هلوسة الذكريات

56 1 0
                                    

هلوسة الذكريات
بقلم: دنيا صابر

"أخبرني يا يحيى ماذا حدث معك؟"
تلك كانت عبارة الطبيب "مازن" للجالس على الفراش أمامه في المشفى، ينظر للفراغ أمامه بعينين شاحبتين للأعلى، محتضن جسده المرتجف بكلتا يديه، تلعثم "يحيى" مرة، ثم الثانية، فالثالثة، ثم ردد بهستيرية:
_أنا لم أفعل شىء صدقني.
ثم بدأ بهز رأسه لليمين واليسار ويلوح بيده بقوة وهو ينظر بجميع الاتجاهات يحاول منع نظراته أن تثبت في مكان واحد، فجأة سكن مكانه كأنه لم يحدث تلك الجلبة من ثواني، انزوى على نفسه مغمضًا عينيه ليتنهد الطبيب ويعيد سؤاله بصيغة أخرى:
_اهدأ يحيى وأخبرني ماذا حدث لجعلك هكذا؟
رفع بصره وعلى ثغره ابتسامة واسعة وعينيه تلمع ببريق غريب يكاد من ينظر له يجزم أنه مجنون، ضحكاته أصبحت عالية وهو يصفق بيديه ويشير باتجاه الطبيب، وصوته أصبح أكثر حدة وغلظة:
_أنا مراد وليس يحيى.
كلماته جعلت الطبيب يرفع حاجبه بصدمة وغير فهم، ليقبض المسمى بمراد يده وتحدث وهو يضغط على أسنانه بضيق، يعترف له أن يحيى هو بنفسه من سلم له حياته، فهو كان متراخي، ضعيف، أبله، لا يفقه شىء، انخرط يروي بين صخبه أن يحيى قد استدعاه بنفسه ليعرض عليه أن يأخذ مكانه، فقد أرهقته تلك الحياة وأراد الابتعاد، أجاب بالرفض؛ فتوعده بالقتل والخلاص منه ومن حياته وجسده بأكمله، قبض على يده بضيقٍ متذكرًا شكل يحيى وهو ممسك بالسكين يهدد بقتل ذلك الجسد اللعين وانهاء ذلك العذاب فلم يبقَ له أي أحد، أغمض عينيه متحدثًا بصوتٍ أقل حدة وكأنه يستنجد بالطبيب الجالس أمامه "يحيى أضعف من أن يقتل أخته".
ليتنهد الطبيب محرك فمه بملل وكأن ما يحدث معتاد عليه "أنتَ ويحيى واحد". ليعقد الآخر حاجبيه ويحرك عينه بلامبالاة نافيًا ما يسمعه، ليقف بسرعة ويقوم بتحريك يديه بعشوائية ليكسر ما تطوله يده من كأس أو غيره، ويصرخ بصوتٍ عالٍ، ما هي إلا لحظات حتى ينزوي على نفسه مرة أخرى متكور في فراشه كالطفل الخائف من العقاب، يبكي بقوة وهو يقص لطبيبه ما يشعر به من ألم، فقد أرهقته تلك النوبات، ينظر ليديه وتلك الجروح المدمية بسبب قطع الزجاج ويبتسم بسخريه على جروحه القديمة، ليقبض على كفه ناظرًا للاشىء، ليشرد ذاهب بدهاليز عقله متذكر اليوم المشؤم الذى عاد من عمله ليرى أخته بين يدى صديق عمره تبكى وتصرخ بقوه، تستغيث بأي شىء يخلصها من ذلك العذاب، فها هو يرى صديقه ينتهك عرضه وهو كالصنم واقف لا حركة كمن شُلت حركته، لا يشعر بأطرافه، ثواني مرت عليه كالسنة.
أعاده صوت الطبيب من دوامة ذكرياته وهو ينبهه أن يتناول دوائه مرددًا أنه سيتعافى عن قريب، كل ما عليه فعله أن يظل هادئ ويستمع لإرشاداته، همهم "يحيى" بانزعاج فكل ما يقوله طبيبه معتاد عليه، بل حفظه وهو كما هو لا يتحرك خطوة للأمام، يشعر وكأنه غارق في تلك النقطة ولا مفر له سوى الغرق أكثر، استلقى على الفراش رافع يده أمام عينيه يرى أن الطبيب قد قام بعمله وعالج جروحه، ومن الواضح أنه لم يشعر بحركته؛ فقد انشغل بتفاصيل تلك الواقعة كأنها كانت أمامه بالفعل، رغم مرور عامين على تلك الحادثة إلا أنه ينتفض كل مره عندما تمر بذاكرته، شرد مره أخرى وهو ينظر لجروح يده الملتئمة مبتسم باختلال، متذكر أنه كان يخشى الدماء، لكنه تغلب على هذا الأمر لينتقم من صديقه وقتله بعدما أبرحه ضربًا ورماه على الأرض بعيدًا عن أخته يتألم، وأمسك بسكين كانت موضوعة مع طبق فاكهة على الطاولة بإحدى زوايا الغرفة ليطعنه في كتفه مرة وينظر له يصرخ من الألم، ليبتسم بشر ويقترب منه ويطعنه الأخرى مستمتعًا بصراخه، لن ينسى نظرات أخته وقتها وكأنها تدينه أنه من تسبب بكل هذا، أغمض عينيه بصعوبة كالهارب من عقاب ينتظره، مستسلمًا للنوم لعله هو المفر الوحيد من ذكرياته المؤلمة، ولكن انتفض كمن لدغه عقرب أخذ يدور بجميع أنحاء الغرفة بحركات عشوائية لينتهي به الأمر منكمش كالجنين، يحاوط جسده بذراعيه، يضم ساقيه لصدره، محرك بحركة عصبية، يضربها بخفة عدة مرات بسرعة، عيناه لم تجف بتاتًا، ولم يذق طعم النوم، هذا هو حاله كل يوم عندما ينوي النوم ينتفض من مكانه وكأنه خائف من لقاء النوم، له ستة أشهر في تلك المستشفى وأصبح كالسجين لا يستطيع الهرب ولا مواجهة مرضه، يحارب نفسه وأشخاص أخرى لا يعلم من هي، أتى إلى هنا بعدما قامت الشرطة بالتحقيق معه لعلهم يستطيعوا العثور على قاتل أخته، واكتشفوا أثناء التحقيق أنها من قتلت نفسها، لم تستطع العيش هكذا بجسدٍ مشوه، فقد كلما نظرت لنفسها بالمرآه كانت تفرك جسدها بقسوة لتقطع جلدها بأحد الأمواس صارخة بأنها تشعر بالتقزز من نفسها لينتهي بها إحدى المرات بالموت، فقد مر "الموس" من الوريد وانتهى ألمها سريعًا حيث لم يستطع الأطباء إنقاذها؛ وعندما أُغلقت القضية سارعت الشرطة بالإلقاء به داخل إحدى المصحات الحكومية ليلقى مصيره، إما الشفاء العاجل أو الموت بأحد جلسات الكهرباء.
تمت.

اسكريبتات بقلمي دنيا صابر حيث تعيش القصص. اكتشف الآن