الجزء الثالث- الجراحة
في الصباح, عندما غزت أشعة الشمس غرف المستشفى و بدأت الأصوات تعلو في الأرجاء في حين بدأت ورديات الممرضات, اخترق أنفي مجددا رائحة الأدوية والمواد الكحولية مؤكدة لي بأنني ما أزال أقبع في المستشفى بجانب جدتي!
فتحتُ عيناي بتثاقل, ورميت بنظري على جدتي النائمة, كنت قد تعبت ليلة البارحة ولم أهنأ بنوم بين طبيب يدخل وممرضة تأتي لإعطاء الدواء، بينما كانت أصوات الأجهزة الطبية تدق في رأسي كالمعاول!!
قررت أن أعود إلى نومي بعد أن تطمأنت على وضع جدتي ورميت عليها بنظرات تفحص سريعة..
إلا أن قبعتي التي تسبح في الهواء حالت دون ذلك, ظننت أن الإنزعاج أثر بي وجعلني أغط في النوم..
كيف ذلك وقد تلاقت نظراتي وتلك العيون البنية…
فتحت عيناي بشدة…
ورفعت رأسي …
لم يفصل نظراتنا سوى بضع سنتيمترات…
ارتبكت…
أرجعت رأسي إلى الخلف…
فركت عيني..
وباستغرابٍ شديد ألقيتُ نظرة عليها من أخمص قدميها الحافيتين إلى قبعتي التي قد اعتمرتها…!
ووجدتها تستجديني وتعامِدُ سبابتها على فمها و أنفها طالبة مني الهدوء.
سمعتُ صوت والدها ينادي عليها :
- " إليييين ... إليييين … أين أنت ياطفلتي؟؟؟!"
ضاعفت الفتاة من رجائها عندما أمسكت بيدي, وقوست حاجبيها بحزن وشدت على أسنانها محركة رأسها يمنة ويسره.
سمعت صوت والدتها (صباح) تقول:
- " تعال نبحث عنها في الغرف المجاورة لعلها دخلت غرفة أخرى ظنت أنها غرفتها!"
همّ الإثنان بالخروج, وما كان من الفتاة إلا أنْ خلعت القبعة وألقتْها بجانبي…
أزاحت الستارة وخرجت من الغرفة مبتعدة…
تاركة إياني في دهشةٍ أفقدتني الشعور بحواسي التي بدأت تعمل حينما نادتني جدتي و أخبرتني بأن ألحق بالفتاة وأعود بها إلى والديها خشية أن تخسر فرصتها بالجراحة.
وقفت محاولاً استيعاب ما جرى منذُ دقيقة!
خرجت من الغرفة أبحث عنها في الممرات, سألت الممرضات عنها, صادفت والدها وأخبرته بأنني سوف أبحث معهما, شكرني وافترقنا كل في طريقه.
وبدأت أمشي بين الغرف أنظر يمنةً ويسرة، نزلت إلى الطابق السفلي بالمصعد، وفتشت الطابق كاملًا، وفتشت المصاعد أيضًا. هممت بالرجوع
إلى الطابق الأعلى، فنبّأني قلبي أن أتّجهَ إلى الدرج, فتحت الباب نظرت أسفل الدرج ثم أعلاه.
بعد أن صعدتُ درجتين لمحت إحدى يدي الفتاة ممسكة بالدعامة وتحاول الاختباء, مشيتُ باتجاهها اقتربت منها وانحنيت على ركبتَي, ابتسمت لأُشعرها بالطُّمأنينة, نظرت إلى عينيها وقلتُ بهدوء:
- " إمممم… إذاً… اسمك إلين!!!"
رجعت الفتاة إلى الوراء وعَلت قسماتها الارتباك, استطردتُ قائلاً :
- " أُمك بانتظارك.. وهي تبكي الآن.. هيا لنذهب إليها ولن يحدث لك مكروه".
هزت برأسها نهيا وبدأت الدموع تتجمع في مقلتيها,كان الخوف في وجهها يؤلمني، أحسست بمسؤولية تجاهها.. شعرتُ بأنّي مُحاصر في معركة غير عادلة!
ارتبكت...
مددت بيدي لأسحبها حيث والديها ولكنها نفضت يدي ورجعت للخلف مبتعدة..
درتُ بنظري في الأرجاء أُفكر في خطة سريعة لأكسب المعركة ضد تلك الفتاة..
لاح وجه (ماكس) فجأة في مخيلتي..
قلتُ مسرعاً:
"ماااااكس... أتذكرين القط ماكس!!! ذلك القط الأبيض المكتنز...ما رأيُكِ بأن أحضره بعد الجراحة؟.. إن كنتِ متعاونة سوف أجلبه وأجعلك تطعمينه ما تريدين.. إنه يحب الأسماك كثيييرا ويحب السردين.. ".
