الفصل الواحد والعشرون/
السراب ....عندما تتعلق بشيء ما وتجد أنه ليس حقيقة بل هو صورة زائفة نسجها خيالك ..عندما تعش مؤمنا بفكرة ما لتفق على حقيقتها المرة وأنها ليست سوى أضغاث .. عندما تمر حياتك من أجل هدف ما فتجد أنك تسقط من فوق الهواية .. وكل شيء .. كل شيء ما هو سوى صدفة حزينة ... مثلما بدأت حياتهم معا بصدفة جمعت بين قلوبهم ليبقى آثر عشقهم بين القلوب المحيطة بهم إنتهت حياتهم بصدفة قاسية ولكن في خباياها الكثير من الأسرار التي لم تنكشف بعد .
...............
إسبوعا كاملا مرء على تلك الليلة ، لا نستطيع أن نقول عنها ليلة مشؤمة أو ليلة سعيدة .
كانت وتيرة اللأيام بطيئة الجميع يعيش بروتينية ، علمت باقي العائلة بعودة أبناء نبيل ، توفيت نبيلة في اليوم التالي متأثرة بصدمتها، ليصبح إنتقامهم سراب..
فكيف لهم الإنتقام من شخص لم يعد له وجود وقبل ذلك كيف كان لهم الإقتصاص من شخص فقد عقله؟؟
لذا لم يتحملا؛ وأصبحت حور تحاكي الموتى في سكونهم....إستسلمت لإغمائها وهربت من عالمهم إلى عالم آخر يوجد به والداها وشقيقها فقط.
حسنا..ليس فقط؛ هنالك صوت يخترق عزلتها، وينير عتمتها بحديثه .
أما عبد الرحمن أصبح قليل الكلام، كثير الحزن ، ممتنع عن الطعام، فيبدو أن لا يكفي عليه جراح فقدان والديه فيرى شقيقته ونصفه الآخر التي لطالما عرفت بقوتها بهذا الوضع.
أصبحت هشاشا تذره الرياح .
كان ممتنا كثيرا لوليد الذي لم يتركه وحيدا بقدر إمكانه، فعلى الرغم من الألم بداخله والذى يقرؤه عبد الرحمن بسلاسة فهو يحاول المساندة فيقع على عاتقه وقوف عائلته في مهب ريح الماضي ...
كان جالساً بالحديقة كعادته طوال الأيام السابقة يحاول أن يعي كل ما حدث وجرى وتلك الحقائق ، ليتفاجأ بشخصين يجلسان بجانبه أحدهم أدهم لينظر في إتجاه الآخر متسائلا دون حدث ، ليبتدر الشخص الآخر بالتعريف عن نفسه :
_أنا صالح محمود صالح ، ممكن تكون فاكرني .
أماء له عبد الرحمن بهدوء ليتحدث أدهم محاولا إخراجه من تلك الحالة :
_ركز يا دكتور العيلة كبيرة وعاوزة عقل مفتح علشان تقدر تتعرف عليهم .
نظر له عبد الرحمن ببعض الإمتعاض فهو لم ينس بعد إتهامه لشقيقته ، صحيح لم يعلم حتى الآن ما حدث ولما إتهمها بهذا الشكل ولكن يكفيه أن صرخ بشقيقته ليمتعض منه .
حمحم أدهم قليلا وأردف:
_ أنا آسف .
نظر له عبد الرحمن بتعجب ليسترسل :
_ عارف إن الكام مرة ال شوفنا بعض فيهم كانت معاملتي ليك مش كويسة .
لأول مرة بعد ما حدث يبتسم ليقول ساخرا:
_تعرف إنك أول شخص كان نفسي أشوفه طبعا بعد عمو وليد ، بس كل مرة تشوفني تقريبا بتبقى عاوز تضربني .
هنا تدخل صالح قائلا بسخرية هو الآخر مرجعا ظهره للخلف :
_ الحب وعمايله بقى نعمل إيه .
إنتفض أدهم من مكانه ونظر لصالح بتحذير لينظر عبد الرحمن لصالح قائلا بشماتة:
_ تعرف كان ممكن أحاسبه على حاجات كتير جدا لكن هو وقع وقعة محتاج إننا ندعيله حرفياً.
قطب أدهم حاجبيه وجلس مكانه مرة أخرى يستمع لحديثهم الدائر عليه وكأنه غير موجود
_ما شاء الله عارف إن أختك هتطلع عينه وبتعترف بده ، بس تصدق يستاهل .
أنهى صالح حديثه بإبتسامة خالصة وهو ينظر لأدهم الذي يتابعهم بغيظ شديد ليرد عليه عبد الرحمن قائلا بجدية:
_حور مافيش أحسن منها بنت في الدنيا ، وأنا لأني متأكد من مشاعره ال هو تقريباً مش معترف بيها لنفسه أو بيكابر هقول الكلمتين دول ...
وجه نظره لأدهم وإسترسل :
_ لو مش قد المشاعر دي بلاش من الأول ، لو شوفت انك قدها وقررت تكمل في الطريق ده إعرف إنه هيبقى طريق صعب ، إنت متعرفش مرينا بإيه ولا عرفنا إيه لو مش هتصبر وتستحمل أي حاجة حور هتعملها يبقى تنسحب بهدوء من أولها ، حور دلوقتي مصدومة لكن جرحها أقوى وأختي إل أعرفها مش هتسكت وتعيش كأن شيء لم يكن ، وبصراحه إنت ممكن تتأذي ، دي نصيحة مني ليك لأني عارف إن ملكش ذنب وكمان مش عاوزها تأذي نفسها بيك .
كانا يتبادلان النظرات كلا منهم يفكر
عبد الرحمن يعلم حقيقة أن أدهم إبن حمدي الذي كان السبب في كل شيء منذ البداية وسمية التي وبطريقة غير مباشرة كانت السبب في وفاة والدهم من الصعب أن تتقبله شقيقته في حياتها ، بينما أدهم يعلم جيدا ما يفكر به لأنه قرأ كل معاناتهم خلال سطور والدتهم ويعلم أن والده يستحق القتل لما فعله ، يعلم جيدا مخاوف عبد الرحمن على شقيقته ولكن لا يستطيع البوح بأنه يعلم كل تلك الحقائق .
وقف صالح ليجذب إنتباههم وينهي مباراة النظرات تلك وتحدث :
_أنا مضطر أسيبكم وأمشي ، نورت بيتك يا عبد الرحمن ولا أقول يا دكتور .
وقف عبد الرحمن وصافحه قائلا بود :
مافيش داعي للألقاب يا صالح ، أنا صحيح مش عارف كل أحفاد الدمنهوري لكن كلنا عيلة واحدة وأهل ومافيش رسميات بين الأهل .
إبتسم صالح بمحبة وبادله المصاحفة ومن ثم ذهب .
تقدم عبد الرحمن خطوتان يريد أن يذهب للدخل ولكن أوقفه سؤال أدهم المباغت:
_ تفتكر هتقبلني في حياتها بعد ال أبويا عمله .
تشنج جسده وأدار نفسه ليواجهه ليرى أدهم الغضب والكره المتمثلان في نظرات عينيه فوقف قبالته وأردف :
_ أنا آسف والمرة دي بعتذر لأني أخدت حق مش بتاعي وقرأت مذكرات والدتك لكن كان غصب عني ، والحقيقة أنا مش قادر أنسى كل حرف ألم كتبته ومدى الوجع ال عشتوا فيه ، أنا بعترفلك لأني مش حابب أخبي عليك إني عرفت الحقيقة ، لكن أتمنى متقولش لحور لأنها مش هتسامحني .
ظل السكون سيد الموقف لبضع دقائق قبل أن يتشدق عبد الرحمن بصراحة ووضوح :
_الحقيقة لولا إنك صارحتني كنت هتنزل من نظري وعمري ما كنت هسمحلك تقرب من أختي ، وبما إنك سألت أحب أقولك إن الإجابة عند حور مش عندي .
كاد الرحيل ليوقفه صوت قادم إليهم :
_أخويا وصاحبي ... خيانة ، طب راعوا مشاعري .
نظر إثنيهم لأحمد الذي إحتضن عبد الرحمن بسعادة لم يستطع مداراتها ليردف أدهم بسخرية :
_هو إنت كل ما تشوفه تحضنه .
وقف أحمد خلف عبد الرحمن يستخدمه كدرع حماية تحت أنظار التعجب من الأخير وأدهم تلاشت وحل محلها الصدمة فور تحدثه بإستفزاز :
_ ما قولتلك تلحقني وتجوزني بدل الجفاف العاطفي ده .
حاول أدهم الوصول إليه ولكنه أخذ بالتحرك مستخدما عبد الرحمن الذي سطعت ضحكاته كحماية ليتوقف كلا منهم فجأة مبتسمين فقد نجحوا أخيرا في مبتغاهم وإستطاعوا جعله يندمج معهم ولو قليلا .
نظر لهم عبد الرحمن وتحدث بإمتنان :
_شكرا ليكم ، أنا عارف ومقدر كل إل بتعملوه .
جلس أحمد وأجلسه وأشار لأدهم بطريقة كوميدية آمرة بأن يجلس وأردف :
_نطمن بس على حور وإحنا بعدها نسهر سهرة شبابية كل شباب العيلة مع بعض .
إبتسم أدهم مردفا:
_ تعرف من يومين جالي نبيل وطلب مني أعرفه عليك .
قطب عبد الرحمن حاجبيه بتعجب وأردف:
_نبيل ...؟ مين نبيل ؟
_ده إبن أمير وأمير ده إبن عمتو سلوى ، بص هفهمك .
والدك كان ليه إخوات شققة وأخوات من الأب بس طبعا عارف ؟
أماء له عبد الرحمن بإيجاب ليسترسل أدهم موضحا:
_إنت طبعا عارف عمو وليد وده ليه بنتين سلمى و رقية .
إبتسم عبد الرحمن تلقائيا عندما إستمع لإسمها ولاحظ أدهم ذلك ولكنه لم يعلق بل أكمل حديثه بتركيز :
_وعمتو سلوى عندها تلت أولاد أمير وجاسر ومؤيد .
قاطعه عبد الرحمن متسائلا :
_أمير ده متجوز نيڤين أخت أحمد صح ؟
ضربه أحمد فوق ذراعه قائلا بجدية مصطنعة :
_ وأختك إنت كمان .
تبسم عبد الرحمن وأماء بالإيجاب ثم حول نظره لأدهم الذي إسترسل :
أمير ونيڤين عندهم إبن واحد وهو نبيل .
وأنا وچورية وندى ولاد حمدي ، إنما عمتو منى عندها بنت وولد أسيل ومازن .
وبكده لسه عمو باسم إل إتجوز رضوى أخت أحمد وأختكم وده عنده كنزي وكريم .
_طيب بالنسبة للبيت التاني ؟
تساءل عبد الرحمن وبداخله سعادة مخفية بأن لهم عائلة كبيرة وبرغم ما يعتليه من حزن إلا أنه يرغب في التعرف عليهم فأجابه أدهم :
_صالح وسهر ولاد عمي محمود ومروة ونورا بنات عمو أدهم ، ومحمود وأدهم دول ولاد الحاجة تفيدة .
إنما ولاد الحاجة فوزية وأخوات باسم
فعمتو نوارة عندها باسم وزهرة .
_زهرة !!
همس بها عبد الرحمن بحنين لإسم والدته وإمتلأت عيناه بالدموع ليكمل أدهم محاولا جعله تخطي تلك اللحظات :
_وعمو أشرف عنده توأم طارق وطه .
ضحك أحمد قائلا :
_مع الوقت هتعرفهم أكتر .
تبسم لهم عبد الرحمن بإمتنان ورفع بصره لأعلى ليستطيع رؤية طيفها قبل أن تغلق الستار سريعاً ظنا منها أنه لم يكشف وجودها ، ولا تعلم أنه منذ أول لحظة قد رأها في المشفى قد تعلقت روحه بها والآن شعر بها فوجه نظره إليها مؤكدا لقلبه أحقية شعوره .
......
كانت تعاني من وحدتها في هذا العالم فبالرغم أنها تسعى بوجود والديها معها ولكنها لا تستطيع الاقتراب منهم لأنها تعلم أنهم مجرد سراب لا وجود له في الواقع ، وكعادتها منذ يومين تأتي لها تجلس بجانبها وتقرأ لها ما تيسر من القرآن لعله يشفي جروح روحها ، كانت تستمع لصوتها بهدوء وتشعر بالراحة ولا تعلم من هي ولكن الآن قررت تلك الضيفة التحدث :
_عمري ما كنت أتخيل إني ممكن أحب ولاد زهرة ونبيل ، كنت دايما بغير من معاملة الحاج عبد الرحمن لزهرة وأقول من باب أولى يعامل بنت أخوه بالطريقة دي ، وكنت شايفة إن باسم أحق بحبه وإهتمامه إل كان بيتعامل بيهم مع نبيل لما تعب بعد حادثة القطر بإعتبار إن باسم أصغر عيل من عياله وأولى بحبه ماهو إبن الكِبر ، بس أمك ليها جميل في رقبتي هيفضل معايا ليوم مماتي ويوم القيامة هقول لربنا إحميها من نار الآخرة زي ما هي حٓمت بنتي من نار الدنيا ، لولا زهرة كانت بنتي إتفضحت ، لولا إنها واجهتني رغم كرهي ومعاملتي القاسية ليها لكن هي ما إهتمتش ولا خافت ووقفت تدافع عن بنتي وأقنعت جدك إل كان بيحبها يمكن أكتر من ولاده وإتجوزت نوارة وإتسترت وفضلت أدعي لزهرة ربنا يسترها ويكرمها زي ما كانت السبب في ستر بنتي ، وأول ما خلفت نوارة بنت قولتلها مش هتتسمى غير زهرة علشان تبقى في أخلاق وجمال زهرة .
فتحت حور عيناها لتنسدل الدموع بغزارة على خديها معبرة عن مدى آلمها لتربت الحاجة فوزية فوق يدها ثم تجذبها لأحضانها علها تخفف من معاناتها .
ولكن بالتأكيد لكل منا معاناته لذا....
تخلت عن صمتها فلقد نفذ صبرها .
نعم تآلمت ، أصابها الوجع بما علمت، تأثرت بموت والدتها، ولكن الآن حان وقت التفكير في إبنتها.
فها هي حور منذ دقائق قد إستعادت وعيها والجميع معها بالداخل.
لذا لم تنتظر أكثر وأجرت إتصالا تطلب من جاسر الحضور فورا للإنتهاء من هذا الأمر.
كانوا يحاولون صرف إنتباهها عما حدث وتعويضها ولو قليلا.
وهى تعلم هذا...لذا أرادت مجاراتهم وإن كان مؤقتا ... فالنار بداخلها لا يمكن لبضع كلمات وضحكات أن تطفئها .
دلفت منى لتجد حور جالسة إستنادا على الفراش وبجانبها عبد الرحمن يضمها إليه والجانب الآخر أحمد ، أما وليد فجالسا على حافة الفراش والجمع الباقي واقفون يضحكون بمرح ظاهرا ولكن عينا كلا منهم تحكي الكثير فما إنكشف من أمور أمامهم ليست بالهينة فماذا هم بفاعلون إذا إنكشفت باقي الحقائق .
تقدمت منهم وإندمجت معهم إلى أن يصل جاسر فهي حقا سعدت برؤيا أبناء زهرة التي كانت السبب في زواجها ممن أحبت نعم هم أبناء شقيقها أيضا ولكن محبتهم تزداد أضعاف في قلبها لأنهم يحملون دماء زهرة التي كانت ونعم الأخت والعون لها .
أما هو فقد كان يشتاط غضبا من بقائها في أحضان عبد الرحمن وهذا الأبلة الذي يجذبها لأحضانه عدة مرات ولم يهتم لتحذيرات عينيه.
إقترب أحمد من حور وهمس بمزاح :
- حور إنتى أكيد يهمك حياتي، فأنا هقوم من جمبك بدل ما تلاقيني نايم مكانك، ومتلاحقيش على خياطتي ده لو فضلت حي، إسأليني أنا ده صاحبي وأنا عارفه ، عليه بوكس يقضى على الواحد .
- لأ بقولك إيه إجمد كده عاوزين نطلع عينه .
قالها عبد الرحمن بمزاح مصاحبا لغمزة من عينيه لشقيقته التي نظرت له معاتبة فهي لا تتقبل هذا الحديث برمته .
وما كان من أحمد سوى أن همس له عندما وجد الجميع يحاول معرفة ما يقولون :
- طلع إنت لوحدك ربنا يعينك، أنا عاوز أتجوز البت ، حرام يا ناس ، كل ما أجس أخد خطوة يحصل حاجة والله شكلي هخطفها .
نظر عبد الرحمن بإتجاه سلمى التي شعرت بالخجل ثم نظر لأحمد مرة أخرى متسائلا بحذر :
-ياعني تفتكر ممكن يقفلنا؟!
لاحظ أحمد نظراته ليسعد من أجله فأردف بمزاح مضحك :
- نا...يقفلنا ..نا...ليضحك بمرح ويكمل : لهو إنت وقعت ؟؟ طب لمها بقي وإبعد .
نظر عبد الرحمن لشقيقته بآسف مصطنع وأردف بتأثر زائف:
- معلهش بقي يا حور، يرضيكى أسيب ذؤبة من غير ذئب ده حتى ميصحش.
منذ بداية حديثهم لم تستطع التوقف عن الضحك لذا أرادت أن تستكشف ملامح وجهه بشدة ؛ فنظرت إليه وياليتها ما فعلت فنظراته سهام قاتلة أصابت قلبها برجفة محببة.
- السلام عليكم.
توجهت أنظارهم بإتجاه الباب ليجدوا جاسر.
-تعالى يا جاسر .
أردفت بها مني ثم تقدمت من شقيقها وإسترسلت بصوت لا يقبل النقاش :
- أنا إل كلمته، وأظن آن الآوان تفكروا في مصير بنتي.
- عاوزة تجوزي بنتك وأمك لسه ميتة.
هذه كانت حجته الواهية جملة ألقاها بعد دلوفه عند رؤية جاسر يدلف للحجرة فالحقيقة أن زواج جاسر من أسيل سيواجهه بحقيقة ما إقترف سابقا وسيبقى نقطة سوداء يترتب عليها الكثير فليتمهل فقط.
تجاهلته تماما وأكملت حديثها:
- أنا مش هستني أكتر من كده ، جاسر لازم يكتب على أسيل .
لأ...مستحيل ..مش هتجوزه .
صرخت بها أسيل بإنهيار لتصفعها والدتها وهى تردف بحدة:
- أومال عاوزة تفضحينا ..مسمعش صوتك كتب الكتاب النهاردة.
- مش هتجوزه....لو إتجوزته هموت نفسي.
- وأنا ميرضنيش.
ألقاها جاسر بقوة بعدما رأى إنهيارها ثم إلتف للخروج مرة أخرى ولكن علقت قدماه في الهواء وهو يستمع لحديث حور:
- هتستسلم بسهولة ، ياعني إنتصرت على شيطانك وحميت نفسك من دايرة الإنتقام ومش قادر تطيب قلبها وتحميها من كرهها ليك .
لم يلتف...لم يرد لأحد رؤية دموعه المتحجرة ولكنه أردف بصوت يشوبه الحزن:
- من لحظة ما وقفتي في الجنينة تطمنينى عنها إتأكدت إنك عرفتى كل حاجة .
أنهي جملته ورحل لتصرخ منى:
وقفوه...بنتى هتض..
- بنتك زي ما هي.
بترت جملتها ونظرت لحور التى استرسلت:
- جاسر مقربش من أسيل، جاسر بيحبها ومستحيل يأذيها.
نظر لها الجميع بتيه، حتى أسيل بالرغم من إحساسها بالحرج إلا أن كلمات حور وقعت على قلبها أذابت جليده.
إقتربت منها منى تسألها بصدمة:
-إنتى...إنتى بتقولي إيه؟!!!
إعتدلت حور وأخذت نفسا عميقا وأردفت بهدوء :
- بقول الحقيقة يا عمتو ، إلا كان على الملاية صبغة مش دم.
جاسر لو كان وحش مش هيفكر في إخواته بإعتبار بعده عن سلمى ورقية كان بسببهم، بل على العكس لو كان هدفه الإنتقام كان إستغل سلمى مش أسيل.
لكن هو بيحب أسيل ولقى اللعبة دي هتنفعه من جميع الاتجاهات يبقي وجع الشخص إل كان السبب في كل ده ، وفى نفس الوقت إنتقم لوالدته ، وفرح والده إل رباه ومستني اليوم إل ياخد فيه حق أخته والأهم يتجوز حبيبته لأنه كان سهل يتوقع إن الأستاذ محمود هيرفض جوازهم وهو ميقدرش يعترض إحتراما له وتقديرا لكل حاجة عملهاله .
إنتوا شوفتوه عدوكم بس لو ركزتوا في تصرفاته هتلاقوه مقللش من إحترام أي حد فيكم ولما أسيل جرحت إيدها كان هو إل بيتألم.
هو لو عاوز ينتقم ويفضحكم كان هرب أو نشر الخبر في البلد لكن هو كان هنا لحظة بلحظة مستني الوقت إل تبقي فيه مراته ، فكرة الإنتقام لما بتسيطر على حد بتعمي عينه وبيبقى عاوز ياخد حقه بكل قوته ، جاسر مش وحش إل يعيش ويتغذى على فكرة واحدة بس وهي الأذية ومع ذلك يقف يحترم الأكبر منه ويتكلم بأدب زي ما إتعامل مع عمو وليد دليل إنه شخصية كويسة .
نظرت لها أسيل بوجع لتتشدق ب:
- وأنا إيه ذنبى يوجعني ليه؟ لو كان بيحبني كان حمانى من نفسه مش يستخدمنى وسيلة يجرحهم بيها.
نظرت لها حور بإهتنام وأردفت بجدية وعيناها تتنقل بين أسيل وباقي الفتيات:
- ومين قالك إنه محماكيش ، لما يقرب منك ويتغلب على شيطانه علشان يحافظ على برائتك ده تسميه إيه، رغم إنك كنتي فاقدة الوعى بسبب إبرة منوم بس هو ضميره وقلبه كان حي وقدر يسيطر على نفسه.
أما ذنبك إيه ... ذنبك إنك داريتي وإتماديتى ، مش معني إنه قريبك متصونيش نفسك ، كان لازم تعملي حدود ، اعرفي إن إل بيتبنى في الضلمة حتى لو طلع للنور ضلمته هتفضل تأثر عليه ، مش هقولك الحب حرام أو أبقى واعظة لكن كل ما الأمور بقت زي ما ربنا يؤمرنا وتبقى الصراحة والوضوح عنوان لينا حياتنا هتبقى أفضل .
نكست أسيل رأسها بخجل فهي تعلم أن معها الحق.
نظرات الشكر والإمتنان والفخر بأعينهم لها ، فهي لم تعلم أسيل وحدها الدرس ولكن لجميعهم ، بينما هي نظرت لشقيقها وبإصرار غير قابل للمناقشة قالت:
- خلينا نرجع بيتنا يا عبد الرحمن .
