حينما دخلتُ المقهى وقعت عيناي فورًا على مبتغاي, كانت تلك الماكرة تقفُ خلف المنضدة وحينما نظرت إليّ اختبأت في الأسفل بسرعة, هممتُ بأن ألتفَّ خلف البار لأفاجِئها ولكن حين وصولي كانت قد اختفت.
اتّجهتُ إلى ممر الموظّفين وفتّشتُ عنها في الغرف, إلى أن لمحتها تقف في الخارجِ أمام شابٍ غير متوازن يستشيطُ غضبًا, مدّ يدهُ باسطها باتّجاهها كمن يطلب شيئاً وهي تهز رأسها رافضة.
وقفت أراقبهم بفضول, بعد برهةٍ صفعها على وجهها, تناثرت قواعد خشبية من بين يديها, ووقعت الفتاة أرضاً, وفي موقفٍ وحشيّ اجتثّ الرجل فوقها بكلّ ثقلِهِ على جسدها النّحيل!
انتفضتُ في مكاني وعلامات الحيرةِ والتساؤلات تعتريني, مدّ يده الى جيوبها أخرجَ أوراقاً نقدية بعثرها بين أصابعه, وقف بترنّح وتركها خلفه تضم جسدها, وتوارى عن الأنظار.
أسندت يدها إلى الأرض, تضع الأخرى على خدها المصفوع, جعلت تجمعُ القواعد الخشبية وهي تنظر إلى الأرض بحنقٍ وحزن, تراجعتُ إلى الوراء واتّجهتُ داخل المقهى.
جلستُ أمام طاولتنا المعهودة، وما زلتُ تحت تأثير ما حدث قبل برهة, نظرتُ نحو مدخل الموظفين بشيءٍ من الضيق حتى ظهرت تلك الفتاة تنفض ملابسها من بواقي أتربة الأرض, تخفي وجنتها بيدها.
بدأت أراقبها، أخذَت هي نفسًا عميقا، ووضعت القواعد الخشبية على المنضدة, كانت يديها ترتجفان، ووجنتها حمراء بعض الشيء، أخرجت من الثلاجة كيس ثلج ووضعته على وجنتها لثوانٍ قليلة ثم وضعته جانبًا حين رأت زبونا يتجه نحوها, أسدلت خصلة من شعرها فوق خدها المتلون ثم ذهبت لتلبية طلبه.
تقدمتُ أنا أمام البار وجلست، وضعت ساعديّ على رخام المنضدة بكلّ ثقة, وشبكت أصابعي و ناديتُ عليها:
- " أيّتها الموظّفة..."
لاحظتُ بأنّ دمعة قد سبحت على وجنتها, سرعان ما مسَحتها, وتجاهلت ندائي وأكملت سيرها, أمسكَ أحد الموظّفين بيدها وأشار باتّجاهي وأخبرها بأن تلبي طلبي.
وقفت هي قبالتي ونظرت إلي بدهشةٍ حاولَت إخفائها. ثم انحنت ترحب بي ورفعت بصرها بشيءٍ من الرهبة تنتظر طلبي.
تأملتُ وجنتها المصفوعة, كانت حمراء جدًا, نظرتُ إلى يديها اللتان ما انفكّتا ترتعشان, حاوَلت أن تكبت ألمها.
صمتُّ لثوانٍ, لم أستطع أن أنبس ببنت شفة, بل وجعلتُ أتأملها أكثر!!
نسيتُ ما كنت قد جِئتُ لأجله!
ولكنها فجأة ظهرت أمام مخيلتي في فستانها الأسود وعقدها اللؤلؤي تجرّدني من ممتلكاتي وتهرب..
جعلتني أنسى ما حدث لها منذ دقائق, أخيراً استجمعتُ شجاعتي وقلت:
- " أريدُ كأسا.."
بلعَت ريقها, ونظرت حولها فوجدت زجاجة نبيذٍ أمسكتها والتقطت كأساً صبّتها ومدّت إليّ بها.
حسنٌ يجب أن نرجع إلى موضوعنا الأساسي, وضعتُ شفقتي جانباً وأنزلتُ بصري إلى الكأس ثم نقلتهُ إليها و قلت:
- " ليس النبيذ.. بل أريدُ كأس"
لم تستطع إخفاء ارتباكها, وبسرعةٍ وضعت كأس النبيذ الممتلئة على رفٍّ تحت المنضدة. تناولت كأسا فارغا وقدمتهُ نحوي, ونظرت إلي بتوتر, نظرتُ بشيءٍ من الجديّة نحو الكأس وقلتُ:
- " اريدُ كأساً من الماء.."
نظَرَت هي إلى الكأس و رمشَت باضطراب, حركت جسدها كمن لا يدري ما العمل. التفتت وتناولت زجاجة ماءٍ باردة وفتحتها بجُهد و صبّتها في الكأس, حتى بدأ الماء ينسكب خارجا. أعادت هي النظر إلي.
وضعت الزجاجة جانبا، وتناولت عدة مناديل ومسحت الكأس وأرضية الرخام المبللة, وضعت قاعدة خشبية تحت الكأس وقدمتها أمامي.
أمسكتُ بالكأس ونظرتُ إلى الفتاة المرتبكة.
هل أصرخ في وجهها؟!
أم أرشقها بكأسِ الماء!!!
أدركَتْ هي حنقي تجاهها وأرجعَتْ رأسَها للخلف بتوتر ظاهر, وأنا بدوري أخذتُ أشرب الماء.
***
بدأ قلبي يَدق كحَرقَدَتهِ التي تتحرك بعنقه, حتى صار أسرع بالخفقان, أتمنّى أن لا يكون قد تعرّف علي, ما الذي جاء بهِ إلى هذا المكان بالتحديد!!
هل تعقبني يا ترى؟!
ماذا سيفعل بي بعد انهائهِ كأس الماءِ هذه!؟
نظرتُ إلى الكأس الفارغ…
ثمّ لعينيه…
ثمّ لشفتيه اللّتان تنذران بالحركة…
أخذت نفساً عميقاً لاستقبال كلماتِهِ
- " اذاً …. تكسرين مرآة سيارتي وتهربين!!"
هوى قلبى وشعرت باهتزاز المكان من حولي..
أمسكت بطرف المنضدة أمامي كي لا أسقط !!
إذًا هو يتذكّرني!!
يا الهي بدأت أطرافي بالارتعاش…
ما هذا المأزق؟!!
يكفيني أنني لا أملك نقودًا للحافلة وسوف أذهبُ إلى البيت مشياً على الأقدا, هذا إن لم يجعلني هذا الرجل أنام في السجن!
تظاهرتُ بالجهل وأومأتُ لهُ بعدم الفهم!
- " ما أنت فاعلة الآن .. ها ؟؟!"
حسنٌ، اعذرني أيها الرجل لحظة، ألن تأتي بذكرِ فتاة الملهى؟!
أم أنّ شكلي يختلف الآن بلا مساحيق وفستان؟
هل تتذكّر تلك الليلة!!!
يا الهي.. أتمنى أن أختفي كوميض البرق !
أحسستُ بثقلِ عيناي فأطلقت بصري نحو الأرض أمامي, لمحت دفتري في جيبي, هممت بإستخراجه, إلا أن صوت السيد (سمير) أوقفني بناداءه على الرجل القابع أمامي
-" عادل ..."
نظرتُ إلى رب العملِ برهبه, اغتنمتُ الفرصة وحاولت التملص إلّا أن السيّد (سمير) طلب مني أن أملأ كأس نبيذٍ لزبونه.
يبدو أنهما يعرفان بعضما البعض!
أمسكتُ الزجاجة وبدأت أفرغ محتوياتها في الكأس بينما كنتُ أرمي بنظراتٍ خاطفة نحو الرجلِ ذي عيون الذئب وأترقّبُ حركة شفتيهِ بقلق.
- " ما هذا يا رجل أتوظّفُ محتالين في المقهى!؟"
رجفت يدي فانحرفت ودلقت شيئاً من النبيذ خارج الكأس, توجّهَ بصرهما نحوي في نفس الوقت. ارتبكت أكثر، ولم أقوَ على رفع بصري عن الكأس.
- " عن أيّ أحد تتكلم؟!"
رفع ذو عيون الذئب حاجبيه وأشار بعينيه المخيفتين باتجاهي. كنتُ قد انهمكت بمسح النبيذ عن الرخام. ولا تزال يدي ترجفُ بعنف. أسقطتُ نظري بسرعة على المناديل المبللة, وجعلت أفركُ جبيني لأغطّي ارتباكَ عيني بيدي.
- " كسرت هذه الفتاة مرآة سيارتي.. وهربت…. وأيضا..."
وأيضاً!!!
وأيضاً ماذا؟!
هل يتذكّر مصيبةً أخرى؟!؟!
يا الهي لم أعد أحتمل!!…
لم يتبقَّ لعاب في فمي إلا وابتلعته, أكمَل هو بنبرة أكثر حدّة:
- " إنها حتّى لم تقدّم اعتذارًا…"
ردّ السيّد (سمير) بكلّ لطف :
- " مممممـ … كيفَ حدثَ ذلك؟!!.. على أيّة حال سوف أدفع لكَ ثمن المرآة.. الآن دعك من هذا .. أريد أن أتحدث معك في موضوع ما"
- "طبعاً أنتَ لن تقوم بدفع ثمن شيء .. كل شخص عن نفسه مسؤول.. ادفع لي من راتبها.. أقبل بذلك".
و بسرعة رفعت رأسي ونظرت في عينيه؛ لأستشفَّ الجدّية منهما, وجدته ينظر إليَّ بجُرأة, جعلتني أعود بعيني إلى الأسفل بخنوع. قاطعتهم الآنسة (ياسمين) وقد عانقت خطيبها من الخلف :
- " بماذا يتحدثون زوجي وضرّتي؟!"
أمسك السيد (سمير) بيدي خطيبته وقبلهما .نقلت بصري نحو الذئب الذي خرق وجهي بتحديقه, ابتلعت لعابا جافا وفكرت في مهرب من بين مخالبه. أشاح بنظره عني ونقل بصره نحو كأسه. لقد كانت تلكَ فرصتي لأهرب وأتوارى عن تلك العينينِ المخيفتين!
ابتعدتُ إلى الخلف وتواريتُ خلفَ باب الموظّفين لأُهدّأ من ضربات قلبي الذي ملأهُ الذعر.
والآن بعد أن وقعت العقد ووضعت معلوماتي الشخصية ودونت موقع منزلي لا أظن بأنه بإمكاني الهرب...
إن كان الأمر يقتصر فقط على مرآة سيارته فيمكنني التعامل معه, ولكن ماذا لو تذكر فتاة الملهى الليلي؟!
***
" - ضرّتك!!!.." قال (سمير) ضاحكاً بعد أن قبل يدي خطيبته.
نفذت تلك الماكرة بجلدها، كان حريٌّ بي أن أذهب خلفها وأخبرها بأنّي أتذكّرُ وبوضوحٍ هجومها الشرس علي ونهبها لممتلكاتي في تلك الليلة! بل وفضحها أمام ربّ عملها !ولكنّ...لا أعلمُ لماذا أُلجِمَ لساني في تلك اللحظة!!
- " سوف أدعوكم إلى عشاء فاخر أنت وزوجي في أفخم المطاعم".
كان يبدو على صديقي وخطيبته بعض التوتر، قبلتُ الدعوة. غادرَ ثلاثتنا المكان واتّجهنا إلى إحدى المطاعم, وكنتُ قد اتّخذتُ قرارًا بعدم ترك تلك المخادعةِ وشأنها.
لن أقع أسير عاطفتي مرة أخرى.
ولن أرأف بها حتى لو أُصيبت بعيار ناري أمامي وليس لمجرد صفعة !!
لن أضعف حتى لو ملأت زجاجة ماء بدموعها !
جلسنا حول طاولة العشاء وقد تجاذبنا أطراف الحديثِ فيما بيننا إلا أنّ عنصرًا رابعا انضمّ إلينا في تلك الليلة.
أتت الأنسة (ميرنا) وشاركتنا الوجبة بناءً على طلب (ياسمين). كنتُ ليلتها قد تركتُ عناءَ التفكيرِ في العمل وكل ما يكدّر صفو مزاجي جانباً.
الأنسة (ميرنا) فتاةٌ تكادُ تكتملُ صفاتُها, جميلة ومثقّفة ومتفهّمة, بل وتتفوّقُ على (ياسمين) بكثيرٍ من الصفات, اتمنّى لو باستطاعتي أن اوطّدَ علاقتي بها ونتقدّمَ إلى الأمام فأنا أصبحتُ مؤخّراً أحتاجُ لشريكٍ في حياتي يجلي البؤسَ جانبًا ويعوّضني القليل من السعادة.
- " إن هذا اللحم فاخرٌ جدا…" قالت (ميرنا)
- " نعم … فأنا لم أدعُكم لنأكل أصنافًا عادية من الطعام… أنا امرأة ذوّاقةٌ للغاية..."
كان (سمير) يقطع اللحم بالشوكة والسكينة، ويفرق القطع الصغيرة عن بعضها البعض، لاحظت شروده، ولم أرد إحراجه أمام ضيفتنا فآثرت الصمت .
كانت السيدتان من يتحدثان معظم الوقت، أمّا أنا وصديقي فكلٌّ سارحٌ فيما يخصه.
انتهينا من العشاء وتلك الامسية اللطيفة. في الحقيقة لم نكن أربعة اشخاص بل كنا خمسة. حاولت صرف تفكيري عن تلك الفتاة المنافقة ولكنها أبت أن تتزحزح عن مخيلتي. ورجعتُ إلى منزلي وأنا أفكر في تلكَ الوجنة المصفوعة!
لأكون صادقا !!
لم أُفلح في استحضارِ مواقفي السيئة معها أو سرقتها لي, كان صمتها ما أثارَ فضولي وحنقي معًا, ولكنني تحسّبًا لتفكيري المتناقض أيقنتُ بعدما
تزاحمت الأفكارُ في رأسي بأنه ليسَ لتلك المحتالةِ مكانٌ في مقهى صديقي..
وليس للشفقة مأوًى في داخلي….
بدّلتُ ملابسي وتمدّت على سريري وأنا أُحاولُ أن افكّر في شيءٍ أخر كارتباطي ب(ميرا) وتخطيطي لحياة جديدة وبدايةٍ سعيدة.
أمسكتُ بحاسوبي المحمول وفتّشتُ عنها فوجدتها فتاةٌ ذات شأنٍ في ادارة شركة عائلتها وتستحقُ الثناء. لقد عملتُ مع جدها بتعاونٍ فيما بيننا وأتذكر بأنه كان رجلًا ثقة. بيد أن والديها يعيشان في الخارج، ولسوف أقدم لهما نفسي حين يأتيان في الاجازة.
أتى صباحُ اليوم التالي وقد انشغَلتُ عن التفكيرِ بالفتاتينِ بسبب الأرض المحاذية للمركز التجاري, يبدو بأنّ مالكها لا يريدُ بيعها..
شربتُ دواءً لتسكينِ ألمِ رأسي, وبدأت أُفكّر بطريقةٍ لإقناع المالك. اجتمعت مع مساعدي (جميل) ونائبي والمحامي لتبادل الآراء.
أنت تقرأ
شمس إلين
Romantizmالمقدّمة: عندما كنت شاب في أمسّ الحاجة ليد تربت على ظهري.. بدأ الشعر الخفيف ينبت بعشوائية على ذقني.. في الوقت الذي ينبغي أن يصفني به البعض بالأناني المراهق.. أصبحت أبًا دون زوجة أو أطفال... عندما فقدتُ الأمل بطفولة سويّة .. وأصبحت بلا ثقة ولا م...