ثانيًا

74 13 4
                                    

مذكراتي العزيزة
أهلًا بكِ مرة أخرى
هل اشتقتي لقلمي ؟
لأنه قد أشتاق لأوراقكِ البيضاء
لن أطيل وسأبدأ بملأك

استيقظت في بداية صباح يومٍ بائس آخر
كان الشارع مليءٌ بالضجيج
ففي كل بقعة تجد مجموعة أشخاص
استقمت عن ذلك الصندوق او لنقل سريري
وبدأت أتخذ خطواتي التي لم تتزن إلا بعد حين
أمرٌ بديهي
فأنا لم آكل منذ يوم
رأيت الشارع وأنا أقف في مقدمة الدهليز
تخطوا الناس دون ادنى إهتمام إليّ أو لحالي
كان هناك محل لبيع الكتب وقعت عيناي على بابه
لم أعرف ما تخلل عقلي في تلك اللحظة
لكني سرت إلى ذلك المحل
بملابسي الرثة و بمنظري المثير للشفقة
كان خلف باب المحل جرس .. حالما تدفع الباب يرن لينبه الموظفين
أن هناك زبون
دفعت الباب حالما وصلت
" أهلًا كيف أساعدك "
لقد قالت ذلك ... لي
ألتزمت الصمت و أخذت أحدق بها
لم اجرؤ على الرد
كيف يمكنني مساعدتك ؟
حسنًا انا اريد مأوى و طعام و أمور كثيرة
أنا جاهل لا أملك للكتب سبيل ولا يألفها قلبي
لا اعلم لما دخلت الى ذلك المكان ، مكان حيث لا انتمي
" أيها الفتى هل أنت بخير ؟ "
هذه المرأة لما تسأل أسئلة غبية ؟
من الواضح أنني بعيد كل البعد عن الخير
" أريد ماء إذا امكن "
لم استطع نطق سوى ذلك ، لم اجرؤ على النظر إليها
وددت لو أستطيع توسلها لبعض المال لكن لا لستُ كذلك
أنا لن أتذلل لأحد من اجل شيء كما لم أفعل مع والديّ
ذهبَت خلف طاوله المحاسبة ومن ثم دخلَت إلى غرفة ما
فتجرأت على الاقتراب حتى الطاولة التي كنت لا استطيع وصولها لأتفحص المكان وانتظر
بعد دقيقتين أو أقل عادت لتناولني كوب ماء
" شكرًا سيدتي "
تجرعته دفعة واحدة
أشعر بشعور منعش جدًا
وقد ودعني جفاف حلقي وأستطيع التحدث بشكل أفضل الآن
نظرت اليها .. يبدو أنها الوحيده العاملة في هذا المحل حيث أنني لا أرى سواها
بعد ثوانٍ من الصمت بعد اعطائي لها الكوب الفارغ
"سيدتي .. هل بأي فرصة ما تحتاجين إلى مساعدة في هذا المحل ؟ "
" مساعدة تقول لي ؟ ولما تسأل ؟ "
" أنا يا سيدتي أريد أن أعرض عليك مساعدتك مقابل راتب زهيد يكفيني "
هذا صحيح أنا سوف أبحث عن عمل وسأعيش
هذا أمر لابد من أن يحدث
ابتسمت مُظهرة تعاطفها مع حالتي المزرية
ودنت مني لتقول بنبرة لطيفة أو تظنها كذلك
" ايها الفتى .. أنت لا يجب أن تعمل انت يجب أن تستعد للمدرسة
دع العمل للبالغين فقط  ياعزيزي "
ياللغباء
لمن تقول هذه المرأة يذهب للمدرسة ؟ لي أنا ؟
ياللسخرية
التزمت صمتي ولم أرد
من الواضح انها ليست مهتمة لمدى سوء حالتي او لتوظيفي لديها
أومأت ومن ثم استدرت
وأخذت أمشي حتى الباب
وهاهو الجرس المزعج يصرخ مرة اخرى
معلنًا خروجي من ذلك المحل
حالما خرجت تنهدت و همست مواسيًا ذاتي المسكينة
" على الاقل ظفرت بماء يروي عطشي "
وأخذت أسير لساعتين او اكثر بين الناس بعشوائية مقيتة جعلت قلبي يرتجف
كنت قد عرضت عملي على تقريبًا كل شخص قد مر في ذلك الشارع
وكذلك دخلت جميع المتاجر اتوسلهم لفرصة عمل واحدة
ولكن كان ينتهي الامر بي اُرفض
وتتعدد حججهم
عدت الى سريري وجلست ببؤس
شعرت بالدوار حينها والجوع يقطّع لحم بطني
اقتربت مني امرأة في العشرين ربما ودنت مني
" فلتكن بأمان ايها الصغير "
اخذت بيدي وقلبت كفي ووضعت به عملتان ورقيتان
" شكرًا "
ربما لم تسمعني اقولها فقد كان صوتي يرتجف
واحترامي لعزة نفسي كان حينها قد قرر انها مساعدة
اخذت الورقتين وضعت احداهما في جيبي واخرى
ذهبت بخطوات مترنحة الى محل يبيع الكعك يبدو أنه رخيص
اشتريت كعكتان و قلت في داخلي
' هذا طعامي لليوم '
لقد تبقى من الورقة التي ابتعت بها الطعام القليل فاحتفظت به
لأعيد الكرّة غدًا
وبعد غد
كان تقريبًا كل يومين أو ثلاث يأتيني احدهم
ويضع في كفي بعض المال
بعد أن ايأس من بحثي عن عمل طبعًا
لقد بقيت على ذلك الحال لأسبوع ونصف أو ربما أكثر

وفي يوم وكعادتي أذهب الى المارة واسألهم
عن ما إذا كانوا بحاجة الى عامل
ومايجيبوني إلا بالرفض أو التجاهل
كان أحدهم قد دفعني بخفة من امامه
والاخر ينعتني بالجرذ القذر
ومن بينهم من يقول المخادع اللص
كنت قد ضقت ذرعًا من كل هذه الكلمات
ولكن ما عساي بفاعل ؟ لا حول لي ولا قوة
جلّ ما افعله حين ايأس هو الذهاب والجلوس في مقعد خشبي قديم
جلست هناك وبقيت أنظر الى الناس
وكنت قد غرقت في أفكاري الغابطة
وهنا ..
رأيته
رأيته يمشي بانتصاب
نظراته لا تتزحزح عن الامام واثقة ..
كان ذلكَ كالحلم 
مرة أخرى
اندفعت قدماي إليه
وتمركزت حدقتاي على ظهره
ملابسه.. كانت فاخرة نوعًا ما وكذلك العطر الذي يضعه
" عفوًا "
أنا اقف أمامه بملابسي الرثة و بخدي المتسخ و بجرحٍ قرب كوعي الايمن كان قد نال مني مساء أمس أثر وقوعي عن طريق الخطأ
" أتحتاج شيئًا أيها الصغير ؟ "
ابتسم إلي  ووقف ينتظر ردي
" سيدي .. هل تحتاج الى عامل ؟ استطيع القيام بأي شيء ! "
" عامل ؟ " رفع حاجبيه و ضيق عيناه ينظر إلي ..
بل يتفحصني من أعلاي إلى أسفلي
" همم ... أي شيء هذه لا تنفع ابدًا قل لي ماتجيده ؟ "
سكنت قليلًا .. بماذا عساي أجيبه ؟ فانا مجرد فتًا جاهل لا يجيد شيء سوى التجول في الطرقات و الوقوع في المشاكل
" أ.أستطيع التنظيف استطيع أن اكون بستاني او حلّاق ، اي شيء صدقني ! "
بدوت كمن يرجو .. بل كنتُ ارجوه ، بما ستنفعني هذه الكرامة ؟ أو عزة النفس تلك ؟ سأتذلل وارجو كل من اراه لأعيش ، هذا ما هو الامر عليه !
احنى بجذعه الى الاسفل إليّ .. ثم ركع على ركبتيه لمستواي ونظر لي بقلق
" يافتى ، لا يجب عليك الوثوق بالجميع هكذا وخاصةً الغرباء فماذا لو .. وافقت على طلبكَ هذا و اصطحبتك الى مكان ما و كنت قد خدعتك ؟ "
ارخيت كتفاي المشدودان ، تبدلت نظرتي في ثانية او جزءٍ منها
" سيدي ، أنت لن تفعل ذلك أبدًا "
" ولما أنت متأكد هكذا ؟ "
شعرت بطيف ابتسامة يرسم شفتيّ
" ولما ستخبرني بما تنوي اذًا ؟ "
اتسعت عيناه
ثم انفجر ضاحكًا ومسح دموعه الوهمية
حينها اتسعت ابتسامتي وأنا اراه يضحك ، لا انكر انني شعرتُ بالإحراج قليلًا لكن لا بأس
لا بأس !
" حسنًا ايها الشقيّ "
اعتدل واستقام ونظر إلى منتصف عيني تمامًا و بجدية اصابتني بقشعريرة
" أنا سأعتني بك و سأجعلك تعمل لدي ولكن بشرطٍ واحد فقط "
تسارع نبض قلبي و اختل انتظام انفاسي ، واخيرًا !
" وماهو ؟ "
نظرت الى عينيه بترقب حتى رأيت ابتسامة صغيرة ارتسمت
" حين تكبر و تبلغ اشدّك .. اريدك أن ترد هذا الدين .... أموافق ؟ "
شعرتُ بارتياح غريب ، شعرت بأنّ كل شيء سيكون على مايرام الآن
أهذا هو الأمان ؟

لنكتفي بهذا القدر لليوم مذكراتي العزيزة
أعلم أعلم سترين أن ثقتي هذه حماقة ولكن .. كنت طفلًا حينها
وكانت حياتي على المحك أصلًا ، ظننت حينها أن
لعل مجازفتي هذه قد تغير ما انا عليه
وقد فعلت
املؤك بهرائي يومًا آخر ياعزيزتي
كوني آمنة حتى ذلك الحين !

مذكّرات مَنفيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن