١٤. شخصٌ لا يستحق

13 2 0
                                    


سارت جياندا برفقة غارب الذي سحب حصانه عائداً به في الطريق الذي يقطع القرية.. النهار قد بدأ للتو، لكن القرية لم تنتعش كما كانت قبل رحيلها عنها.. معظم المنازل قد طالها شيءٌ من التهدم أو الحرق أو الدك.. المزارع قد أبيدت عن بكرة أبيها في حريقٍ أو عدة حرائق أشعلت عمداً أو نتجت عن الصراع الذي دار في القرية.. الأشخاص الذين لمحتهم اكتست وجوههم كآبةً وحزناً ظاهراً وأكتافهم انحنت انحناءً بيّناً رغم مواصلتهم أعمالهم في ترميم القرية وإعادتها لسابق عهدها.. ولن تمسح عودتها ما جرى من أذهانهم أو تنسيهم من فقدوه في ذلك الصراع..

همست جياندا وهي تتأمل ما حولها بأسى "ما الذي جرى؟.. أكل هذا بسببي؟.."

قال لها غارب "لو كنتِ سببه، فأنا أحمل الذنب مثلك وأكثر.. لم تأتِ لهذا المكان بإرادتك، بل أحضرتك دون رغبتك آملاً أن أبعدك عن شامين.. لكنه تبعنا بأسرع مما توقعنا، وبعد اختفائك بدا أنه بقي حاقداً علينا وانتوى الانتقام منا.. فأبقى فرقاً من جنوده في المنطقة تجوب القرى العربية، تنتظر أي خبرٍ من أرض الصرد عنك، وفي الآن ذاته فرضت سيطرتها بوسائل مستنكرة كان لابد أن يثور عليها العرب.. ومع المناوشات التي دارت بينهم وبيننا، اندلعت معارك قوية لم نستطع تفاديها.. والناتج كما ترين.."

توقفت قائلةً بعينين متسعتين "أتعني أن هذا لم يحدث في أرْونان وحدها؟.."

قال غارب بأسف "بل طال أغلب القرى القريبة، ولأكثر من أسبوعين حتى انسحبت فرق الجنود بأمرٍ أتاهم من لازيلار.. لم يكن الدمار بنفس الشدة في القرى كلها، والقرى المتطرفة قد نجت من مثل هذا الهجوم لحسن الحظ.."

همست جياندا بصوتٍ مبحوح "لحسن الحظ؟!.."

أي حظٍ هذا الذي لحق القرى التي تبعد مسافاتٍ شاسعة عن الصراع في لازيلار؟.. أي حظٍ نكبهم بقدومها إليهم؟.. لمحت بعضهم يدير رأسه إليها، وبدأت الأنظار تلتقي عندها.. عرفوها رغم اختلاف هيئتها عما كانت عليه، وسرعان ما انطلقت أول شتيمةٍ بصوتٍ واضح لا خوف فيه.. أدركت أنها شتيمةٌ من نبرة الصوت وملامح الوجه التي بدت مشمئزةً وهي تنطق الكلمة.. لم تفهم العربية بأي حال، وبدا أنهم تعمدوا التكلم بها لئلا يطالهم غضبها جراء ذلك.. وبكل راحة، تتالت الشتائم نحوها والتي لم تتجاوز ذلك من كل اتجاهٍ وبكافة الأصوات.. لمحت امرأةً عجوزاً تصرخ بها وتبكي منهارةً أرضاً، وكأن مرآها قد ذكرهم بمن فقدوه.. بدأ غارب ينهرهم عن ذلك، لكن جياندا أمسكت ذراعه قائلةً بصوتٍ مرير "دعهم.. هذا رحيمٌ مقارنةً بما جرى لهم.."

حتى لو فهمت تلك الشتائم، فلا يحق لها أن تغضب.. لا يحق لها أن تجزع.. كل ما يحق لها أن تشعر به هو الحسرة على من ماتوا لأجلها.. لأجلٍ شخصٍ لا يستحق..

قال لها غارب "مولاتي.. لستِ بحاجةٍ لمواجهتهم.. لنذهب، لابد أنك متعبة.."

لكن جياندا لم تتحرك وهي تحدق بوجوه من حولها.. تحفظ ملامحهم الكارهة.. تحفظ الغضب الذي برز من العيون وترجمته الشفاه.. تحفظها لتذكّر نفسها بما نكبت به هذا الشعب لمجرد مرورها به.. ورغم إلحاح غارب، بقيت واقفةً في موقعها تتلقى تلك الشتائم دون أن يثور الغضب في نفسها.. قد يغضب غيرها لما يجده، حتى لو كانت قراراته هي ما أكسبه هذا الكره البارز في العيون.. لكنها لم تغضب..

قبائل الوهم ٢حيث تعيش القصص. اكتشف الآن