الفصل الأخير

500 27 4
                                    

- لا أستطيع تحديد مكانها، هيا هاجموها مباشرة، فهذه هي الفرصة الأخيرة لقتلها بمفردها.
فيخرجون من سيارتهم كخروج الذئاب من الجحر بأقنعتهم السوداء، ويتجهون إلى سور القصر ويحاولون الالتفاف حول سور القصر محاولين تتبعها لقتلها.
سليم بسيارته قادم فيراهم من بعيد وهم يحاولون الاقتراب من السور، فيقود سيارتهُ باتجاههم بأقصى سرعة فيصدمهم عن عمد بالسيارة؛ فيبعثرهم في الهواء على كل جانب، ثم ينزل من السيارة ويسرع في الجري في اتجاه القصر لأنهُ يعلم أن هناك المزيد منهم.
حراسهُ الشخصيين على وشك الوصول، ويدخل هو الحديقة ينظر يمينًا ويسارًا، ويصيح:
- ياسمين، ياسمين.
بينما تخرج سمر من باب القصر من الجانب الآخر، وتصيح:
- ياسمين، ياسمين، احذري، احذري وتصرخ بأعلى صوت:
- ياسمين احذري.
يسمع كل من في القصر الصراخ، ياسمين، ياسمين، فينهض من في الفراش في فزع.
تسمع والدتها وهي تتلفت في غرفتها على مصدر ذلك الصياح فتسمع صوت رصاصة قد أُطلقت، فتفزع وتقول:
- يا ساتر يا رب، يا ساتر يا رب، وتهرول بالخروج من الغرفة تقول:
- ماذا هناك؟ ماذا هناك؟
وسارة وهاجر تنظران من النافذة، ثم تصرخان في فزع وتركضان في اتجاه الحديقة، ووالدتهما تصيح بهما وهي تهبط السلم خلفهما:
- ماذا حدث؟ ماذا حدث؟
ينظر سليم وهو مفزوع في اتجاه ياسمين، فيجدها تصرخ: سمر، سمر.
لقد أصابت الرصاصة سمر وسقطت على الأرض كعصفورة ذبيحة بين الأعشاب.
وسط عيون الجميع التي تبكي وصلت سيارة الإسعاف تنقلها للمستشفى، ويسوق رجال الشرطة أولئك المجرمين بعد أن تم تقييدهم؛ الأصحاء منهم أو من دهسهم سليم بسيارته.
يعم الصمت قاعة المستشفى أمام حجرة العمليات لا تسمع سوى صوت وقع أقدام الممرضة التي تسير في الممر، عقول الجميع قد سلبتها سمر معها وهي في غرفة العمليات، فلا أحد يفكر فيما حدث أو لماذا حدث هذا الآن؟ هناك شيء أعظم قسوة يشغل العقول والقلوب.
يفتح الطبيب باب الغرفة فيقف الجميع ويهرول نحوه؛ سليم، ياسمين، هاجر، سارة، شقيقها محمد، زوجتهُ زها، وينظرون لهُ متسائلين عن نتيجة العملية؟ الكمامة تغطي وجههُ فلا يمكنهم رؤية تعبيرات وجهه ليكتشفوا ماذا تخفي، عيونهُ بالكاد تُرى، وصمت الجميع بعد سؤالهم خوفًا من إجابة لا تُرجى، بل تتعلق بهِ العيون كطوق النجاة وسط أمواج الخوف والقلق التي تخنقهم وتكتم أنفاسهم، ثم يمد يدهُ ليزيل الكمامة من على وجهه فيشرق وجههُ بابتسامة ساطعة وهو يقول:
- لقد نجحت العملية، وأخرجنا الرصاصة، والفتاة بخير.
تنهمر دموع الفرح من كل العيون، وتحتضن ياسمين سارة وهاجر، وتحتضن زها محمد، ويبكي الجميع، وسطهم سليم الذي كان ينتظر تلك اللحظة التي يخبر بها ياسمين من يكون، ولكن سمر سلبت هذه اللحظة أيضًا بتضحية غير متوقعة من فتاة تكذب في كلماتها وتصدق في أفعالها ومشاعرها.
وبعد أن اطمأن الجميع عليها تحدث أحمد وياسمين معًا ذلك الحديث الذي طال انتظارهُ، إنهُ وقت الحقيقة الجميلة.
كستار المسرح الذي يفتح ليكشف للجمهور عن نجمهم المحبوب فترتسم الابتسامات وتتعالى صيحات الهتاف والتصفيق، فتح الستار عن حقيقة ياسمين المصري إلى سليم، وحقيقة سليم سليمان إلى ياسمين، كخروج نجم المسرح إلى جمهوره وهو واثق من شوق جمهوره لهُ وعشقهم وحبهم لهِ.
أضاءت حقيقة ياسمين المصري في عيون سليم، وتغنى سليم بحقيقته لياسمين، وما أجملها من أنشودة عزف موسيقاها القدر وهو يراهم كالزهور في منبتها ترتوي بالحب الطاهر لتنمو وتتفتح بحب كل قلب منهما.
لقد عشق عبيرها من قبل أن يرى جمالها، وعشقتهُ هو منفردًا دون أن تعلم أنهُ صاحب البستان، فقد كانت تظن أنهُ مركب نجاة في وسط رمال الفقر لا يستطيع الإبحار، فإذا بها تجدهُ القبطان، والربان، وصاحب السفينة، وما أجمل القدر الذي جمعهما معًا!
وقد توج حبهما القدر بما وضع لهما من صدف، إنهُ فقط كان كالأب الذي وضع ابنهُ في تجربة تبدو صعبة، ولكنها كانت تروي بذور الحب التي بداخله لتنبت بالزهور.
عدة أيام تعافت سمر ودخل الجميع لزيارتها وهي على سريرها تبتسم وجالسة نصف جلسة على السرير ومتكئة، والتفوا حولها من كل جانب تغمرهم السعادة بها، وياسمين ملتصقة بها تقول لها:
- حمدًا لله على السلامة يا شقيقتي التي لم تلدها أمي.
وسليم على الجانب الثاني، فتقول سمر وهي تود في تغيير هذه اللحظة المؤثرة إلى مزحة:
- ياسمين هل تعتقدين أن تلك الرصاصة التي تلقيتها قد كفرت ذنوبي في الكذب على سليم سليمان؟
فانفجرت ياسمين بالضحك وهي تنظر لهُ وهو غارق في ضحكاته على قولها، بينما هي تنظر لهما في اندهاش، فقالت ياسمين:
- سمر كنتِ تكذبين كثيرًا، ولكن لا كذب من كذبكِ يضاهي كذبة أحمد.
نظرت لهُ ثم لها وقالت:
- أحمد! ما بهِ؟
وكان هو يبتسم، فضحكت ياسمين وهي تنظر لهُ وتقول:
- استعدي للمفاجأة الكبرى، أحمد هو سليم سليمان، أجل لقد كان يكذب علينا ونحن نظن أننا نكذب عليه.
دارت بعيونها في الغرفة، ثم قالت:
- أقسمي على ما قد ذكرتِ للتو.
رفعت ياسمين يدها للأعلى كما يرفعها أحدهم أمام المحكمة وقالت:
- أقسم على ما قد ذكرت، إنهُ سليم سليمان.
نظرت لها سمر، ثم نظرت لهُ وهو يضحك منتظر ردة فعلها، ثم نظرت لها، ثم لهُ، ثم لها، ثم.. فقدت الوعى، فصرخ كلاهما فوقها وهما يلمسان وجهها محاولين إعادتها لوعيها:
- سمر، سمر، سمر.
فرفعت رأسها من على السرير وهي تقول:
- لقد كذبت كليكما مرة أخرى، ولكن يا ألله لا أستطيع تصديق ما قد ذكرتِ للتو، كنت أكذب عليه كل ذلك الوقت وهو يعلم كذبي! أشعر أنني أغبى كاذبة في الكون.
فقالت ياسمين:
- لقد كنتِ قلقة من أن تخبري أُوغلو بحقيقتكِ، الآن ليس عليكِ القلق، فهو يعلم كل شيء.
نظرت لسليم وهي تقول:
- حقًا! هل يعلم كل شيء؟
ابتسم سليم ابتسامة صافية وهو يقول:
- بالطبع يعلم كل شيء؟
فأكملت سمر:
- وأحبني وأنا كاذبة؟
فقال سليم:
- لولا كذبتكِ لما اجتمعنا، رُبَّ ضارة نافعة.
فقالت بنبرة صوت متوترة:
- لا أعلم هل أفرح أم أكون خجلة من كذبي أمامهُ؟
فاقتربت منها ياسمين وهي تقول برفق وتضع يدها على كتفها:
- إذا توقفتِ عن الخطأ فلا تخجلي منهُ.
فمازحتها سمر قائلة:
- إذن ظللت أنا أكذب لعام لكي تتزوجا أنتما في النهاية! لقد حققت الكذبة هدفها، ولكن حدث خطأ صغير، هو بدلًا من أن تحقق الهدف لي انزلقت إلى صديقتي المقربة.
فضحك الاثنان من قولها، ثم قال سليم:
- لقد جلبت لكِ كذبتكِ مدير الشركة، وجلبت لها براءتها صاحب الشركة.
فأكملت هي قائلة:
- ربما كذبة أخرى ستفي بالغرض.
فضربتها ياسمين على رأسها وهي تقول:
- كذب مجددًا.
وظل الثلاثة يمزحون ويتحدثون عن موعد الزفاف، فتقول ياسمين:
- سنتزوج في يوم واحد ما رأيكما؟
فيرد سليم:
- سيكون هذا رائع.
