الفصل الرابع والعشرون

176 6 0
                                    

الفصل الرابع والعشرون....

(لا تكن همجيا)

استمدت هتان قوتها وجرأتها بعد ان تذكرت ان لا يوجد مستمسك يجبرها ان تخضع لديم وان الأوراق التي تدينها بها قد مزقها جاسر فقالت بتأمل: "اسفة .... لا أقدر .... لا أتذكر انني ابديت موافقتي على الخطوبة أساسا .... لا أقدر ان اتزوج بركات لأني لا احبه"
رفعت ديم حاجبها الأشقر وقالت متصنعة البراءة: "تحبين من اذن يا حلوة؟"
امتقع وجه هتان وخفقت اهدابها تحت تأثير نظرة ديم القاتمة!
لكن رغم حرجها لم تعد تأبه لها ما دامها حرة ومادام جاسر معها وبظهرها فديم خسرت البطاقة الرابحة التي كانت تهددها بها وتضغط عليها لذلك ادارت لها ظهرها وواصلت عملها متظاهرة بعدم الاكتراث لوجودها لكنها في الحقيقة قلقة ولا يعجبها ان تجاهر بالعداء لديم.
تمخض تجهم ديم عن ابتسامة حقيرة ومتوعدة وماكرة ثم ادارت عجلات الكرسي ببطء وخرجت من المطبخ وهي تهز رأسها باستخفاف واستحقار.
............................
بعد مرور يومين ....
كانت الامطار تهطل بغزارة عندما ترجلت هتان من السيارة واسدلت اهدابها بمشاعر مضطربة عندما وضع جاسر المظلة على رأسها وامسك كفها ضاغطا عليه براحة يده الدافئة وأشار بيده الأخرى ليرشدها الى الطريق
جارت خطواته وبقلبها هاجس يحرمها من الاطمئنان والارتياح معه لكنها مضطرة على مسايرته لأنه وعدها هي ارادت ان تثق به هذه المرة لأن قلبها أراد ذلك.
أسدل الظلام استاره على الانحاء بمجرد وصولهما عدا ضياء البرق تنير لها المكان بين الحين الاخر ووصلت معه الى عتبة منزل صغير جدا كالكوخ معتم تماما من الداخل!
ابتلعت ريقها وخافت منه وكأنه رجل غريب عنها يريد ان يستفرد بها ويستغلها!
حاولت ان تطرد افكارها الغريبة التي سيطرت عليها وتنهدت بعمق وكآبة عندما فتح الباب الصغير بمفتاحه الخاص وعندما وضع يده خلفها ولمس ظهرها برفق انكمشت وقالت بتسرع: "لمن يعود هذا المكان؟ لا اريد ان ادخل هنا أعدني ارجوك لم نتفق على ذلك"
دفعها برفق الى الداخل وأشعل قداحته لتجد شمعدان صغير على رف المدخل الضيق وراقبته وهو يشعل الشمعة الكبيرة بداخله بتأني ثم انزلت بصرها الى الأرض عندما شعرت بشيء ما تحت قدميها بينما هو استدار ليغلق الباب
تغيرت ملامحها المتوترة عندما رأت أوراق الورود الحمراء الطرية تحت حذائها!
وبهتت والجم فمها عن الكلام عندما انحنى جاسر الى قدميها وخلع حذائها برفق وهو يقول بنبرة رقيقة: "اعتبري هذا المكان الصغير هو قلبي وطئي بقدميك عليه برفق وادخلي واستكشفي ما يخبئه لك من حب وشوق"
ارتجف قلبها من كلامه وسرت قشعريرة بأنحاء جسدها من لمسة يده التي تسللت من قدمها الى ساقها صعودا الى فوق ركبتها لتتراجع الى الخلف ويرتطم ظهرها بالجدار خلفها هامسة: "ارجوك"
نهض واعتدل ثم سار في الرواق القصير ذو النور الخافت وتطلعت الى أرضية الرواق لتجد أوراق الورد منثورة على طوال الطريق!
تحركت ببطء وسارت خلفه وهي تتطلع بالمكان الذي تنبعث منه رائحة العطور الجميلة التي تفتح النفس وتدعو النفس الى الراحة لتستنشق العبير بعمق وما ان أبعدت الستارة الخفيفة التي تفصل الممر عن الداخل حتى فغرت فاها حالما رأت أجواء بحياتها لم تحلم بها!
صالة صغيرة مغطاة ارضيتها بسجادة لم تتبينها من كثرة أوراق الورود القانية واريكة واحدة واسعة عليها وسائد حمراء وغطاء خفيف احمر على جانبها وامامها طاولة مليئة بالشموع والصحون والكؤوس وبمنتصفها كعكة مكتوب عليها عبارة: "زواج سعيد"
ابتلعت ريقها وقد اذهلها كل ذلك وبصراحة أصبحت عاجزة عن التفوه بأي كلام امام كل هذه الأجواء الرومانسية!
ظلام ونور الشموع الخافت وطاولة احتفال وارض مغطاة بالورود! لقد أربك مشاعرها بكل ذلك وتطلعت اليه بحيرة لتجده يبتسم لها ويقول بهمس: "لم نحتفل سابقا بليلة زواجنا .... لم اشأ ان اتجاهل الامر هذه المرة .... حبيبتي .... مبروك عودتنا الى بعض كنت احلم بذلك"
خفقت اهدابها وشعرت بالمحاصرة عندما اقترب منها بعد ان جذب علبة من على الاريكة وقدمها لها قائلا: "تقبلي هديتي المتواضعة لهذه المناسبة السعيدة"
بقيت محدقة بالعلبة التي فتحها واخرج العقد الذهبي الجميل من داخلها ثم خاتم زواج ذهبي رقيق وتناول يدها ووضع الخاتم بأصبعها وقبلها وهي كالمصدومة العاجزة عن النطق ثم قرب القلادة منها بعد ان فتح سلسلتها وادخل يديه خلف رأسها لتغمض عينيها من سطوة أنفاسه الدافئة التي لسعت مشاعرها وجعلتها مضطربة جدا وما ان انتهى حتى أبعدته بدفعة واهية من يديها وقالت باعتراض: "جاسر .... انك تحرجني بكل ذلك"
هو وبتأمل: "ولما الحرج؟ الست زوجتي؟ ذلك من حقي وحقك"
ابتعدت خطوات وقالت بارتباك: "اتفقنا على ان يكون الزواج اسميا فقط وانت وعدتني ب"
قاطعها قائلا: "وما دخل ما فعلته بالاتفاق؟ ومن قال لك انني سأجرك الى السرير؟"
امتقعت من عبارته الأخيرة وشعرت بحرارة تركزت بوجنتيها من حياءها من تلميحه الجريء لتسدل اهدابها وما بداخلها يعلن لها ضعفها امامه ورغبتها بالتقرب منه واللجوء الى حضنه بهكذا أجواء رومانسية لتهرب من برودة حياتها بدونه ووحشة لياليها
ولا تدري لماذا ترقرقت دموعها بعينيها؟ ربما تبكي من سعادتها بوجودها معه بعد الفراق المرهق لقلبها ام تبكي من خيبتها لأنها عادت اليه كأول مرة وبنفس السذاجة وبنفس التنازلات بلا حقوق ولا ضمانات وكأنه غيب عقلها للمرة الثانية واستدرجها ليتملكها بدون مقابل بدون أي مقابل ...
.................................................. ...........................................
في مكان اخر وفي عتمة أخرى كانت تجلس هناك ديم لوحدها امام طاولة الطعام الموحشة ذات الشمعدان الخافت وتستمع الى هطول الامطار العنيفة وبعيونها دموع .... دموع الوحدة .... دموع الحسرة والغيرة .... دموع العجز والقهر .... دموع الحرمان والفقد لكنها فجأة أخرجت التمثال من حجرها ووضعته على الطاولة قرب الشمعدان وداعبته بأناملها برفق وهي تهمس كالفحيح: "مضطرة ان اصمت ولا أحرك ساكنا لكن الصمت نحر قلبي .... النار التي بداخلي ستنطفأ بدموعها والنار التي ستوقد بقلبها لا أحد سيطفأها .... كل شيء سيعود الى مكانه عاجلا ام اجلا فقط الصبر .... ألهمني الصبر يا الله على التحمل فقلبي متقد وتفاقمت نيرانه حتى كادت ان تلتهم روحي"
وفجأت تعالى صوت بكائها ونحيبها وهي تلطم وجهها بقلة حيلة وانهيار حتى ازرقت وجنتيها دون ان تعي ما فعلته بنفسها.
........................
تناول جاسر قنينة العصير وسكب في كأسها وهو يتطلع بها وبدى مأخوذا بجمالها الليلة وهي ترتدي فستان اسود ملتصق على جسدها ليبدي جمال قوامها المتناسق وطراوة بشرتها المتألقة وجمال لون شعرها المتموج الخصلات على كتفيها حتى هتفت: "جاسر انتبه!"
ابتسم عندما وجد العصير مسكوب حول الكأس على الطاولة وقال بهدوء: "اسف لا تؤاخذيني فجمالك الليلة .... أفقدني التركيز و .... الصواب"
وانزل بصره الى عنقها الغض المتقد بالشباب والانوثة والذي منح القلادة رونق ووهج مختلف وقال بنظرة نهمة: "احبك"
فركت يديها بحجرها وهي خائفة من ذلك الشغف بعينيه ومن عمق نبرته ... خائفة منه ومنها! من قسوة حبه ومن ضعفها!

رواية الحلم الرمادى لكاتبة هند صابرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن