"4": من حفرة لأخرى

81 3 0
                                    

ابتعادي عن منطقة راحتي -منزلي- يزداد سوءًا يومًا بعد يوم والسبب الرئيسي هو هذا المجنون.
- ألن تبعد يدك؟
صحتُ بتوجع وأنا ألمس يده التي تعتصر ركبتي بينما عيناي تطلبُ الرحمة. أحسستُ بضخ الدم في عروق يده البارزة فأيًاً كان ما قلته قبل قليل وجرى بيننا، لقد أغضبه وبشدة.  
- جيسيكا ~
صوتٌ رجولي لم أستطع تمييزه لكنني ميزتُ صوت الأنثى التي نادتني من بعده.. إنها تالة.
- هنا ~
صرخة صامتة فلقد أسرع بإغلاق فمي بيده وهو يقول بهدوء مكملاً جملته السابقة:
- لكنني، لا أمانع مشاركته.
تكدست الدموع بعيني ألمًا من الوخز الشديد الذي اجتاح ركبتي عندما تركها. لم يتح لي مجال الرد على وقاحة ما يقوله فيده ما تزال تغطي فمي وجزءًا من أنفي.. أضاق ذرعًا وقرر خنقي مجددًا؟
رنة هاتفي كانت سبيلي في النجاة مما يفكر بفعله.. سمعتُ خطوات تقترب وأظنه سمعها فلقد ابتعد قائلًا بصوت عميق:
- بالواقع أمانع... هناك من سيستمتع ببقايا الغير.
- وكأنني سأقبل بك.
قلتُ وأنا أتحسس ركبتي بتوجع، اللعنة عليه وعلى يده الكبيرة.. وعلى تفكيره المريض ونظراته التي ألقاها على جايكوب، موضحٌ بأنه المقصود بكلامه.... شعرتُ بالغثيان من الفكرة برمتها. 
- انتبهي لنفسك.
امتزج صوته الساخر بصوتِ جايكوب وهو يطلب مني عدم التحرك، لقد كان هو صاحب الصوت الذي لم أميزه مسبقاً.
تقدم جايكوب نحوي بينما عيناه تلاحق مارفن الذي همَ بالرحيل. الكرهُ واضح بعيني جايكوب وهو ليس الوحيد فلو أمكنني حرق هذا الوضيع بعيني لفعلت.
- لما أنتِ متهورة هكذا؟!
- "لا تقتربوا من الجرف فالأرض غير ثابتة".. ألا تقرئين رسائل المدرسة؟
أسئلة عتاب متتالية من جايكوب ثم تالة.. بدا قلقهم صادقًا غريبًا كوني لا أعرفهم. اكتفيتُ بهز رأسي نافيةً معرفتي ورفضاً لطلبهم مني الالتحاق ب مجموعة المدرسة على "التيليجرام". لكن، الرفض ممنوع مثلما وضحت تالة كونه يحتوي على رسائل مهمة.
طلبت المساعدة من تالة مشيرةً إلى ساقي، ركبتي تحديداً فلم يعد بإمكاني المشي لوحدي.
- لا بأس..
قالَ جايكوب وهو يبعد تالة من أمامي، ليحملني بعدها بين ذراعيه... لم أمانع فجسدي منهك.
- ذكريني بأن أسمنكِ قليلًا.
سخرَ من خفة وزني بينما في الحقيقة كنت مدهشة من مدى قوة ذراعه فبنية جسدي ليست بذاك الضعف.. أظن بأنني ممتلئة قليلًا مقارنةً بالفتيات هنا.
- ما الذي تفعله؟
سألتُ بصدمة عندما قربني منهُ أكثر فدفن أنفي برقبته. ختمت سؤالي بالسعال من رائحة عطره القوية فضحك وهو يجيب:
- لم أقصد خنقك بالطبع.
- واضح!
تذمرتُ بضيق وأنا أبعد وجهي لأتنفس هواءً نقيًا فلقد اكتفيتُ اليوم من الاختناق.
أجلسني برفق في سرير العيادة تاركًا أمري لطبيبة جوليا.
- لم تصابي بأي مكان آخر؟
هززتُ رأسي نافية وببالي مارفن الذي لم يتأذى للأسف.. جسده من الفولاذ يستحال أن يكون بشريًا.
- سأحضر لكِ بنطالاً واسعًا.
قالت تالة فلاحظت بنطالي الضيق الذي سيصعب أمر علاجي.
ووجود جايكوب بجانبي.. ما الذي ينتظره؟
- آسف.. سأنتظركم بالخارج.
قال ضاحكًا من نظراتي التي تطلب خروجه ففعل وبعدها بدقائق أتت تالة لتعطيني بنطالاً واسعاً من ملابسها ومن ثم اتبعت جايكوب كي يتسنى لي أخذ راحتي فالخيمة -العيادة- غير مجهزه.. فقط بضعة أسرة أرضية مصفوفة بجانب بعضها البعض دون أي ستار يفصل بينهم.
- سأذهب لترتيب أغراضنا وسآتي بعدها لكِ.
لم أستطع التعليق على كلام التالة السريع قبل خروجها، فما الذي قد تعنيه كلمة "أغراضنا" غير أننا سنتشارك الخيمة ذاتها؟ ما أزال غير مستعدة للخروج من نطاق وحدتي الونيسة.
دهنت الطبيبة ركبتي المتورمة وأعطتني مسكنًا في حال اشتد الألم، فأخذت واحداً مباشرة واحتفظت بالباقي لوقت آخر. ذهبت هي خارجًا لتحضر عكازاً لي بينما أرحت ظهري بالاستلقاء، غطيتُ جسدي باللحاف الخفيف عدا ساقي المصابة.
- جولي.
رجلٌ ينادي الطبيبة، لحنَ اسمها بمرح وهو يدخل الخيمة فألقيت نظري نحوه وأنا أخبئ ساقي المصابة أسفل اللحاف.. في البداية خبئتها خجلاً من أن يرى ساقي المكشوفة حتى منتصف فخذي لكن، بعد رؤيتي له آخر ما علي التفكير به هو أن تغريه ساقي فعقل هذا الرجل مختلف.
اكتفيت من رؤيته...
- ما مدى سوء إصابتك؟
نبرته المرحة التي كان عليها قبل قليل تغيرت، أصبحت جادة وسؤاله هذا ليسَ محل إهتمام بالتأكيد.. لزمتُ الصمت والحفاظ على هدوئي حتى؛ وقف بجانبي.. حنى ركبتيه لينظر إلي عن كثب وبسؤال آخر هذه المرة:
- قيمي الألم من الواحد إلى العشرة؟
رفعتُ حاجبًا باستنكار ودون أي كلمة استقمت بجلستي مع الحرص على أن أبقي ركبتي مخفية عن عينه المتلهفة.. كان يرغب برؤيتها وبشدة رغم كونه السبب في جعلها أسوء.. هذا المجنون المدعو بمارفن.
المكان هادئ وعيناه تأبى الابتعاد عن حدقة عيني التي هربت مرات عديدة فالتواصل البصري معه صعب جدًا.
تأخرت الطبيبة كثيرًا ووقتي بالبقاء سالمة يكاد ينفد.
- أظن بأنكِ لا تتألمين كثيرًا.. لذا اسمحي لي بأن أجعلها عشرة.
قال خالقًا جوًا خانقًا فأنا عالقة هنا.. لا أستطيع الهرب بجسدي دون العكاز الذي تأخر كثيرًا.
- وفر جهودك.
قلتُ بجدية وأنا أصفع يده التي امتدت لركبتي.. هناك حتمًا مشكلة تجري بعقله.. لما هو مصرٌ على الإمساك بها؟
- مارف!
صوتُ المنقذة، الطبيبة جوليا.. أردفتْ بنفس النبرة الجادة:
- ماذا تظن نفسك فاعلاً؟
- أطمئن على المستجدة.
قال وهو يبتعد، وهنا قرر اختصار المسافة بالعبور من فوق ساقي ورأفةً منه، لم يطأ عليها.
- ألم تستطع الالتفاف؟
قالت الطبيبة بغضب فهز رأسه بلا مبالاة مفصحاً عن سبب قدومه:
- أحتاج مسكن، فلقد إنهارت بناية فوقي.
"بناية".. أنا تلك البناية حتمًا. 
-        ولم تمت؟
علقت الطبيبة ساخرة مما قاله فبدا الأمر وكأنها تسخر مني أيضاً. خرجت ضحكة خافتة منه ليس بسبب ما قالته بل مما قاله بعدها:
-        لم يخلق الموت لعائلتنا.
حسه الفكاهي رديء، أشك بأنه يمتلك شيئاً جيداً غير وسامته التي بدأت أراها قبحاً بسبب أخلاقه المتدنية.
تجاهلت الطبيبة ما قاله قائلة:
- جرب الاستحمام بماء دافئ وإن اشتد الألم عد وسأعطيك المسكن.
- ولم لا تعطِني الآن؟
سألَ معترضًا على كلامها فأجابته بصوت منخفض لم تستطع إذني إلتقاطه ولكن، محتوى كلامها يخصني بالتأكيد.. ما كان لينظر إلي بغضب لو لم تجلب سيرتي بحديثها.
لستُ من سيتنازل هذه المرة بإبعاد نظره فأنا لم أفعل شيئًا كي يصبح هذا المجنون عدوًا لي.
- أنظر إلي أنا!
صوتُ الطبيبة جوليا المصحوب بصوتِ صفعها لرأسه.. أشكرها.
- اذهب هيا، ولا تعد.
قالت فرد عليها بهدوء غير معترض على ضربتها:
- غبائها السبب بسقوطها.. سأعود لاحقًا.
لم يفوت اللحظة الأخيرة من رحيله دون أن يرمقني بنظرته المعتادة.  لم أأبه لما قاله ولم أتكبد عناء توضيح سوء فهم الطبيبة فبنظرها هو سبب سقوطي ولا أمانع تفكيرها الخاطئ.
تحدثت الطييبة، أخبرتني أولاً بأن إحضار العكاز سيأخذ وقتًا ومن ثم سألتني عن سبب تركيز مارفن بي.