فتقول سمر:
- سأبدأ في التخطيط للزفاف من الآن.
كانا جالسين جنبًا إلى جنب في حديقة القصر بعد عقد القران، بينما والدتها، وسارة، وهاجر ينظرون من النوافذ ويراقبون.
وهما جالسان ومع ذلك لا يتحدثان، بل كل منهما غارق في بحر أفكاره، حتى لاحظ هو أنه قد أبحر بعيدًا عن حبيبته التي بجانبه، فقال معتذرًا:
- آسف يا حبيبتي لقد شرد تفكيري قليلًا، ولكن قلبي بالقرب منكِ.
فابتسمت هي وقالت:
- لا عليك، فلقد شرد تفكيري أنا أيضًا.
- وفيما كان شرود عقلك؟
- في صديقتي سمر.
-يا لهذه السارقة! فهي من كانت تشغل عقلي الآن، نحن معًا، ومع ذلك سرقت تفكير كلينا.
التفتت لهُ بعد أن كانت تنظر إلى الحديقة وهي تبتسم وقالت:
- حقًا كنت تفكر بها؟ أخبرني بماذا كنت تفكر؟
- سأخبركِ بعد أن تخبريني أنتِ أولًا.
ابتسمت وقالت:
- حبيبي لقد رأيتَ من سمر الجانب المظلم فقط، ولكن لها جانب مشرق قد رأيته أنا لسنوات، لا أبالغ في الأمر، فهي من أحسنت إدارة موهبتي، وعرفت كيف تستخدمها، وبدونها ما كنت أنا ياسمين المصري التي تقف أمامك الآن.
رد هو بابتسامة المعاتب وقال:
- لقد أسأتِ الظنَّ بي، فأنا أنا لست غاضبًا من سمر بسبب كذبتها الشهيرة، فلقد صححتُ الأمرَ للناس بطريقة ذكية، حيث أخبرتهم أن الأمر اختلط على الصحفيين؛ لأنني كنت خطيب صديقتها ومن هنا انتشرت تلك الإشاعة.
صمت للحظة ثم قال:
- ولولا هذه الكذبة لما استطعت أنا الوصول إليكِ، ولما أُتيحت لكِ الفرصة لتتعرفي عليَّ عن قرب كإنسان، وليس كمجرد رجل ثري يرغب في الزواج من روائية شهيرة، لقد اجتمعنا سويًا ورأى كلٌّ منا الآخر بعيدًا عن المظاهر، والثراء، والشهرة، وأحببتِني كإنسان، وأحببتكِ كفتاة بريئة، وهي من تسببت في كل هذا دون أن تدري.
- إذن فبم كنت تفكر؟
- كنت أفكر أن أهديها شيئًا ثمينًا كشكر لها هي وأُوغلو أيضًا، فكلاهما مرتبطان ببعضهما.
- أجل، ما رأيك بهذه الهدية؟ وأمسكت ياسمين بالهاتف فقربتهُ لينظر إلى صورة ما وهي تقول:
- منذ القِدم تتمنى أن يكون لها هذا الشيء.
- يا لها من فكرة رائعة، أنا موافق.
- إذن سنجعلها مفاجأة لها في يوم الزفاف.
- اتفقنا يا حبيبتي.
أمسكت بحقيبتها وهي تنظر لهُ وتبتسم ببراءة وقالت:
- أنتَ أيضًا لك هدية عندي.
- ما هي؟ فأنا أحب الهدايا خاصة منكِ.
فأخرجت من حقيبتها رواية معطرة بعطر ذي رائحة جميلة تستطيع أن تشم رائحتهُ عن بعد، ومغلفة، ومربوطة بشريط أحمر لامع من الأربع جوانب، ويجتمع وسط الرواية بوردة حمراء جميلة، وقالت:
- هذه الرواية كتبتها هدية لك منذ أن ذكرت أنك لا ترتوي من كلماتي، وكل كلمة فيها قد رويتها بحبي لك، إنها ليست مجرد كلمات عابرة، إنها مشاعر مسافرة من قلبي إلى قلبك، عندما ستقرأها ستسمع بها لحن حبنا، وسيعانقك عطر شوقنا، وسترى كيف نمت زهور حبنا في حديقة العشق معًا.
ابتسم ومد يدهُ وأمسك بالرواية ينظر اسمها، فوجدها كُتب عليها (سأروى قصتي)، ثم قال:
- لا لن أقرأها.
تعجبت وقالت:
- لماذا؟
أمسك بيدها وهو يقول:
- أنتِ من ستقرئينها لي بصوتكِ العذب، هذا شرطي.
ابتسمت بحب وقالت:
سأبدأ بقراءتها لك منذ يوم الزفاف وأنا بالفستان الأبيض.
ابتسم وقال: حسنًا.

نجوم مختبئة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن