الفصل العاشر/
( مسار الحياة لكل منا مرسوم بتخبطاته وأفراحه ، علينا فقط أن نؤمن بذلك ، وأنا آمنت بهذا .. آمنت به عندما رأيته لأول مرة ، وآمنت به حينما وجدت نفسي زوجته ، آمنت بالقدر عندما رأيت في نفسي إشتياقا له حتى وهو بجانبي ، آمنت ..وآمنت ووجدت ضالتي عندما عرفت معنى العائلة ، ولكن في تلك الليلة وكأني طائراً يحلق في السماء ومن دون إنذار كُسر جناحيه ، لا ... في الواقع كانت هناك عدة إنذارات ، تغيرات نبيل وإن كانت طفيفة بقدر إستطاعته كانت آلة لتنبيهي ولكن أنا إخترت أن أصّم أذنيّ ، ومثلما دخل إلى حياتي فجأة .. خرجت أنا من حياته ، لم أكن أدرك وقتها إلى أين أذهب فأنا ليس لدي أحد ، وطبعا لم أفكر بالعودة لمنزلي القديم ، كنت تائهة متخبطة ، لم أعرف حتى محطات ذلك القطار قبل أن أصعد به كل ما أردت أن أهرب بعيدا ، أدركت حينما تحرك القطار أنيّ أهرب من المواجهة ، لم أكن سأحتمل رؤية الآسف بعينيه عندما يعلم الحقيقة ، كان سيصبح هناك شرخاً في قلبه، لم أكن مستعدة لخسارته أو خسارة وليد فبالتأكيد لن يقبلني أحد ، خشيت مما حدث في الماضي ، خشيت أن أفقد جنيني على أيدهم للمرة الثانية ، لقد كان جرحي عميق أيكون نبيل حبيبي وزوجي ومهجة قلبي وروحي من يتسبب بهذا الجرح ؟ رفض عقلي قبل قلبي تصديق ذلك .. لذا كل ما أردته الهروب ..فقط الهروب ، ولكن كما قلت إن الحياة قد كُتب مسارها.. فمهما طال هروبي .. أشفق القدر علينا وجمعنا من جديد.
عام ١٩٩٣/
سطع نهار جديد ليبدأ معه يوم يحمل الكثير من الإنقلابات تجهز الجميع مبكرا فأمامهم سفرا لمحافظة أخري ألا وهي محافظة السويس وعليهم الذهاب مبكرا للعودة مبكرا ، كانت أحوال من في المنزل متعكرة قليلا ، فلم يحضر أحد من نساء عبد الرحمن الأخريات وأبناؤهم فيبدو أن خلافاتهم لم تسوى بعد .
تجهز عبدالرحمن وحوريته ونبيلة بسيارة يقودها سائق خاص، وسلوي وزوجها وأمير ومعهم نبيل في سيارة ،أما مني وزوجها وطفلتهما أسيل مع حمدي وسمية وطفلهم أدهم بسيارة، ووليد وزوجته وطفلته سلمي بسيارته ، نعم يبدو أن الجميع قد إستمر بحياته إلا هو توقفت الحياة بعد فراقهم ،انطلقت الأربع سيارات للعنوان المقصود ، وفي الطريق مروا بمحطة القطار ، وكأن الزمن لا يمهله فرصة لأي هدنة ليغوص بذكريات تلك الليلة .
عام ١٩٨٨ (ليلة الفراق) /
وصل وليد أولا إلى الغرفة وعندما رأى هيئتها المبعثرة وقف مصدوما ، لا يعي ما حدث ولكن إن كانت محتويات الغرفة هكذا فيبدو أن شقيقه جّن وعلى ذكره شعر به ورائه فإلتفت له سريعاً ليرى نظرات عيناه متسمرة على بقعة معينة لا يحيد بعينيه عنها ، وعلى الرغم من أنه لم يرى زهرة عندما مشطت الغرفة بعينيه قبلا إلا أنه وجه نظره بتوجس لتلك البقعة ، لم يجدها ولكن هناك أثر لدماء وأيضا للماء و.. وملابسها التي رأها قبلا .
أعاد نظره لنبيل ليجده يتوجه إلى دورة المياه المرفقة بالغرفة ، ظل منتظرا عودته من الداخل متأرجحا في قراره يريد أن يطمئن عليها وأيضاً يريد أن يترك لهم مساحة خاصة بهم لذا قرر في الأخير أن يخرج حفاظاً على خصوصيتهم وقبل أن يتخطى الباب وجد نبيل يخرج ملتاعا ينظر هنا وهناك بتشتت مرددا بصدمة وخوف:
- زهرة مش هنا.. زهرة مش جوة .
كاد أن يتحرك ليتأكد ولكن خطرت فكرة في عقله وهي أن تكون بغرفته فذهب ليتأكد ، بينما نبيل وقعت عيناه على خزينة الملابس فتقدم منها ببطيء ليجد أن الحقيبة وبعض الملابس قد إختفوا.
عاد وليد سريعاً فزعا من فكرة إختفائها ليجد نبيل جالساً أرضاً يبكي بقوة محتضنا إحدى قطع ملابسها ، فهدر به بقوة :
- قوم بينا نلحقها قبل ما يفوت الآوان .
ولكن لم يعلما أن الآوان قد فات .
بالأسفل كان الجميع منتظر ليجدوهما مهرولين إلى الخارج ولكن دلوف الغفر عبد السميع وحديثه أوقفهم:
_ يا حج أنا وصلت الست زهرة المحطة زي ما أمرت ، في أي طلبات تاني .
كانوا جميعاً في حالة صدمة متى وكيف خرجت من المنزل ؟
إقترب منه وليد يسأله:
_ من إمتى الكلام ده ؟
نظر له الغفر بفزع وعلم من هيئتهم أن ليس لديهم علم ليتحدث بتوتر:
_ والله يا أستاذ وليد هي قالتلي إن الأستاذ نبيل والحج عبد الرحمن عندهم علم ، والحاج كان مأكد قبل كده إن طلبات الست زهرة تبقى مجابة عالطول ، فلما خرجت من قيمة نص ساعة كده أخدتها للمحطة بالعربية ، وإنتوا عارفين المحطة قريبة ياعني كلها عشر دقايق ووصلنا ، بس بالله يا حج ما سيبتها إلا لما ركبت القطر وإطمنت إنها مش محتاجة حاجة.
صدمة فوق صدمته أي قطار هذا إستقلته وهي لم تستقل مثله قبلا ، إلى أين ذهبت ؟
_القطار ده رايح فين؟
نطق بها عبد الرحمن بقوة ليجيبه:
_والله يا حج أنا معرفش بالظبط ، لكن انت عارف إن القطورات عندنا بتمر على كام محطة ، وأنا معرفتش الست زهرة هتنزل أنهي محطة لأنها ركبت عالطول من غير ما تسأل والقطار إتحرك بعدها بثواني .
كان نبيل يستمع وعيناه تحولت لكتلة من الدماء ، لم يستطع التحرك أو النبش بكلمة ، رأه وليد هكذا فأشفق على حالته فإقترب منه ممسكاً بذراعه محدثاً إياه:
_ تعالا يا نبيل هنروح نسأل ، وإن حكم الأمر هندور عليها في بلاد كل المحطات .
لم تعد تحتمل ، هي فعلت الأفاعيل لتتخلص منها ، وبعد أن حدث هذا يريدان عودتها ، لا ... كانت تخشى زوجها ولكنها أبت السكوت فصرخت :
_ وعلى إيه ده كله ، عامل في نفسك كده ليه تايه وعامل زي العيل الصغير ال لعبته ضاعت ، واحدة معدومة الأدب والأخلاق سابت بيت جوزها في الليل عاوز تجري وراه ، لأ وكمان ترجعها تاني ليه فين نخوتك ، سيبها لحال سبيلها....
_نبيلة.. إخرسي
فزعت من صراخ زوجها ولكن هذا لم يردعها لتجيبه:
_ بتزعقلي ليه ، انت التاني زعلان علشان بنت وفاء ، أنا كان قلبي دليلي لما حسيت إن البت دي مش هتجيبلنا غير المرار والحزن، وأهي طلعت شوم لأمها ، ربنا لا يعودها ..و...
لم تكمل حديثها فقاطعها صراخ نبيل بكلماته المقهورة:
_بس..بس ، إسكتي بقى حرام عليكي ، إنتي إيه مبتخافيش ربنا ، إرحميني ده أنا إبنك ، عملتلك إيه علشان تتبلي عليها وتظلميها إنتي وابنك .
وجد حمدي نظرات والده النارية تتوجه له ليتمتم بتوتر :
_ وأنا مالي بيها ، أنا كنت أعرف منين إنهم إخوات ، وبعدين إنت هتحملني نتيجة غلطك وعصبيتك ، بقولك إيه يا نبيل طلعني من دماغك عاوز تدور على مراتك ولا لأ انت حر ، إنت ال طفشتها مش أنا .
أنهى حديثه وصعد إلى الأعلى متهربا من نظرات أبيه تاركاً والدته تسبه في الخفاء .
تحرك وليد بإتجاه الباب بقنوط منهم فأوقفه عبد السميع مردفا:
_ يا أستاذ وليد أنا عندي طريقة تعرفوا بيها الست زهرة نزلت أنهي بلد .
توجه نبيل له سائلا بلهفة:
_ بسرعة إيه هي الطريقة دي ؟
نظر له بتوجس ثم أجابه :
_ بصراحة كده يا أستاذ نبيل الست زهرة ياعني حالتها كانت تعبانة وكانت عم تبكي طول الطريق وأنا فكرت أنكم متخانقين شوية وهي راجعة لأهلها وقولت أكيد بعدين حضرتك هتروح تصالحها والمية تعود لمجاريها.
_خلص يا عبد السميع .
فزع من صوت عبد الرحمن ليجيبه سريعاً:
_ أمرك يا حج ، أنا لما وصلتها وهي ركبت عالطول لمحت من الشباك محمود إبن الحاجة مريم انت عارف إنه شغال كمسري ، شاورتله على الست زهرة وقولتله يخلي باله منها ويساعدها وهي نازلة المحطة في شيل الشنطة ، فحضراتكم ممكن تستنوا للصبح لما يعاود من شغله وتسألوه.
إحتضنه نبيل سريعاً معبراً عن إمتنانه وذهب سريعاً متوجهاً لمحطة القطار ولحق به وليد بينما الحاج عبد الرحمن إقترب من عيد السميع مربتا على كتفه:
_ تسلم يا عبد السميع.
_إن شاء الله تسلم من كل شر يا حج أنا معملتش غير واجبي ، وأنا آسف ياحج الست زهرة فهمتني إنك عارف لولا كده ....
قاطعه عبد الرحمن قائلا بتفهم :
_ إنت نفذت أوامري وأنا عارف إنك رجل جدع ، روح إنت نام .
كان جميعهم قد بدؤا بالفعل في الذهاب لغرفهم ما عدا حورية التي إقتربت من زوجها تتمسك بذراعه قائلة بلطف :
_ ربنا هيلطف بينا وزهرة تعود والليلة هنمحيها من حياتنا.
في محطة القطار /
جلس كلا من نبيل ووليد فوق مقعد خشبي للإنتظار .
بادر نبيل بالحديث وعيناه تنظر بلا هدف في الأنحاء:
_آسف .
نظر له وليد بعمق وأردف:
_ إتوجعت على وجعك ووجعها ، زهرة مش بس أختى زهرة بنتي ، المشاعر والأحاسيس جوايا ال إتكونت في المدة دي أساسها سنين إتمنيت أشوفها وأعرف عنها حاجة ، أنا ضعف عمرها ياعني لو كنت إتجوزت صغير كان ولادي لحقوها ، زهرة بتحبك جداً ، كل ما نجتمع كل كلامها كان بيبقى عليك انت وبس وكأن الدنيا مافيش فيها غيرك بالنسبة ليها .
نظر له نبيل بحزن ليجذبه وليد من رأسه فيرتمي على كتفه متحدثا ببكاء :
_ زهرة أغلى من روحي ، وعلى قد الحب يبقى الوجع ، أنا خايف.
ظل وليد يربت على ظهره إلى أن هدأ وابتعد وظل إثنيهم يراقبان سكة القطار بقلوب متضرعة .
مع خيوط الصباح وبعد أن خرجا من مسجد المحطة بعد تأدية صلاة الفجر وجدوا محطة القطار بدأت تحتشد بالناس ، ولكن كان الوضع غريباً فجميع الموجودين في حالة هلع وصدمة ومنهم من يبكي بحرقة .
إقتربا إثنيهم من أحد الرجال والذي لم يكن سوى شقيق الحاجة مريم وسأله وليد :
_ هو في إيه يا عم صابر ؟
نظر لهم الرجل بآسى وتحدث بصوت باكيٍ:
_ آخر قطار طلع من المحطة بليل إنقلب قبل ما يوصل للمحطة الأخيرة .
أنت تقرأ
زهرة
Romanceقصة عشق بين طرفين مع كل إفتراق يشتد عضد عشقهم أكثر كانت تائهة في الحياة لا تعلم كيفية التنفس بحرية ليدلف حياتها ويحولها إلى طائر محلق في سماء عشقه. بينما هو كان جاد في حياته ، كانت تثير ريبته وغضبه وما إن أعلن قلبه التمرد حتى أصبحت أثمن من أنفاسه و...