- في العادة، لا يطيل غضبه خاصة على نفس الشخص.
طريقة تعاملها معه توضح مدى القرب بينهما لكن، كلامها الأخير يؤكد لي بأنها لا تعرفه جيدًا.. كل هذه الانفعالات والمشاكل المتتالية وتقول بأن غضبه قصير!
- لم أفعل شيئاً.
قلتُ وبدى علي الضيق فردت علي بهدوء:
- بإمكانك تقديم شكوى عليه إن تعرضَ لكِ ولكن، إن كنتِ قد أغضبته بأي طريقة كانت فالأفضل أن تعتذري.
رفعتُ حاجباً لا إراديًا مبدية إنكاري لحديثها فأكملت وهي مبتسمة:
- فقط كي يهدأ جنونه.
حتى هي تراه مجنوناً. زفرتُ ضحكةً خافتة من تطابق تفكيرنا بهذه النقطة معلقةً:
- هو من أخطأ بحقي.
أومأتْ وهي تنظر للجرح الذي على رقبتي ومن ثم إلى ركبتي لتقول بعدها:
- سقوطك كان خطيرًا ولحسن الحظ لم تصابي بأي كسر، إصابتك بسيطة ثلاثة أيام وستتشافين لكن، تجنبي الضغط عليها.
كلامها ذكرني بمنظر الجرف عندما سقطت.. لقد بدى مخيفاً ومؤلمًا ولا يعقل أن يسقط أحدهم دون إصابات بليغة لكن، بالنهاية خرجت بركبة متورمة أما هو فلم يصب حتى بخدش.. سوى ألماً بجسده إن صح ما فهمته قبل قليل من طلبه للدواء.
- متى سأحصل على العكاز؟
رغبتي بإنهاء أياً كان ما نتحدث عنه الآن واضح ولقد تقبلته بصدرٍ رحب وهي تخبرني بأنها ستطلب من أحدهم أخذي إلى "غرفتي" وأما العكاز فسأحصل عليه لاحقاً. عن أي غرفة تتحدث؟
- أتيت ~
صوتُ جايكوب المرح وهو يتجه نحوي.. وأظن بأنه من سيأخذني لخيمتي التي أتمنى أن تكون قد نصبت بالفعل.
نقاشي السابق أثر على ملامحي وأظن بأنني قد رمقته بنظرةٍ ساخطة دون أن أشعر.
- أين عكازها؟
سأل الطبيبة بينما عيناه تنظر إلى ركبتي المكشوفة فأنزلتُ بنطالي مغطيةً ساقي بالكامل ومن ثم حاولت الوقوف دون أن أأذي نفسي أكثر. رفع ذراعه كي أستند عليها ففعلت وأنا أستمع للطبيبة وهي تعيد ما قالته مسبقاً حول العكاز مضيفةً:
- هذا الدواء ضعيه ثلاث مراتٍ باليوم.
- شكراً.
تكفل جايكوب بالإجابة عني وهو يأخذ الدواء ومن ثم يأخذني أنا.. رفعني عن الأرض مجدداً!
- انزلني!
صحتُ عليه لا إرادياً فضحك متحدثاً:
- سأنزلك فور وصولنا.. ورجاءً إنسي لقائنا الأول السيء.
يقصد المقلب المتعاون بينهم وبين تالة... والذي ذكرني مجددًا بمارفن وردة فعله التي تغضبني أكثر من مقلبهم المبالغ به.
- ما دخل لقائنا؟ انزلني حالاً!
- عينكِ...
لقد لاحظ نظرات الانطوائية جيسيكا... تنهدتُ بخفوت مستعدةً لتفسير ما لا يفسر فحتى الآن لا أظن بأنني أتقبلهم.
ضحكته أوقفتني أمام إعلانه عن جنونه وهو يتحدث قائلاً:
- أنظري لي كيفما تشائين لكن، لا تبعدي هذه العين الجميلة عني.
لقد أقحمتُ نفسي بمشكلة كبيرة عندما أتيت إلى هنا فالجنون ينتشر سريعاً.
- لنذهب قبل أن تقتليني.
قال بعد أن انفجر ضاحكاً من نظراتِ الاشمئزاز التي اعتلت ملامحي. كشرتُ بوجهي وأنا أنظر للوجهة التي ذهبنا لها. مروراً من الخيم المتجاورة التي نصبت أسرع مما اعتقدت وعبوراً إلى الجهة الأخرى التي تغطيها الأشجار الكثيفة.. مبنى أبيض كبير، بدى جميلاً وفخماً.
- إلى أين؟
سألت باستغراب فقال بتعجب من سؤالي:
- غرفتك!
- خيمتي؟
سألتُ فضحكَ موضحاً سوء فهمي:
- الآنسات الجميلات مثلكِ لديهن غرفهن الخاصة.. الخيم لنا نحن الرجال.
أومأت رأسي بخفوت وأنا أنظر للمكان وكل ما يمكنني قوله، محظوظة.. بإمكاني البقاء بغرفتي لسبع أيام وهكذا ستنتهي هذه الرحلة سريعاً.

من حفرة إلى أخرىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن