بقلم ندوش 🐝
تمطت في فراشها بكسل ثم أبعدت الغطاء عن وجهها "صباح الخير جونولي"، هكذا ألقت التحية على نفسها كما كان يفعل والدها سرحان قبل عشر سنوات، أكتشف متأخرا أنه مصاب بمرض خطير و لم تتبقى أمامه إلا مهلة ثلاثة أشهر للعيش، رفض الخضوع للعلاج و قرر قضاء آخر أيام حياته صحبة طفلته الصغيرة فأخذها في رحلة سياحية حيث شاهدا معا أماكن مختلفة من العالم لآخر مرة.. عاد إلى إسطنبول وقد دنا منه الأجل كثيرا. قضى أسبوع في مصح فاخر كان فترة زمنية فقد فيها الوعي و أي تواصل له بالحياة. فجعت الفتاة ذات الإثني عشر سنة بفقدان والدها ذات صباح صيفي حار، صرخت و بكت بحرقة وهي تتشبث بحضن شقيقة والدها و مربيته، تلك المرأة التي وقفت بشموخ وسط العائلة المنهارة و رفضت أن ترتجف أو تهتز أمام جبروت الموت، هكذا عادتها دائما فمنذ خمسون سنة عاشت لحظة شبيهة بهذا اليوم، يوم توفي والدها عزيز تركمان تاركا خلفه ثلاثة أبناء و محل صغير للمصوغ، خديجة في الثانية و العشرين من العمر فتاة طيبة و حنونة قامت برعاية اخويها الغير شقيقين بعد وفاة والدتها، فرحات في الثانية عشر و سرحان ذو السبع سنوات، مر العمر وهي تهتم بهما طفلين حقيقيين لها و تشتغل في دكان والدها حتى ازدهر عملهم و أصبح لهم محل كبير لصناعة المصبوغ ثم ثان ليمتد العدد إلى سلسلة محلات كبرى تديرهم سيدة أجادت تجارة الذهب و ذاع سيطها فيها.. اختارت أن تستمر في حياتها كسند لعائلتها و رفضت الدخول في عائلة جديدة فاكتفت بتربية أبناء اخوتها و الاعتناء بهم. كبرت أعمال العائلة و تشعبت و كبر إسم تركمان حتى أصبحت من أشهر العائلات في المدينة التي لها نفوذ واسع و سلطة تستعملها ما دعتها الحاجة لذلك. كما كان حضنها مكان دافيء لوالديها في طفولة، وجدت جونول مكان خاص لها في حياة عمتها التي أخذتها تحت جناحها و انتقلت لتعيش معها في قصر العائلة صحبة عمها فرحات و أبناءه. في ذلك المكان الأكثر شساعة من فيلا والدها، بدأت الفتاة الصغيرة تعامل معاملة الاميرات إكرام لوالديها و خوفا من جبروت عمتها فلا أحد يستطيع أن يعكر صفو حياة "وجه القمر" كما تسميها حين تدللها.
✨✨✨بعد ساعات قضتها في أروقة الجامعة، غادرت جونول مدرج آخر محاضرة لهذا اليوم، كانت تنزل الدرجات مسرعة حين اعترض طريقها كرم تشونالي، إبن وزير التجارة، احد أهم الطلاب الذين يرتادون هذا المكان الفاخر، يتنقل وسط شلة من الفتيان و الفتيات في موكب و حاشية، كان شاب مغرور و متفاخر لا يرفض له طلب، رآها منذ أن دخلت إلى هذا الحرم فلاقت استحسان في نفسه، عيون سوداء بنظرات حادة و شعر متفحم بنفس التسريحة في شكل ذيل حصان، بشرة لبنية و أسنان بيضاء متناسقة مثل حبات اللؤلؤ، تأتي بمواعيد و تغادر بأخرى في سيارة فاخرة يقودها حارس قوي البنية و متقدم في السن، لا تتحدث الا قليلا و لا تختلط ببقية المجموعات فازدادت غموضا و زودت التحدي في داخله فأمر أحد مرافقه أن يأتيه بكل المعلومات عنها: تدعى جونول تركمان، إبنة وحيدة لأحد إخوة العمة خديجة الغنية عن التعريف، يتيمة الأبوين و تعيش في قصر عمها مع أبناءه جسور و جوكهان تركمان، كلا الإسمين لهما شهرة واسعة في البلد فالأول يلقب بحوت المال لكثرة الأعمال التي يستحوذ عليها، شاب في الخامسة و الثلاثين من العمر و الإبن الروحي للعمة اما الآخر فهو يمسك بقية أعمال العائلة مثل المراكز التجارية و محلات الملابس و قد تزوج منذ شهرين من كريمة السيد فاروق عثماني أحد السياسيين المعروفين.
كرم: صباح الخير آنسة جونول.
نظرت إلى شاشة هاتفها ثم قالت
جونول: الآن الساعة الثانية بعد الظهر، هلا ابتعدت عن طريقي قليلا.. لا أريد أن اتأخر أكثر.
كرم: لن أؤخرك، فقط إسمحي لي أن أتحدث معك عشر دقائق فقط.
جونول: عشر دقائق كثيرة جدا للتحدث مع شخص لا أعرفه.
تحركت لليمين خطوة ثم واصلت طريق النزول و اتجهت إلى الخارج حيث كانت السيارة تنتظرها في الموعد، نظر الشاب خلفه بحسرة فقد سرت همهمة بين المتواجدين غير بعيد عنه و كثر الهمس و اللمز بينهم، إقترب منه أحد أصدقائه و قال له
جواد: قلت لك لن تقبل أن تتحدث معك، إذا كانت عمتها لا تقابل الوزراء و رجال الأعمال إلا بموعد فكيف بشابة جميلة مثلها.
كرم: إنها ليست فقط جميلة، بل كتلة من الإثارة تبعث التحدي في كل خلية في عقلي، لن يكون لي عمل خلال هذه السنة إلا الحصول عليها، سأكسر غرورها في البداية ثم سألقي بها بعد أن أمل منها مثل أي فتاة تظن نفسها أفضل مني.
جواد: ههه أرجو أن لا يشتد الهذيان لديك فالوقوف أمام تلك العائلة قد يكلفك منصب والدك.
كرم: لا تقلق، أمثال هذه الفتاة يقعن بطرق خاصة، سأعرف كيف أصل إليها.
تحركت السيارة مبتعدة عن أسوار الجامعة عندها أعطت الفتاة أمر للسائق حتى يأخذها إلى وجهتها القادمة، أخبرته عن عنوان المكان الذي سيقصدونه، فغر فاه مصدوما ثم فعل ما طلب منه بعد أن توعدته السيدة الصغيرة بأنها ستنزل من السيارة و تستقل سيارة أجرة توصلها إلى وجهتها.
رن جرس باب الحديقة فأسرعت مريم إلى المدخل و فتحت الباب، نظرت بعيون متسعة من الدهشة ثم انهمرت دموعها و ارتمت في حضن ابنة عمها تعانقها و تقبل وجهها بعد سنة من الفراق القاسي. مريم تركمان.... شابة في الخامسة و العشرين من العمر، هي الآن متزوجة منذ سنة من الدكتور فؤاد الجراح المشهور، الصديق المقرب من شقيقها الأكبر و الذي تعرف عليه أثناء إحدى رحلاته إلى أفريقيا قبل عشر سنوات، نمت صداقة بين الطبيب البسيط و رجل الأعمال الشاب، استمرت علاقتهما طيلة عشر سنوات في صداقة حقيقية و نادرة حتى أصبحا مثل الإخوة. تدخل القدر بنعومة ليزرع بذرة حب مستحيل في قلب سليلة العاىلة الثرية و الصديق الشاب، قاوما قوة مشاعرهما طيلة سنتين ثم اصطدما بالرفض القاطع من جميع أفراد العائلة، تمسك الجميع بموقفه فقد وصف العريس المتقدم بأنه انتهازي بعد أن دخل وسط العائلة بذريعة الصداقة هاهو يضع عينه على المال و الجاه، اختارت الفتاة الخروج عن إرادة عائلتها و تزوجت بالرجل الذي أحبته رغم مقاطعة الجميع لها، أصدر شقيقها الأكبر قرار بعدم التواصل معها و بأنها لم تعد تنتمي إلى عائلتهم بعد أن اختارت عصيانه، بكت ليلتها كثيرا لكنه أبى أن يشفق عليها أو يستمع إلى صديقه، أخرجهما من حياته و أعتبرهما خائنين لثقته. مرت سنة لم تتواصل فيها مريم مع أي فرد من العائلة، تحجرت قلوب الجميع نحوها حتى قلب والدتها قسى و تخلت عن أمومتها لها. منذ ثلاثة أشهر اكتشفت أنها حامل و تزامن ذلك مع عودتها إلى بلدها، رفض الجميع عودتها إلى حضن العائلة و اعتبرت منبوذة منهم، ساءت نفسيتها كثيرا و أصبحت تعاني من عدة أزمات صحية قد تهدد حياتها فإتخذ زوجها خطوة مسرعة و غير محسومة العواقب
مريم: جونول، اختي حبيبتي كم إشتقت لك.
