بهذه السرعة؟!!رباااه إنها تموت..تحترق..غمامة أخرى من الدموع غشيت بصرها ليصبح كل شيء أمامها شديد السواد لم تدرك حتى أنها اقتربت منه لا ارادياً...تخبطت بكلتا قبضتيها بضعف وهي تهتف بحرقة هستيرية :"لقد منحتها ما هو لي ضممتها الى صدرك الذي تعهد يوماً ان لا يحتضن امرأة سواي...منحتها وعدك..الذي أخبرتني بأنك لن تجرؤ على إعطائه لغيري..أخبرنى هل قبلتها؟!هل صهرتها بين أضلعك ؟هل سمعت هدير قلبك حتى صُم أذنيها ولم تسمع من الكون سواه؟؟هل اعترفت اليها بحبك بتوق اليها..هل وهل وهل...أخبرني يا خائن"

للحظة ضعف واحدة أراد ان يمسك يديها يجرها لداخله يحتويها هناك بروحه قبل جسده مخبرها بالحقيقة المرة انه لم يجرؤ ان يمس حتى اللحظة يد سارة إلا عندما ألبسها خاتمه حتى تلك الصورة الوحيدة هي جرته اليها ولم يستطع رفضها...استطاع أن يضم يديها في قبضته مبعدها عن صدره..منحها دقيقة..اثنان وعشرة حتى هدأ بكائها من هستيريتها...عندما تحول انهيارها لنحيب ناعم وعينيها تحدق فيه منتظرة إجابة ربما تكون شافية مطيبة..إبتعد عنها خطوة للخلف وأخذ نفس عميق ثم أشار:"ان كان يُريحك لم أفعل كل هذا بعد لم أستطع..ولكني أنوي رانيا...أنوي على منحها أكثر مما منحته لكِ يوماً..ربما أعوضها عن جزء مني سرقتيه..كان من حقها وحدها"

هل هذا صوت قلبها الذي تهشم تارك خلفه فراغ..داخل صدرها الذي أحست به خاويا...خاوياً للغاية..وجهها كان شاحب..عينيها كانتا كبركتين من المرارة التي لن تنضب يوماً،لن تعرف طريق السعادة أبداً...أطرافها المرتعشة الباردة...كانت ترتفع تشير بتشوش بضعف:"ألم أقدم اليك ما يستحق الغفران؟أي شيء حتى لسماعي..تفهم ألمي الخاص ومخاوفي..هل كل ما تشعربه نحوي أني سرقتك يا أيان؟؟"

بقدر ما كان يرغب أن يجرحها ويخبرها بحقيقتها في عينيه..بقدر ما كان يريد أن يكذب مخبرها أنه يريد أن يسمع ويفهم..ولكنه أشار وهو يشعر بصدره يضيق:"لم آتي هنا لأعاتبك يا رانيا ولم أعُد أهتم بمرارتك...بل تستطيعي القول انا الآن تفهمتك تماماً انتِ من حقك أن تخافي من المعاق..لكِ كامل الحرية أن لا تأتي بطفل منه..ولكن ما لم يكن من حقك هو خداعي فارضة عليّ أمر لا أريده..أنا من إصطحبتك بنفسي للطبيب متجنباً الألم الذي كان يمزقتي ليؤكد لكِ ان ما خلقني الله عليه لن يكون أبداً أمراً وراثياً سيحمله طفلك"

هتفت بحرقة:"لدي مبرراتي ودفاعي..أنا كنت أتألم أكثر منك..أتمزق وأحترق..لم يكن أدائي تمثيلي كما إتهمتني بل كُنتُ أحترق مثلك يا أيان...لقد كنت أدمر أمومتي..ولكن كنت أنتظر نتيجة الحمل متمنية ان يخيب أثر هذا السم الذي كنت أمنحه لنفسي ربما يرغمني على التوقف"

النظرة القاسية التي منحها إياها كانت أكثر من كافية لتجعلها تبتلع لسانها داخل فمها...إبتسم بسخرية وتباعد تماما وكأن ما تفوهت به أعاد له تلك الذكرى البشعة لإكتشافه...لقد كان ببساطة انتهى منها ربما إحتاج ان يأتي الى هنا ليؤكد لقلبه أن قرار العقل هو الصحيح أنها لم تستحق أبداً ذلك الشعور بالندم والخواء..بالرعب بعد ما أخبره إياه صديقه أشار ببساطة: "كاذبة..وكما أخبرتك لم يعد الأمر يهمني رانيا..إبحثي عن نفسك وطريقك بعيد عني..كوني عادلة لمرة أخيرة ولا تحمليني ذنب نحوك.."

تهدلت يديه بجانبه ينظر لعينيها ليحرقه هذا الألم الشديد الذي يراه يلون ملامحها..ويمتد لداخله هو كأنه يؤكد لعقله أن ما بينه وبين رانيا أكبر من أن يكسر ويتخلص منه..ولكنها آذته صافعة إياه بحقيقة لم يعترف بها أبداً بشيء كان راضي به..طوّعه وتغلب عليه..هو كان راضي حد التشبع بما خُلق عليه ولم يطلب من أحد الكمال او الإعتراف به..لم يطلب من أحد التميز أو منحه مدح لم يستحقه هو لم يود من العالم إلا إياها وحياة هادئة كانت من حقه..أسرة وعالم يبنيه معها..حدود صغيرة يُرَى داخلها كاملا مؤمنين به..فهل كان هذا طلب كثير ؟!! ألم يستحق منها ذلك العشق والمجازفه قليلاً من أجله؟

أحس بشيء يحرق صدره بنار يتلظى بها داخلياً والصورة القاسية التي يرسمها لها تمزقه قبلها..قسى وجهه بالقهر بالحاجة لتدمير ذلك الرابط بينهما وهو يشير لها:"إبدأي حياتك كما فعلت أنا مع شخص كامل يستحقك أنتِ ووالدك..لتعوضي تلك الأمومة التي حرمتك أنا منها بالنهاية...سارة هي امرأة حياتي..هي المرأة التي أستطيع منحها نفسي وإبني وأنا مطمئن بأنها تستطيع محاربة العالم بنا ومن أجلنا...هي المرأة التي لن أرى فيها وجه إيناس هانم المخملي الذي كان يستعر من الأخرس والتي عجزت حتى عن الدفاع عنه تاركة إياه لتنمر صديقتها..."

عقب انتهاء لغته التي كان يشير بها بتتابع دون توقف او فاصل كان يعيدها مرة أخرى أمام عينيها بقسوة وكأنه يعذب نفسه ويجلدها بما قاله...وضعت رانيا يدهاعلى فمها وملامحها تحمل ما لا يوصف من ألم لا حدود له ولا قدرة لبشر للتعبير عنه...نظرت اليه وكتفيه تتهدل أخيراً ملامحه تنطفئ وكأن شيء بداخله قد مات...راقبته يستدير أخيراً وينصرف تاركها هناك..وهو يعرف أنها أبداً..أبداً لن تكون بخير كما حاله تماما...يقولون الألم يولد كبير ويصغر تدريجياً...فما بال وجعها هي ومصيبتها تكبر كل يوم الى حد لم تصبح دنياها تتحملها.........***********************

من الغريب أن تبحث رانيا عن ديالا في هذا الوقت بالذات وهي تعلم ان شقيقتها تعاني مثلها..مدمرة القلب..عالمها منهار ولكنها أرادت ان تراها لعل النظر الى وجهها وضمها بين ذراعيها يوقف ذلك النزيف بداخلها والذي أوشك ان يزهق روحها..عندما فتحت رانيا باب غرفتها المظلمة دخلت سريعاً مغلقة إياه خلفها لا تريد ان ترى أحد...لم تكن مستعدة ان تواجه تساؤلات أمها ولا رؤية وجه أبيها

"رانيا"الصوت المنهك كان يأتى من أخر الجدار..سريعاً كان فؤادها يسبق خطواتها لتجدها هناك تنكمش في وضع الجنين ملتصقة بالحائط وكأنها تحتمي فيه من شيء ما..بنظرة سريعة استطاعت ان تتبين ملابسها الممزقة وكنزة رجالي ملقاه بجانبها:"رباه ما الذي فعله بكِ؟َ!"

كانت ترتجف وهي تخبرها باختناق:"ضميني كالماضي رانيا..أريد ان أعود طفلة صغيره في الخامسة لا تريد شيء إلا رؤية والدها القادم من السفر حاملاً في يده إحدى الدمى"

تمددت رانيا بجانبها سريعاً وفتحت ذراعيها إليها تضمها بلهفة..وشعور القهر يتعاظم بداخلها كانت تشعر بالحاجه الضارية للصراخ..للتدمير..لفعل أي شيء ربما يبعد آذاهم عنها كررت بحرقة:"ماذا فعل بكِ كلاهما؟هل أذوكِ؟"

كان جسد ديالا كله يهتز بعنف بينما تمتمت:"لا شيء..أنا فقط تعبت..تعبت وأريد أن أرتاح لم أعد أريد مقاومة شيء فقط فليدعوني وشأني"

عندما دفنت رانيا وجهها في كتف ديالا لم تكن حتى تعلم هل تلك الدموع التي بللت صدر كلاهما..دمعها هي أم دمع شقيقتها؟!!

*****************

من الغريب أن يشعر مختار بهذا الكم الهائل من الألم...وجع لم يتوقعه وندم ضعيف باهت يريد أن يطفو على السطح...ينغزه يجلد ضميره المعدم نحو طفلتيه...ربما لم يستشعر بأى ألم نحو رانيا...لم يندم ولم يرهق نفسه بالتفكير بما تعانيه...سيأتي يوم و تعلم فيه ان خلاصها من الأخرس هو كل العقل والصحيح الذي فعله يوماً من أجلها...ولكن ديالا ملامحها بهوتها..ضعفها الذي أغراه شيطانه ان يراه يكسرها ويستمتع به..يجده الآن نار تحرقه..تكويه فيطفئها بإصرار جاعلها تخبو ببطء مؤكد لنفسه أن ذلك الأركان أبداً..لم يستحق ديالا ولم يليق بها..لم يناسبها أركان كان خطيئته التي أدخلها في حياته ويجب أن يتخلص منها...ربما هو وأركان كلاهما مغترب كلاهما بنى نفسه ولكن أبداً إبن الحواري..لم يكن يليق بإبنة مختار الزيني...عاد صوت نوال يطرق على عقله بعنف بوجع الخسارة:"أنت تريد أن تقنع نفسك كذباً حتى تغسل يدك من ذبح ابنتاي ولكنني لن أسامحك لن أغفر لك..فلتضع خسارتك لإبنتيك فوق خسارتي..سأعيش معك منذ اليوم غريبان لم يعرفا بعضهما أبداً"

كان وجهه يتصلب بعنف غير مرئي عيناه تبرق بغضب أسود عنيف...

"أبى "

الصوت الباهت المرهق جعله يستدير مجفلاً. تجمد للحظات مكانه وجهه الذي انهكته خطوط الزمن وربما سواد قلبه نحوها لم يستطع منع وسامة متبقيه فيه أنف بغيضه مستقيمة بتعالي كرهته..منذ ان تواجهت معه لأول مرة في الغربة وهي إبنة ثمان سنوات..يده التي هبطت على وجنتها إثر تمرد بسيط لرفض شراء ما إختاره من ملابس لها مازال يدمى قلبها يجرح طفولتها..كسر شيء بها كانت البداية لكل إهمال وجفاء رأته منه..صوته تلون برفق تعلم كذبه وخبثه عندما قال:"مرحباً صغيرتي..كنت سأمر عليكِ اليوم لأطمئن أنكِ بخير"

وجهها الشاحب منذ أسبوع مضى منذ أن دخلت بعد ساعتين من خروجها..إثر رميه إياها بما قاله كان نفسه..لم يكن أثر للحياة فيه او لانفعال..لقد كانت باردة متباعدة بإنفعالات لا تفسر عندما قالت:"أرجوك مختار بك..توقف انا لا أمثل تلك الأهمية في حياتك..ولا أنت ستفرق لدي أياً كان ما تعانيه !"

تبدلت كل معاملته في لحظة للنقيض ليظهر والدها الذي تعرفه على السطح عندما قال:"ما الذي أتى بكِ اليّ إذن..وأنتن جميعاً أعلنتن عصياني"

الهاتف الذي يرن منذ أسبوع في يدها بإصرار جعل قلبها ككل مرة يسقط بين قدميها جعلها تفتح فمها الذي تقوس بالقسوة..بشيء مبهم تفكر فيه إبنته ولن تمنحه أبداً سرها وما تهدف اليه حقيقة:"أريد منك خدمة مقابل شيء سأمنحه لك..ولكن خطوط النهاية ستوضع بشروطي أنا لا أنت.."

ابنته القوية..المميزة صاحبة الإرادة...كيف لم يستطع ان يسيطر عليها و يجعلها تحت طوعه؟ ديالا هي كل من أراده يوماً خلفاً له..هي كل ما أراد زرعه في رانيا بجانب إحكام سيطرته عليها"هاتي ما عندك"

تقبضت يديها على الهاتف وللحظة تراجعت بهتت أسباب ما تفعله..ما تريد ان تصل اليه حقيقة..لبرهة ترددت وكل ما أرادته أن تجيب على الهاتف صارخة فيه ما الذي يمنعك يا غبي؟ تعالى اليّ حررني من الظلمة التي أريد رمي نفسي بها..ولكنها تراجعت الى أقرب مقعد وهي تقول بحزم: "سأمنحك تشفيك في أركان..انتصار عليه كما تُريد وتسعى..وأنت بنفسك ستبلغه مطلبي الذي أريد ولن أتنازل عنه"

***************************

"مازالت لا ترد..."

رفعت رانيا رأسها تنظر له بصمت مطبق..ولم تجد ما تخبره إياه...هي للغرابة لا تلومه ولا تعتب عليه..بل تجد نفسها تقف في صف أركان بكل قوة ضد الجنون والتطرف الذي تفعله ديالا..هي تفهمه ولكن أبداً لا تعذره لا تبرر له الوجع الذي ضخه صافياً في قلب أختها لسنوات..ولكنها بالنهاية لا تستطيع الوقوف بقوة والقول انه خطأ...كانت تنظر لملامحه المرهقة وملابسه المهملة..ذقنه التي نمت غير مشذبة ..لم ترى إلا رجل آخر كسره والدها فرض عليه أمر لا يريد أي رجل مهما كانت الموانع أن يقبله..اغتالته هي أيضاً مشعرة إياه بعجزه وإهانته عندما غدرت به وتركته ليلة زفافه يواجه الناس والمجتمع بعروسه التي هربت منه وذهبت لآخر..إبتلعت ريقها وهي تقول بتردد:"إمنحها قليل من الوقت..تعلم أنها مهما جُنت ستعود إليك من تلقاء نفسها"

حدق فيها أركان بملامح مغلقة متذكراً وقوفها على باب المطعم إثر ما حدث تسأله بضعف..بهشاشة وضياع يعلم أنه فيها:"مازلت أريد عملي لم يعد لي غيره..هل أنا مُرحب بي أم أستدير مبتعدة عن هنا"

لن ينكر أنها صدمته..فهذا آخر شيء توقعه منها..لم يملك إلا أن يخبرها:"ديالا أرادتك هنا وأنا لا أستطيع الآن أن أزيد رصيدي السيء لديها"

ومن وقتها هي تعمل بصمت..بجد مبالغ فيه حتى انها تتحمل دوره هو وكأنها تُريد أن تشغل عقلها طوال الوقت عن شيء ما إن تركت نفسها اليه..سيقتات عليها حية

قال بإقتضاب:"لا أظن أعتقد هذة المرة انا خسرتها الى الأبد!"

وقفت رانيا من مقعدها المواجه له وهي تكبح ما تشعر به من إرهاق..ثم أخبرته بإبتسامة متصنعة:"لا تكن سوداوي هكذا المشاكل تحدث طوال الوقت وما عرفته ليس بشيء هين..ستهدأ وتتحدث معك..ستمنحك تلك الفرصة..قريباً"

نظر اليها مرة أخرى بصمت مطبق ولسانها المجامل يخبره أن ديالا لم تخبرها بما وصل اليه جنونه في حقها..عندما عاد يضغط على الهاتف مرة أخرى بإصرار كانت رانيا تغادر وهي تخبره:"لدي موعد هام..أراك غداً"

منحها إشارة من يده بينما ينتظر وينتظر..حتى فتح الخط أخيرا فهتف على الفور محاول ان يتمالك مشاعره:"لا تغلقي الخط يا ديالا...إياكِ ان تستفزي أعصابي كي آتي اليك لأهشم رأسك..نحن يجب أن نتحدث"

الصوت الرجولي المرتاح جداً المتشفي هو ما أجابه:"تكلم على ما يستطيع حجمك فعله"

وقف أركان من مكانه بعنف وهو يقول:"أين زوجتي..أريد امرأتي يا مختار لا تدخلها في اللعبة بيننا"

أجابة مختار بهدوء بارد:"تقصد إبنتي التي عادت الى عقلها أخيراً. والى أحضان أبيها"

تحركت يد أركان بعشوائية باحثاً عن عكازه..فسقط على الأرض مطلق صوت مكتوم ألحقه أركان بسباب عنيف وهو يلهت تقريباً وصل للأخرى التي تسمع حديثهما واضحاً فجعلها تقفز من مكانها..لا إرادياً بشيء من الرعب من صرخة سؤال لم تتعدى حلقها اذ ألحقه مختار بطلب ديالا...الذي جعل أركان يتراجع الى الحائط بعنف ملقيا حمله عليها مسقط الهاتف من يده وهو يشعر بالغضب..بالقهر..بطعنة الغدر والخيانة التي كان يخافها يرهبها.."أن تأتي منهم جميعاً شيء وأن تصدر منكِ أنتِ يا حورية شيء أخر لن أستطيع أبداً تحمله او السماح لك بأن يحدث !"

