بجبين مقطوب مفتقرا للارتياح جلس هو مختليا بنفسه مثقل الجفنين بعقل أنهكه التفكير فأضحى خاويا عاجزًا عن المواصلة...يستند بكلتا يديه على بساط سندسي أخضر تخللته سيقان لأزهار ببتلات بيضاء ناصعة فاحت بعطرها الزكي الذي يسحر الأذهان ويسلبها رشدها..
الجو لطيف باهر ونسمات الهواء العليل تلاطف خصلات شعره الحالكة ..السماء باسمة الثغر ولم يعكر الغيم صفوها..دفء أشعة الشمس يسري الحياة في الكون فترفرف البلابل والعصافير حوله في غبطة ونشوة...
تلك الزقزقة وذاك التغريد لم يصلا إلى مسامع زمردي العين الذي عجز تماما عن إبصار الجمال من حوله...بدا وكأن عينيه تتطالع الزهور وتتأمل جمالها الآخاذ لكنهما بواقع الأمر تعلقتا بقطرات الندى الملتمعة فوق الوريقات النضرة كدموع سكبها الليل عند الوداع قبيل الفجر...
كآبة تحاوط روحه وتغلف فؤاده فتخنقه ليطلق تنهيدة قوية وهو يرفع يديه يمسح وجهه بعصبية رافقته ولازمته بإخلاص تلك المدة الماضية...قطب حاجبيه في ضيق وهو يتحسس ذلك البلل على وجنتيه ليدرك بالنهاية أنه يبكي ..أي عينين خائنتين هما هاتان !..لا يجب أن يبكي أبدًا !
نهض أخيرًا بخطوات ثقيلة يجر قدميه جرا نحو ذلك البيت الذي اعتاد زيارته بقلب يطير فرحًا وسرورا لكنه الآن يدمي وينزف بشدة حتى امتلأت روحه وتملكه الغثيان فوضع يده على فمه يكتم تلك الدماء التي يشعر أنها ستفيض وتغرقه...لكن لا شيء ..لا شيء بالواقع سيخرج من فمه ويريحه...لا ذلك الحزن ولا تلك الغصة التي تحتل كيانه منذ رحيلها ومنذ تخبط هو يصارع نفسه ..
لم يدرك أن الأمر بتلك الصعوبة ولكن الحياة تجيد أن تعقد كل شيء يقلق هو بشأنه...لا تشفق قط عليه ولكنها تقسو وتحكم وثاقها على رقبته وتبتسم في جذل وهي تراقب احتباس أنفاسه وخفوتها وهي تخرج بصعوبة من بين فرجة شفتيه ..
الأيام تمضي بطيئة كما هي خطواته الآن وكأنها تتلذ برؤيه عذابه وتستمتع كلما أعياه التفكير وسلب النوم منه...فرك عينيه بتعب ورؤيته تتموه أمامه...لا يذكر متى استطاع النوم براحة ودون أن يتقلب في سريره لساعة على الأقل قبل أن يستسلم عقله ويرضخ لخلايا جسده التي تئن ألمًا وتتوسله كي يرحمها ويشفق عليها..
كم مضى منذ قرأ تلك الورقة ؟..هل هو يوم أم يومين ؟..أسبوع أم أسبوعين ؟..شهر أم شهرين ؟..
هو لا يدري ..حقًا لا يدري ..الأيام أصبحت متشابهة قاتمة يتحاشى هو أن يرى جديدها...فقط هو يدرك جيدًا أن حياته انقلبت رأسًا على عقب وما عادت كما كانت..هو واثق أيضًا أن تلك ليست سوى البداية لطريق سحيق يجهل هو نهايته..عضّ شفتيه بأسى وقدميه قد أتت به إلى حيث لا يريد ...يعلم أنها ستفعل ..يعلم أيضًا أن المجئ إلى هنا سيؤلمه أكثر ويدمي روحه...لكنه رضخ واستسلم لها لأول مرة بعد مرور تلك المدة منذ وطأت قدميه هنا وفارقت روحه روحها...منذ اُنتزعت هي منه وأدرك هو رغمًا عن أنفه كم كان يحبها وكم كانت قيمتها غالية بالنسبة له...
أنت تقرأ
لازوريت
Mystery / Thriller«من وصلت روايتي له بشكل أو بآخر.. على رسلك عزيزي تمهل!...حذار أن تظن أنني سأخبرك أن تترك كل ما يهمك أمره خلفك قبل أن تقتحم حروف كلماتي وتغوص في خيالها؛ فلا أضمن أنك ستعود بهم سالمًا.. ولا بأنك ستظل عالقًا في ذلك الثقب الدودي بلا رجعة..فأنا لن أقول...