- نعم!!
تجاهلت هتافه وإسترسلت:
- قدم طلب وخلينا نرجع لحياتنا ، كفاية تضييع وقت لغاية كده .
-وحياتكم دي فين بقي إن شاء الله ؟
سألها بإستهزاء فنظرت له بحدة فسخريته أغضبتها لتجيبه بحدة :
- وإنت مالك.
شعر الحرج خاصة أمام شباب وبنات العائلة فهم يحترمونه كثيرا ولا يقدر أحدهم على التحدث معه بتلك الصيغة فسيطر عليه الغضب ولكن ليكن صريح غضبه هذا من فكرة رحيلها وليس حديثها فهو يعلم ويقدر ما تمر به لذا أردف بتحذير :
- بقولك إيه إتعدلى.
نهضت من فوق الفراش بحدة وظهر إحتدام الوضع بينهم والجميع يراقب بترقب وحماس أيضا بينما هي إقتربت منه وتحدثت بإستهجان :
- إنت أصلا إزاي تسمح لنفسك توجهلى كلام .
كاد أن يغرق بعيناها البراقة ولكنه تفاجأ بكلام ندى وهي تهمس له :
_ مترد يا أدهم الدور عليك .
نظر لشقيقته التي تتابع حديثهم وكأنه نزال شيق فلم يفكر كثيرا في الأمر بل أعاد نظره لتلك المتمردة أمامه وتحدث ببرود :
- براحتي ، أتكلم أو لأ براحتي .
ظهر بعينيها أنها وصلت لذروة الغضب فنظرت لشقيقها تحدثه بنبرة شبه آمرة:
-مشينى من هنا يا عبد الرحمن لهرتكب جناية .
إقترب منها وليد وأردف معاتبا :
_ عاوزة تمشي وتسيبيني يا حور ، أنا ما صدقت لقيت أختي إل ضاعت مني طول السنين إل فاتت في عنيكي وشكلك ، أنا مقدرش يابنتي أتحمل بعدكم ، النظرة في وش عبد الرحمن تهدي النار القايدة جوايا بموت نبيل وكان هو أقرب إخواتي لقلبي ، متحرمنيش منكم يابنتي والله ما هقدر أستحمل تاني ، أنا عشت عمري كله بتمنى تحصل معجزة وأقلاقيكم داخلين عليا وتعيشوا في حضني .
تأثرت حور مثل شقيقها ومثل أي شخص بالغرفة يحمل قلب يعترف بالإنسانية ولكنها تماسكت وأجابت :
_ إحنا خلاص يا عمو عرفناكم وعرفتونا ، وسبب رجعونا إتعرف ، كل واحد لازم يرجع لحياته ، مش الحياة بتستمر ولا إيه؟
ظهر الحزن بعين وليد لمعرفته بصعوبة إقناعها بينما أدهم أردف :
_ وحياتكم دي إن شاء الله مينفعش تكمل هنا يا دكتورة ولا شايفة البلد مافيهاش مستشفى ؟ ولا نسيتي إنكم متعينين في المستشفى وعبد الرحمن لسه راجع من المؤتمر وبسبب إل حصلك لسه مقدمش تقرير ، ولا نسيتي القضية وإنك لازم تفضلي هنا الفترة دي على الأقل .
قطب عبد الرحمن حاجبيه بتعجب وتساءل :
_ قضية إيه ؟
نظرت حور لأدهم بتحذير وغضب وتحدثت بإنفعال:
_ إنت مش هتحددلي مسار حياتي ولا مسموحلك تقرر بالنيابة عني ، وأنا أعرف سغلى ومقدرة مسؤلياتي ، بالنسبة للمستشفى أنا هقدم طلب نقل إنما الموضوع التاني ده لما ييجي وقته هكون موجودة ، لا إنت ولا أي حد تاني ليه يتحكم فيا فاهم .
أنهت حديثها بعصبية مفرطة مما جعل الأجواء متوترة لتقترب منها سمية متحدثة بحنان :
-إهدى بس يا حبيبتى أدهم ميقصدش لا يتحكم ولا يصايقك ده طيب والله بس هو أحيانا بيبقى أهبل شوية .
-ماما!!!
علت ضحكاتهم لتسترسل سمية:
- يا خويا بلا ماما هطفشها علشان طولة لسانك .
_والله حماتي زي العسل.
قالها أحمد بمزاح وهو يمسك ذراع أدهم لينبهه على الهدوء ولكن بالطبع كلمته لم تنال إعجاب حمدي ليهتف ساخرا:
-حماتك !!!
أجابه أحمد ببعض الإستفزاز وبكل ثقة فهو لن يتخلى عنها ويكفي تلك السنوات التي مرت دون الإرتباط بها :
- أيوة حماتي يا حمايا العزيز.
إجابته أغضبته وجاء ليتقدم منه مجيباً إياه بعصبية :
- إنت.. ...
قاطعه وليد الذي تحدث بعقلانية ونفاذ صبر من أخيه :
-كفاية بقي يا حمدى كفاية، عاوزين نبطل هم وحزن ونفرح، سيب الولاد يختاروا طريقهم.
إحنا مهمتنا نساندهم لو وقعوا لكن منقفش في طريقهم ونحددلهم خط سيرهم ، حقهم يكملوا طريقهم ويتعلموا ينزعوا شوكهم بإيدهم وإحنا ندعمهم ونقويهم ، إنت متعبتش من الحزن والمشاكل ، دول بناتك وأولى تفكر في سعادتهم وراحتهم وهما يختاروا ويقرروا شركاء حياتهم ، يا حمدي معدش في العمر قد إل راح خليك عاقل وإحتويهم وبعدين مالهم أحمد ومازن شباب رجالة يملوا العين ويشرحوا القلب وچورية وندى زي بناتي سلمى ورقية بالظبط وأخاف عليهم زي بعض وأتمنالهم السعادة وأقف في ضهرهم زي بعض، سيبهم يعيشوا حياتهم.
لاحظ حمدي نظرات الجميع الموجهة إليه منها الغاضبة والكارهة والمترجمة والمنتظرة ، وجد أنها فرصة مناسبة له ليخفف حدة إنكشاف حقيقة زواجه من سحر وأن جاسر ولده، لذا إضطر للقبول فأردف :
- إعملوا إل تعملوه ... طالما شايفين إنهم مناسبين ليكم إتجوزوا لكن مافيش واحدة ترجع تعيط بعدين لأن أنا مقبلش بالطلاق .
أنهي كلامه وتوجه للخارج تاركا قلوبهم حزينة عليه لسواد قلبه .
ولكن حان وقت السعادة ، لذا تحدث وليد بحماس :
- مؤيد.
-نعم يا خالو.
أردف آمرا تحت نظراتهم :
-روح هات أخوك لو رجعت من غيره معنديش بنات للجواز .
صُعق مؤيد من حديثه ، هو لم يعتقد أنه سيتزوجها بعد ما حدث ، ظن أن وليد سيرفضه لأنه إبن محمود الشخص الذي حاول تدمير سمعة العائلة ، ظن أنهم سيأخذونه بذنب ما إقترفه جاسر حتى ولو ظهرت حقيقة الأمر ، لحظة هو في الأصل لم يتقدم لها بعد ، وجد نفسه ينظر بإتجاه أدهم الذي تبسم له فبادله الإبتسام بإمتنان فمن الواضح أنه تحدث مع وليد وطلبها من أجله ، فاق من شروده على حديث وليد الذي قال بتهديد :
_ شكل فعلا معنديش بنات للجواز .
- نعم!!!! أنا هجيبهولك مربوط .
قالها في عجالة وسرعة وإنصرف راكضا للخارج لينظر وليد لإبنته التي تشتعل خجلا وأردف بمشاغبة :
_إيه يا روقة يا حبيبتي جننتى الواد خلاص من أولها .
تبسمت لوالدها وتحدثت بمشاغبتها المعهودة رغم الخجل الظاهر عليها :
- والله أبدا يا والدى هو مجنون لوحده .
لم يتمالك أحد منهم نفسه وعلت أصوات ضحكاتهم تملأ المكان معلنة عن رغبتهم لمحو الماضي من ذاكرتهم للبدء من جديد فبعدما وجدوا أنفسهم لن يخاطروا بجعل الحزن يخيم على نفوسهم .
- أيوة كده يا ولاد خلوا ضحككم يملا المكان وإنسوا إل فات ، إتمسكوا ببعض ودايما تبقوا إيد واحدة ، يمكن إحنا عشنا حياتنا بين الخوف والحزن والألم لكن رغم ده حبينا وإتحبينا بس مش كل حاجة الإنسان بيتمناها بطولها ، محدش كان يتمنى نعيش وجع زي إل عشناه ويمكن وجعنا كان صعب لأننا كنا بُعاد عن بعض ، لكن إنتم لو خليتوا نفسكم إيد واحد إنتم وولاد أعمامكم في البيت التاني هتقدروا تقاوموا أي حاجة تواجهكم .
أردفت بها سلوى بإبتسامة حنونة جعلتهم يشعرون بالسعادة والسكينة.
- طب بمناسبة القعدة الحلوة دي تسمحلي يا خالو أقعد مع سلمى لوحدنا شوية.
أردف بها عبد الرحمن بحماس ، فيبدو أنه قرر الإستمرار بحياته ولن يجد فرصة مناسبة أكثر ليأخذ خطوة إلى الأمام .