جونول: أنا أيضا أتعذب كل يوم حزنا و يأسا بسبب إبتعادك عني لكن....
مريم: ههه لكنك جئت، تفضلي بالدخول.
رافقتها إلى داخل بيتها البسيط و أجلتها في صالون جميل و بأثاث متناسق، دعتها للجلوس لكن دخول زوجها في تلك اللحظة قاطعهما، ابتسم لها بحزن وهو يرحب بها بحرارة، مد لها يده يسلم و قال
فؤاد : مرحبا جونول، سعيد جدا برؤية.
جونول: أهلا بك أخي فؤاد كيف حالك؟!
دعاها للجلوس و فعلت مريم مثلها، أعادت احتضانها من جديد ثم قالت
مريم: لم أصدق نفسي عندما اتصل بي فؤاد و أخبرني أنك قبلت المجيء لزيارتي، كيف سمحت لك عمتي.
جونول: لا أحد يعلم أنني جئت إلى هنا.
شهقت إبنة عمها و قالت
مريم: كيف لا أحد يعلم، فؤاد نحن ماذا فعلنا؟!
فؤاد : أنا آسف مريم، لم أظن أن جونول ستأتي من تلقاء نفسها، أنا إتصلت بها و تحدثنا عنك، لأنك كنت متأزمة في اليومين الأخيرين.
جونول: عمتي مسافرة في هذه الفترة و سأخبرها عندما تعود، أنا لا أخفي عنها شيء.
مريم: لا داعي لإخبارها لأنها تكون قد سمعت منذ أن دخلت إلى هنا، يا إلهي لقد وضعتك في ورطة كبيرة، لن أسامح نفسي.
جونول: حبيبتي مريم اهدئي، أنا منذ يومين أفكر في إتخاذ هذه الخطوة لذا لا تلومي نفسك، يجب أن يقوم أحد بكسر ذلك الطوق الذي فرض عليك.
مريم: لكن لا يجب أن تكوني أنت من يقوم بذلك، ليتك لم تأتي إلى هنا، هل نسيت قرار جسور.
جونول: أنا..... لم أنسى.... أعرف أنه سيغضب مني لكن.....
مريم: إذهبي من هنا حالا، لا أريد أن تتورطي في المشاكل بسببي، أنا في غنى عن الشعور بتأنيب الضمير في هذه الفترة.
فريد: مريم اهدئي، كيف تتحدثين معها بعد أن ضحت لأجلك و جاءت للاطمئنان عليك.
مريم: لأنها أختي و أنا أخاف عليها، جونول أخطأت بالمجيء إلى هنا حتى لو كان لأجلي، هل نسيت ما حدث منذ سنة.
فريد: يكفي مريم، أصمتي، لقد تحدثت بما فيه الكفاية.
جونول: ماذا حدث، هلا أخبرني أحدكم؟!!.
فريد: لا لم يحدث شيء، فقط تلك الفوضى التي تعلمين عنها، غضب جوكهان و تهجمه على العيادة.
جونول: جوكهان... منذ متى تهتمان لتصرفاته، هل لجدتي علاقة بالأمر؟!
فريد: لا جونول، جدتك لم تتدخل أو تتعرض لنا، بعد تلك المشكلة سافرنا من هنا مباشرة، لقد مر ذلك الآن.
مريم: أجل لقد مر كما قال فريد، هيا إذهبي أرجوك لا أريد أن اتعذب بسببك.
بدأت تبكي و تشهق حتى وقعت مغشيا عليها، سارع زوجها لإسعافها ثم غادرت جونول البيت بعد أن اطمأنت عليها.