أسير الثلوج

1.5K 95 120
                                    

بزمان بعيد كثيرًا عنا..و بعصر لا يشبه عصرنا في شيء...وتحديداً في أحد شوارع تلك المدينة الصاخبة و المزدحمة تساقطت الثلوج بكثافة و اجتاحت موجة من الصقيع أطراف المدينة...اكتست أغصان الأشجار بحلة بيضاء ناصعة وتغطت الأرض بطبقة كثيفة من الثلوج التي طُبعت بها آثار أقدام تلك الخيول المُسرعة إثر ضربات سوط أصحاب عرباتها..

عصفت السماء بشدة وتبدل ذلك النشاط والازدحام الذي كان قائمًا فقط منذ دقائق...الباعة يحملون بضاعتهم ويفرون بها...أسرعت الخطوات في كل اتجاه رغبة في الإلتجاء بدفئ منازلهم من ذلك الزمهرير الذي يجمد الدماء في العروق...فهذا يمضي إلى هنا وذاك إلى هناك وتلك تخبأ طفلها بين ذراعيها وهي تحمله راكضة...حتى القطط والكلاب الضالة أسرعت تفر من هنا..وتلك الفئران وجدت جُحرًا تلتجأ إليه ..

وعلى تلك الشجرة العالية وبذلك العُش الصغير التصقت الأم بأطفالها المجتمعين حولها تبثهم الدفئ رغم ذلك الريش الذي يحمي أجسادهم بالفعل..وفي تلك الثقوب وبشقوق جذع الشجرة احتمت الحشرات وهدأ روعها...بينما بالأسفل منها وعلى أحد جانبيها توجد أقدام صغيرة عارية ومليئة بجروح وخدوش طفيفة دامية..ورغم استنادها على تلك الثلوج الباردة إلا أن صاحبها لم يشعر بذلك البرد الذي اعتاده فقد صُب جُل خوفه واهتمامه على ذلك الذي يضمه إلى صدره بذراعيه الصغيرتين..

هو رغم ارتجاف شفتيه وبشدة واصطكاك اسنانه اللبنية ببعضها إلا أنه يحاول قصارى جهده تدفئة تؤامه الذي ازداد شحوب وجهه حتى حاكي وجوه الموتى.. شفتاه الوردية ما عادت كذلك بل اكتست بلون ازرق شاحب...

يتمتم بخفوت بين الفنية والأخرى ليُقرب الآخر منه أذنه مستمعًا لما يشعره بالعجز والحزن أكثر.. هو يعاود ترديد طلبه في إلحاح بأنه جائع ليتمتم الآخر بابتسامة واهنة ودون ثقة بقدرته على الإيفاء بوعده "سأحضر لك طعامًا بعد ذهاب الثلج"

لم يجبه شقيقه تلك المرة سوى بابتسامة فرحة وهو يغمض عينيه مطمئنًا لوجوده...ابتسم من يضمه بحنان كأم تخبأ طفلها في أحضانها وترعاه... هو ورغم كونهما في ذات العمر إلا أنه يشعر دومًا بأنه يصغره...ربما بسبب جسده الهزيل هذا ومرضه المتكرر.. ربما لأنه خجول وضعيف مقارنة به..ربما لجبنه وسرعة بكائه التي تشعره بالمسئولية نحوه..

تساقطت ندفات الثلج أكثر ليرفع عينيه برجاء نحو السماء لعلها تتوقف...طالع المكان من حولهم ليتسلل شعور قوي بالرهبة والخوف داخله...كل الأماكن كادت  تخلو ولا أحد بجوارهم...انتقل بصره بقلق لتؤامه المرتجف ليزيح بيديه ذلك الثلج الذي تعشعش على شعره ...أخذ يحادثه ويهزه ولكن الآخر بدا مُستغرقًا بنومه ..

مطَّ شفتيه بقلة حيلة وهو يشعر بارتجاف شقيقه بين يديه ..متوتر بشدة ولا يدري حقًا ما يفعله ليؤيه ..التفت حوله بغير هدى  لتسعفه أوراق تلك الشجرة المتساقطة.. مد يده بحرص كي لا يُسقط شقيقه نحوها ينتشلها ويغطي بها قدمي ذلك النائم..

طالع الزهور الموضوعة أمامهم بأسف فهو لم يستطع بعد هذا العناء سوى بيع القليل...لربما يغضب ذلك الرجل القاسي ويبرحهم ضربًا كما فعل ليلة أمس...هو ربما يتحمل ولكن تؤامه مريض وحرارته لا تنخفض..

تحسس وجنة الآخر ليتنهد براحة فتلك الحرارة ذهبت تمامًا رغم حلول تلك البرودة مكانها...إن توقف الثلج الآن فسيعود الناس فالوقت مازال مُبكرًا.. ربما سيبيع كل تلك الزهور حتى ويشتري لشقيقه تلك الحلوى التي كان يشتهيها منذ فترة..ابتسم وهو يقترب هامسًا بأذن الآخر بحب " أخي...أتحبها بالفراولة أكثر ؟ "

لم يجبه الآخر ليبتسم وهو يضمه أكثر بابتسامة متسعة رغم تلك الرياح القاسية التي تلفح جسده فملابسهم البالية تلك لم تكن قادرة على حماية أجسادهم الواهنة ولو لذرة...رفع رأسه بإصرار وظل ينادي رغم قلة الناس المارة حولهم...يطالعهم بأمل ورجاء قائلًا و بصوت مرتعش " اشتري الزهور الجميلة... رائحتها زكية.. اشتري أرجوك يا سيدي! "

لم يأبه أحدهم بهم وكأنهم لا يرونهم... هذا يمر من أمامهم وهذا من جانبهم دون أن يلتفت أحدهم نحوه وكأن أذانهم قد صُمت عن نداءاته الخافتة والضعيفة
وعميت عيونهم عن تلك الأرواح قليلة الحيلة..

ظل ذو السابعة من عمره ينادي حتى بُح صوته... وأُثلج جسده وخلا الشارع تقريبًا من أي مخلوق يُذكر...صمت أخيرًا مُستسلمًا لشدة تعبه...طالع شقيقه الذي سكنت رجفته تمامًا ليبتسم ماسحًا على شعره قائلًا بحنان رغم اهتزاز صوته "هل ذهب البرد يا أخي؟..جيد فأنا مازلت أشعر به"

لم يحصل مجددًا على أدنى رد ليستند برأسه علي رأس الآخر سامحًا للنوم بملاقاته وإراحته من ذلك التعب الذي لا يقدر على تحمله أعتى الرجال فكيف بطفل صغير في عمره !...ظلت البسمة مرتسمة على شفتيه وهو يتخيل سعادة شقيقه بإحضار تلك الحلوى له غير مُدركٍ بمفارقة الآخر لروحه حتى!..
والذي تيبست يديه الصغيرتين تقبض إحداهما على حفنة من النقود المعدنية وباليد الأخرى زهرة بيضاء كان يود بيعها...

مر وقت طويل ..طويل جدًا ..ولكن تؤامه لم يعي أو يدري حتى الآن ما حدث...لم يتقبل مغادرته هكذا وتركه وحيدًا...لم يلتئم جرح قلبه أو يداويه بُعد الزمن ..لم تسكن نبضاته ولم تجف دموعه بعد أن فقد نصفه الآخر..بل ظلت روحه حبيسة ذلك اليوم وظل هو أسيرًا للثلوج منذ تلك اللحظة..

**********************
أهلاً مجدداً 😂❤️

مقدمة بسيطة لروايتي الجديدة " لازوريت " 💖
(لازوريت هو أحد الأحجار الكريمة سماوية اللون )

مكتوبة من زمان ولكن قررت انشرها قرب الأجازة علشان متستنوش كتير..يعني النشر هيكون بعد إسبوع إن شاء الله ❤️ (كذلك ما وراء عينيه )

رأيكم في البداية 🌚 ؟

دمتم في أمان الله 🦋

لازوريتحيث تعيش القصص. اكتشف الآن