نظر وليد لإبنته التى تبتسم بخجل ورأى السعادة تشرق من عينيها ليردف بخبث:
- لأ....طلبك مرفوض .
إختفت إبتساماتهم ، ليتقدم أدهم منه في محاولة لإقناعه:
- ليه بس يا عمى ؟! إدليهم فرصة .
نظر لهم وليد بغضب مصطنع :
- أنا قولت لأ ياعني لأ.
شعر عبد الرحمن بالحرج بينما سلمى إختفت فرحتها وحل محلها السكون وإمتلأت عيناها بالدموع.
أراد عبد الرحمن أن ينسحب وبالفعل توجه إلى الباب قاصدا الخروج بعد أن أوصى أحمد بحور ولكن قبل خروجه نهائيا سمع وليد يقول:
- معنديش مانع تقعد معاها بعد كتب الكتاب ، إنما دلوقتي لازم تروح مع البنات يشتروا فساتين الخطوبة.
زفر الجميع براحة وإنطلقت ضحكات وليد العابثة.
دلف جاسر سريعا متلهفا قلقا ، ووقف أمام أسيل يتفحصها بعينيه ويردد بتوتر:
- مالك؟ إنتى كويسة؟
إشتعلت وجنتاها بحمرة الخجل وهى ترى الصدق بعينيه ليسترسل بغضب غير عابئ بمن حوله:
- ما تردى عليا .
- ما هي قدامك أهل زي الفل ، كل الحكاية إن خالك قال لو مجيبتكش لهنا مش هيجوزنى رقية؛ فإضطريت أقولك إنها تعبانة علشان تيجي على ملا وشك.
إقترب منه جاسر بهدوء حذر بعد أن هدأت نبضاته الثائرة ، وما إن وقف أمامه بإبتسامة خادعة حتى إنطلقت الركلات والصفعات تنهال عليه وهو يصرخ ويتأوه ويعدو في الحجرة بأكملها في محاولة منه لإستخدام أدهم ومازن أدرع بشرية لحمايته.
....................................
ربما العشق لا يدرس بالمنشأت التعليمية ولكنه يدرس بين نبضات القلوب.
العشق الذي جمع بين زهرة ونبيل لم يتطلع إلى أي فروق سواء كان العمر أو الحالة المادية ، كل ما رؤه هو الآمان بوجودهم بجانب بعضهم؛ لذا أعلنوا الغرام ورفعوا رايات القلوب وإعترفوا أن الدماء بأجسادهم تتدفق كسلاسل الأنهار الخالدة من أجل بعضهم البعض .
نعم عشقهم مر بالعوائق والحواجز وقد يكون خسر من وجهة نظر من حولهم ووجهت نظركم أيضا.
ولكن في الواقع لقد فاز.....
وإن كانوا تألموا ..وإن إبتعدوا عن بعضهم ...وإن بكوا وتمزقت أرواحهم لم ينكروا عشقهم....
لم يمحوا ذكرياتهم....
لم يمقطوا حبهم لبعضهم البعض مهما جرحوا ...
الحب إحترام وإحتواء.....مشاعر يتغذى عليها الإنسان.....ليس كلمات...ليس تحكم أعمى...في الآخر...
الحب أفعال...هو أن تتقبل الآخر كما هو ...
أن ترفض إهانة حبيبك...أن ترتبط مع حبيبك بروحك....
تفصل بينكم المسافات ولكن قلوبكم تظل متحدة.
أن تشعر بأن رائحة حبيبك هي رائحة جنتك ... أن تتيقن أن نظرة عينيه هي الآمان ...أن تقتنع بأن أحضانه هي الإحتواء ...هو أن الحبيب لحبيبه المنزل ...
ربما إجتماعهم صدفة أضاف لأرواحهم السكينة .
إفتراقهم ألم لم ولن تمحوه السنين .
ولكن قصتهم قد إنتهت وأسدل الستار على عشقهم .
لتشرق شمسا ذهبية يسطع بريقها ليتخلل القلوب ويبهج النفوس.
وكأن القدر يرفض إنتهاء مسيرة ملحمة العشق والعذاب لتبدأ رحلتهم وتجتمع القلوب الشابة المتأثرة بعشق خُلد في أذهان الجميع تحت ضوء القمر ويسطر كلا منهم حكايته لتبدأ مسيرة قلوب حائرة .
أنت تقرأ
زهرة
Romanceقصة عشق بين طرفين مع كل إفتراق يشتد عضد عشقهم أكثر كانت تائهة في الحياة لا تعلم كيفية التنفس بحرية ليدلف حياتها ويحولها إلى طائر محلق في سماء عشقه. بينما هو كان جاد في حياته ، كانت تثير ريبته وغضبه وما إن أعلن قلبه التمرد حتى أصبحت أثمن من أنفاسه و...