يبدو أن هجومي فعال؛ فدفاعاتها بدأت تتراخى..
نظرت إلي وبدأت تفكر..
ثم تقوس فمها مجددا وأومأت بالرفض وبدأت تحرك يدَيها وتحاول قول شيءٍ بشفتيها ولكنني لم أفهم شيئا.. قلت لها :
- " ما رأيك بأن نذهب لوالديك.. وتوضحين لهم ماذا تريدين؟؟"
بدأت الدموع تنهمر .. و عاودت تحريك يديها بحركات لم أفهمها...
ماذا علي أن أفعل؟؟
هل أذهب وأستدعي والدها؟! من الممكن أن تختفي مجددا ونبدأ في البحث مرة أخرى ..
هل أحاول اقناعها مجددا؟!
يا الهي إنها تبكي ..
أرجوكِ لا تبكِ...
فما كان مني إلا حملها وأخذها لوالديها رغمًا عنها، كانت تقاوم بكل ما أوتِيَت من قوة ولكنها كانت هشّة، حتى كدت أن أجزم بأن (ماكس) أثقل منها!!!
نزلت مباشرة واتّجهت نحو غرفتها، أفلتت يديها من بين ذراعيّ وقامت بخدشي على وجهي.. كنتُ قد أغمضت عيني بشدة وتوقفت لبرهة من شدة ألم الخدش... حتى أنها استغلت الفرصة وحاولت الانزلاق من بين يداي.. ولكنني أعدتُ إحكام قبضتي وأسرعت نحو والدتها التي رمت بجسدها على الأرض جالسة خاضعة للأمر الواقع.
حينما رأتني أقبلُ نحوها حاملا طفلتها التي ما زالت تقاوم وتذرف الدموع, أسرعت بالوقوف والتقطت طفلتها بشلال من الدموع. وبدأت الفتاة والأم بحوارٍ لم أفهم منه إلا أن تلك الفتاة خائفة من الجراحة وأنها تظن بأنها لن تقوم بعدها أبدًا!!!
هل ذلك ما أرادت أن توضحه لي!
حضر والدها (فريد) مسرعا وأقبل نحوهما وأخذ الفتاة واتجهوا إلى قسم الجراحة...
جلس الجميع بمن فيهم أنا على مقاعد الانتظار أمام باب الجراحة, في حين أبلغتهم الممرضة المساعدة أنّ الجراحة من المحتمل استمرارها ثلاث ساعات تقريباً, عندها توجه الأب نحوي وقال بتهذيب:
- " اذهب يا بني.. فـجدّتك وحدها لعلها تحتاجك فلا تجدك"
أذعنتُ لطلبِهِ على استحياءٍ, وعُدتُ لغرفة جدتي التي كانت تنتظرُني لنتناول طعام الإفطار معًا. أخذنا نأكل ونتجاذبُ أطراف الحديث.
- " يبدو أن وجهكَ قد جُرح ماذا حصل لك يا عادل؟؟ اذهب إلى الممرضة لتعالجك.. خدّكَ أحمرٌ بعض الشيء..لا يجب أن يترك علامة."
- " ااا... ههههه إنه مجرد خدش بسيط سوف يعالج نفسهُ بنفسِه.. لا عليكِ .. تناولي الطعام لتتحسني في أسرع وقت .."
كنت أشعر بلسعةٍ خفيفة على خدي ولكنني كنت سعيدا لأخذ تلك الفتاة العنيدة إلى والديها.
- " جدتي, يا لهذه الطفلة!!! .. مع صغر حجمها إلا أنني كلّما رأيتُها تسبّبُ لي الارتباك.. لم أعلم بأني ضعيف أمام طفلة تبلغ من العمر ثمانية أعوام فقط.. أشعر بمسؤوليةٍ تجاهها.."
نظرَت جدّتي نحوي وهي تمضُغُ الطعام برفق:
- " هناك يا بني أشخاص لهم تأثير علينا, دون بذل مجهود يُذكر.."
قلت وأنا أبتسم:
- " نعم… وخصوصا اذا كانوا يمتلكون عيونا بنية!! ياااه تمنيت يا جدتي لو أن لي أخت أعطف عليها وأحميها كتلك الفتاة"
- " حبيبي الصغير يا لقلبك الرحيم.. "
قطع حديثنا صوت (كريم) يلهَثُ قائلا :
- " اختي بحاجةٍ إلى دم.. والدي يريدك على الفور!"
تركت لقمتي التي كانت تشق طريقها إلى فمي، وانتفضت من مكاني, أخذت أجري باتجاه قسم الجراحة سابقا (كريم) بأمتار...
سُحبت وحدة دم مني، رجعت إلى باب الجراحة، وجلست على مقعدٍ قبالة الأبوين، ممسكا بقطعة من القطن أشد بها على ذراعي.
بعد أن رصدت نظرات كريم نحوي اقترب مني و قال:
- " لم نجد متبرعا بالدم, فلجأ والدي اليك"
قلتُ له:
- " لا بأس أنا بالخدمة.. أتـ..أتمنى أن تتكلل عمليتها بالنجاح"
بعد ساعة أو أكثر.. رأيت باب الجراحة بدأ ينفرجُ ويخرج منه الطبيب. خلع كمامته وابتسم نحو الأبوين يُطَمئِنهم بنجاح الجراحة.
وقفت مسرعا واتجهت نحوهم كنت على بعد مترين أسمع بحذر شديد ما يقوله الطبيب. أخبرهم أنها بحاجة لأن تبقى في العناية المشددة للتأكّد من سلامتها.
لم أكن أقل فرحة منهم, وابتعدت تاركا إيّاهم يحتفلون بسلامتها, عائدا إلى جدتي أُبشرها بانتهاء الجراحة.
قررتُ أن أنسى أمر الجامعة هذا اليوم, وأن أذهب إلى عملي محاولاً مضاعفة أَجرِي, لأستطيع أن أتدبر أمر إكمال مصاريف علاج جدتي.
قابلت في طريقي (سمير) الذي بدوره أَقلَّني إلى عملي، وذهب هو إلى الجامعة.
أنهيتُ دوامي، وذهبت إلى القرية لإحضار حاجيات للجدة, وأحضرت معي كيس التفاح الأخضر, واللوز.
توجهت نحو منزل (سمير). كنت أحمل نسخة عن مفتاحه، دخلت وناديت على (ماكس). قفز القط بين يدي وبدأ في فرك رأسه على صدري. أطعمته ثم ألقيت بجسدي على أريكة مريحة لبعض الوقت حتى شعرت بثقل عيناي ولكن..
لا يجب علي السقوط في النوم ..
ليس الآن !!
خرجت متوجها إلى المستشفى
دخلت الغرفة فَوَجدت الممرّضة تتابع حالة جدّتي، جلست بجانبها وطبعت قبلة على يدها, وسألتها عن حالها ثم جعلت أُقطع التفاح وأطعمها.
أخبرتني بأن أرجع إلى منزل (سمير) لأنال قسطاً من الراحة..
بعد عدة جمل من الجدال أذعنت كارها لطلبها, واتجهتُ الى الطبيب أسأله عن حالها, ثم رجعت لمنزل (سمير).
كان التعب قد نال مني، نمتُ على سرير صديقي قبل أن أخلع حذائي، حتى أنني لم أشعر ب (ماكس) وهو يحوم فوق السرير ويدوسني ذهابا وإيابا.
في صباح اليوم التالي ذهبت إلى عملي, ومن ثم إلى الجامعة, كنت أراقبُ ساعة يدي كل دقيقة, آملا أن تدق الساعة السادسة لكي أذهب إلى المستشفى و أرى جدته وأطمئن عليها..
ولا أعلم لماذا أيضًا بدأ فضولي يقودني لمعرفةِ أحوال الفتاة ذات العيون البنيّة.
دخلت الغرفة مبتسما, كانت جدتي جالسة تتحدث مع السيدة (صباح) وتأكلان التفاح, والعم (فريد) يشاهد التلفاز بينما يجلس على طرف سرير ابنته, ابتسم (فريد) عندما رآني مقبلا, وشدّني إلى صدره قائلا:
- " شكرا لك يا بني.. لم يكن القريب يفعل ما فعلته لابنتنا… لن أنسى معروفك مهما حييت أنا وطفلتي.."
ابتسمتُ بخجل وقلت:
- " لم أفعل الكثير يا عم.. المهم أن تكون الفتاة بخير"
ومن ثم نظرت إلى الأرض بتوتر ورفعت بصري للوالدين وأكملت متسائلًا:
"أخبراني …. كـ.. كيف حالها الآن ؟؟!!"
أخبرني العم (فريد) بأنها سوف تُنقل إلى الغرفة غدا وأنها سوف تستطيع الأكل والبلع والحديث في غضون أيّام.
الحمد لله أن الجراحة كانت ناجحة...
أنت تقرأ
شمس إلين
Romanceالمقدّمة: عندما كنت شاب في أمسّ الحاجة ليد تربت على ظهري.. بدأ الشعر الخفيف ينبت بعشوائية على ذقني.. في الوقت الذي ينبغي أن يصفني به البعض بالأناني المراهق.. أصبحت أبًا دون زوجة أو أطفال... عندما فقدتُ الأمل بطفولة سويّة .. وأصبحت بلا ثقة ولا م...