*********************************

وضعت رانيا ساعدها على عينيها حاجبة نظراتها القلقة المترقبة الطبيب ترفض ان تنظر للجهاز عالي التقنية والذي يعكس كل ما بداخل رحمها بوضوح...هي تعلم أنها تتعلق بأمل باهت..معدم..بأحبال الوهم ولكنها تتعشم مع الأعراض التي أصبحت..تعاني منها قيء..هزلان..غثيان وغيرها مما تعرفه من أعراض الحمل..هل يُعقل ان تفكر في هذا الأمل المعدوم..هل تطمع أن يكون الله رحيم بها فيمنحها معجزة..بشكل ما علها تستطيع ان تُكبل أيان تستعيده او حتى توقفه عن ما يفعله بهما من انتقام أعمى..من طريق لا رجوع منه..لم تدرك أنها تعود للبكاء بعنف مرة أخرى إلا عندما إعتدل الطبيب مرة أخرى بملامح غير مفسرة يخبرها برتابة:"لقد أنهيت الفحص ..من فضلك أريد الحديث معك"

خرج على الفور تاركها خلف الستار تعدل ملابسها سرعاً. تقدمت نحوه ويدها تتمسك برحمها تلقائياً..فاجائها الطبيب بسؤاله الذي لم يكن يحمل الود او المهنية:"لماذا أتيتي لي أنا بالذات مدام رانيا"

إبتلعت ريقها الذي جف ثم قالت:"أخبرتُك أني أعاني من أعراض الحمل...ولأكون صريحة معك أيان لن يثق إلا بك"

أخذ الطبيب نفس عميق طويل متذكر العامين الماضيين لقد كاد هو شخصياً أن يفقد عقله وهو يبحث عن الأسباب...عن سر ما يمنع كلاهما طبياً على الأقل وقد تطرق حتى أن يمنحها منشطات إلى أن جازف أخيراً وأخبر زوجها بما يشك به ويكاد يُجزم به يقيناً..قال بعملية باردة:"منذ متى تأخذين الحبوب وهل استشارتي أحد قبل تناولها"

هزت رأسها رفضاً بتوتر وقالت:"بعد زواجي بفترة قصيرة وأخذته من تلقاء نفسي..و..و أوقفتها فور إنفصالي أي ما يقارب الأربعة أشهر..."

تلهى الطبيب في الأوراق التي أمامه يفحص صور كان قد طبعها من جهازه..لحظات مرعبة كانت تجعلها تخوص في مقعدها بإنكماش..كانت تعلم ان ما سينطق به سيدمر آخر ما تبقى منها..ولم يتأخر عندما قال متنازلاً أخيراً:"لا أريد أن أكون قاسي عليكِ ولكن شكك ان هناك حمل أمر يثير الضحك والغرابة سوياً..يؤسفني حقاً أن أخبرك أنكِ دمرتي نفسك..."

كانت أنفاسها تلهث على الفور يدها انتقلت لتضعها على قلبها الذي كان يضيق ويضيق حتى لم يعد متبقياً منه شيء لتستطيع وصفه بأنه دمر:

"ماذا تعني؟"

قال سريعاً ودون رحمة وكأنه ينتقم من شيء ما:"أكياس هوائية تكونت على المبيض وبالطبع أنتِ لن تحتاجي لأخبرك بتبعتها..وبفقدانك فرصك للحمل من الأساس"

قالت بحرقة وبصدر يضيق بدنيا أصبحت كخرم إبره في عينيها:"ولكن هذا الأمر يعالج...ليس عقم ولا بأمر جلل"

كانت تتوسل الرحمه كلمة مرضية تنقذها مما هي فيه..ولكن الطبيب الخمسيني لم يرى فيها إلا ملامح شابة تصرفت برعونة وحماقة معترضه على أمر الله...متعففة عن ما منحه إياها..شابة إغتالت زوجها وخدعته حتى وهي ترى إنكساره وضعفه الذي كان يجعل قلبه هو يتلوى ألماً عند كل مقابلة..متظاهراً بالصلابة من أجلها..يرسم ضحكة الألم على شفتيه مشير لها"قدر..نحمد الله عليه وننتظر!"

نطق أخيراً بخفوت شديد مخبرها نصف الحقيقة فقط علها تفيق مما وضعت نفسها به:"بالطبع هناك علاج ولكن نسبة خطورته غير محسوبة العواقب...ربماعملية جراحية..اذ إنحرفت يد الطبيب أو اهتزت إنش واحد فقدتي فرص أمومتك الى الأبد...."



#قراءة سعيدة

همس الموجحيث تعيش القصص. اكتشف الآن