نبدأ روايتنا بِـلون الدم.
بقلم/سلسبيل كوبك.
الفصل الـ١..
_______________________________
توقفتْ بِسيارتها السوداء لترفع بَصرها نحو ذَلِك المَنزَل أمَامها بأَعْيُن غلفها الهدوء، فتحت الدُّرج على يمينها وأَخْرجَتْ مسدسًا وضعته فِي حقيبتها لتفتح باب السيارة تترجل مِنها، كانت ترتدي ثوبًا أسود اللون بأكمامٍ طويلة يَتسع مِنْ بعد الخصر يمتاز بفتحة مِنْ اليسار تصل لكاحلها يتناسب مه الظلام المُحيط وعينيها.
خطت للأمَام بخُطُواتٍ مُتزنة حتى وقفتْ جِوار تِلك السيارة الواقفة أمَام المنزل لتمرر سبابتها عليها بداية مِن آخرها لأولها متجهة لباب المنزل، أَخْرَجَتْ المفتاح والذِي كان مِن الغريب اِمتلاكه لتدلف للداخل بخُطُوات هادئة بَينما صوت حذاؤها يسبقها فِي الظهور.
داخل غُرفة المعيشة كان يجلس ثلاثة شباب يضحكون بقوة ويتناولون مشروبًا كحوليًا يُغيّب عقلهم عَنْ الواقع، يتحدثون عَنْ الفتيات ويصفون أجسادهُنَّ بأكثر الألفاظ سوءًا، يُشوهون أرواحهُنَّ قبل أجسامهُنَّ بحديثهم عَنْ كمْ فتاة حطموا قلبها بـاِسم الحُبّ.
فُزِع ذَلك الذِي كان يجلس على الأريكة بمفرده ويبدو أنه الأكثر ثراءً لينتفض مِنْ مكانه يقول:
-جُلَّنار!
بعد مدة مِن الوقت كان يجثو أمِامها كُلٍ مِن زملاء ذَلك الثريّ "آسر وفهد" يركعون، ويبكون ويتألمون حتى أنهم أفرغوا ما بجوفهم لتبتعد عَنْهم على الفور وتجذب منديلا مِن الطاولة تُنَظف بِه حذائها، اِقْترب مَنْهُم ذَلك الشاب الأكثر ثراءً والذِي تعرف إليها في البداية ليصرخ بِها غاضبًا:
-ماذا فعلتِ؟
-ماذا فعلتِ؟ تحدثي.
-كُلٍ مِنكم سَيذيق العذاب الذِي يليق بِه.
-ماذا فعلنا؟
هتف بأسمائهم بذعر ولكِنهم لا يُجيبون ليصرخ بِها ثانيةً يأمُرها أن تترراجع فورا وإلا...
تفاجئ حينما أَخْرَجَتْ مسدسها من الحقيبة تُلمعه بمنديلٍ تُطالعه ببرود ليس وكأنها على وشك اِرتكاب ثلاث جرائم قتل الآن، تساءل بخوف وقد سقط بالأرض:
-علامَ تنوين!
-لا تقلق، ما زال هناك وقت على قتلك.
اِنْفعل غاضبا لينبس بنبرة مهددة لعلها تتراجع عَنْ موقفها:
-سَأقتلك.
رفعت بَصرها نحوه لطَالمَا كان يمقت تِلك النَظّرة بعينيها حادة باردة ولا شيء يُعنيها، رددت تقول:
-إن بقيت على قيد الحياة.
وجدها تصوّب فوهة مسدسها نحوه لتجحظ عيناه حتى كادت تتدلى للخارج مِنْ صدمته ليردف بذعر:
-حسنا، ما رأيك أن نُقيم اِتفاقًا.
-يمكُنكِ قتلهم وَلكِن اُتركيني حيًّا، يمكُنني الدفع لكِ مُقابل تَرّكِي.
-أرجوكِ.
قال كلمته الأخيرة برجاء لتطلق النار نحو موضع قدمه ليبعدها على الفور يصرخ بقوة يُنادِي باِسم أخيه الِي هوى قلبه بين قدميه في الخارج يُزِيل حزام الأمان ويهبط مِن سيارته متجها للداخل وقبل أن يطرق على باب المنزل وجده مفتوحًا ليدفعه ويدخل يبحث عَنْ أخيه.
-جُلَّنار!
نبس باِسمها بتفاجئ لتغلق مقلتاها تحاول السيطرة على قلبها ورجفة يدها القابضة على المسدس، لا تِعْلم لِمَ تلاشى كل الجمود بظهورهِ إنه آخر شخص تَمَنّت أن يكون موجودًا هُنا.
أدارت ظهرها ليصبح وجهها مقابلا لخاصته تصوّب بالمسدس إليه وقبل أن يتحدث لمحت الأخير وهو يخرج هاربًا مِنْ لتُدير فوهة مسدسها نحوه وتضغط على الزناد لتنطلق تِلك الرصاصة وتخترق جسده ليصرخ متألمًا بَينما هي جثت على ركبتيها بالأرض وسقط المسدس مِنْ يدها التِي كانت ترتجف بقوة وقد اِسْتَمَعتْ لاِسمها مِن ثغره:
-جُلَّنار.
اِسْتَيقَظتْ عندما اِسْتَمَعَتْ لصراخ أبيها في الخارج باِسمها، لتشعر بالضيق ومسحت على جبهتها برفق لتُزِيل الغطاء مِن فوقها وتتجه للحمَّام تغسل وجهها وتستحم بماء بارد إنها عادة لديها، خرجت لتُبدل ثيابها لأخرى رسمية باللون الرمادي وتتجه لأسفل تلقي التحية على أبيها وتجلس جِواره على مائدة الطعام تقول:
-لا داعٍ لإيقاظي كل يوم؛ أنا أستطيع الاستيقاظ بمفردي.
أجاب عليها بسخرية:
-الآن ترفعين صوتك علىّ! بعد أن ربيتك جيدًا وأعطيتك أموالي كُلّها.
اِنْفَعلت قليلا لتنبس بقولها:
-لمْ تستطع أن تكون لي أبًا جيدًا لتُربيني ثم أن تِلك الأموال التي تتحدث عَنْها تخُصّني لقدْ أفنيتْ عُمري في شركتك.
نهضتْ تحمل سُترتها بَينما هُو صرخ فيها غاضبًا:
-سَتظلين تِلك الفتاة الضعيفة فِي نظري مَهمَا فعلتِ، لا تنسين أنتِ لمْ ولنْ تكوني شيئا لي حتى أن تِلك الأموال تخُصّني وحدي، يا ناكرة المعروف.
-أنا الوحيد الذِي ساندك بِتلك الدُنيا.
صعدت إلى سيارتها وغادرت تتجه إلى شركتها أو بالأحرى شركة أبيها والتِي ورثتها عَنْه بعد أن أُصيبتْ قدماه في حادث وأصبح جليسًا، كانت ذكية تتطّلع للنجاح ولا تيأس أبدا، طورت الشركة وفتحت عدّة فروع مِنها وحاليا تعمل على فتح فرع جديد خاص بمنتجاتهم فِي مصر تِلك البلد التي لا تحمل عَنْها سِوى ذِكرى واحدة.
كانت تجلس على مَقْعد مكتبها تتابع أعمالها حتى طُرِق بابه ودلف الطارق بعد سماحها لـه.
-آنسة جُلَّنار، كما أمرتِ الافتتاح سيكون نهاية هذا الشهر.
-حسنا، هل حجزت التذاكر؟
-نعم، ولكِن...
-ماذا؟
-السيد عُمر يرفض المجيء.
-هاتفني عندما علم بالسفر وأخبرني ألا أحجز له.
رفعت بَصرها إليه لتضع ملفها على المكتب وتسأله قائلة:
-لمَنْ تعمل، رون؟
-لكِ.
-حسنا، كما أمرتُك ستحجز لي و لهُ.
-ألا تحتاجي لي معكِ؟
-لا، يكفي طارق هناك.
-ولكِن...
-رون، أنا أعتمد عليك؛ لذا لا يوجد أفضل مِنك يمكنه إدارة الشركة مِنْ بعدي سِواك.
أردف بضيق وعلى مضض؛ لأنه كان يودّ المجيء معها:
-يُشرفنِي ثقتك بِي، سيدتي.
-سَأذهب الآن.
أومَأت برأسها لتسمح له بالذّهاب وتعود لأعمالها، تعرف أن أباها عنيدًا ولن يوافق على سفره ولكِنها ستجبره لا بأس.
_______________________________
أشْرقتْ الشمس فِي أنحاء القاهرة لتعلن بداية يوم جديد، كان ينام بعشوائية على فراشه حتى دلف ذِلك الشاب النشيط والذِي اِسْتَقيظ فِي ميعاده وتناول طعام الفطور مَع العائلة، ولكِن أخاه يبقى مستيقظًا حتى الصباح ليغرق فِي النوم طوال النهار ليهتف باِسمه:
-تميم.
-اِسْتَيقَظ، يا تميم.
-ليل، لا تزعجني اِذْهب مِن هُنا أريد النوم.
-أمر أبوك أنك تذّهب للعمل بدايةً مِن اليوم.
فَزَع تميم واِنْتفض مِن مكانه ينظر إلى أخيه يقول:
-ليل، ما زلت صغيرًا بالكاد تخرجت منذُ عام.
-ألا يمكُنك التحدث معه حتى أنال قسطًا مِن الراحة.
-تنال قسطًا مِن الراحة! حقا!
-ألم تنجح في جامعتك بدرجات الرأفة، يا هذا!
-اِرتدي ثيابك، وتعال.
-ليل، أخي أنت لا تؤذيني، أرجوك تحدث إلى أبي إنه يستمع لك.
-لا أريد أن أفني عُمري بالعمل كما تفعل أنت.
-حسنا، ولكِن بمقابل...
قاطعه بقوله تميم قبل أن يبلغه بشرطه:
-أوافق عليه.
-تعدني أن تبعد عن صُحبتك وأيضا الفَتيات.
اعتدل في نومته ونهض ليقف أمَام أخيه يردف:
-حسنا سأبتعد عَنْ أصدقائي، وَلكِن الفَتيات لا أعتقد أنها فكرة جيدة.
-لا أستطيع.
-وأنا لا أستطيع إقناع ابيك تعرف أنه عصبي وطالما وما دام أراد أمرًا سَينفذهُ.
-أخي...
تركه ليل وغـادر بَينما تميم جلس على فراشه ليعود بظهره يستلقي على السرير يتساءل عمَّ إن كان أخوه مجنونًا إنه يطلب منه أن يقاطع الفتيات!
هبط للأسفل ليجد والدته تجلس مَع عمته يتهامسون وغالبًا عَلِم سِر اِجتماعهم وهُو تدبير عروس له ليتزوجها ويتخلصوا مِنه، وبالطبع يجب توفر بعض المعايير الخاصة والأساسية بالفتاة التي سَيتزوجها كـالمستوى الاجتماعي، والجمال، واِمتلاك نفوذ تضاهي نفوذهم.
كاد أن يغادر حتى أوقفته أمه لتنبس بقولها:
-لا تنسَ موعدك المُدبر مع أيسل اِبنة صديقة أبيك في مطعمنا.
تركها وغادر يستقل سيارته يقودها متجهًا إلى شركتهم، إنها ليست هوايته أن يكون مسؤولًا عَنْ إدارة شركة بالكامل ومسؤولًا عَنْ كُل مَا يتعلق بتجارتهم لا يحب هذا العمل؛ لذا قام باِفتتاح مطعم إنه يهوى الطبخ ويُفضّل إدارة شؤون المطعم على الشركة، وَلكِن أباه مَن أراد هذا ليجعله يدرس فِي كلية الحقوق ليبقى مطّلع على كافة الوثائق حيث إنه كان الأقرب لأبيه دوما بالرغْم أنه ليس الأكبر؛ أخيه الأكبر هرب مِن تِلك المسؤولية وغـادر خارج البلاد متحججا بأنه يريد الزواج مِن أجنبية وتأسيس عالمهُ الخاص بَينما أخيه الأصغر تحجج بأنه ما زال صغيرًا ولا يستطيع تَحَمُّل تِلك الأعباءِ على عاتقه وأنه يريد أن ينعم بحياة مليئة بالرفاهية.
ألا يمكنه الحصول على حياة خاصة له مثلهم ليختار الزوجة التي تناسبه ويعيش فِي المنزل الذِي يختاره!
صعد إلى مكتبه وَبدأ العمل حتَى قاطعه رنين هاتفه وكان المتصل أمه تُريد أن تُذكره بموعد أيسل لمْ يَجِبْ إليها وهَاتف صديقه، إنه لا يمتلك سِوى واحدٍ فقط يثق بِه ويأتمنهُ على أسراره.
طُرِق الباب ليدلف أمير صديقهُ بعد أن سمحَ لهُ ليل ليباغته بقوله:
-أمير، اِسْدِ إلىَّ معروفًا؟
-أَخْبرني.
-اذْهب إلى اِجتماع بدلا مِني.
عبس وجه أمير لينبس بقوله:
-موعد مدبر مرة أخرى!
أومَأ ليل برأسه ليتجه أمير إلى الأريكة الجلدية الموجودة بالجِوار يجلس عليها بضيق وضجر يتساءل مَن الذِي يرفض الزواج والخروج إلى مواعيد مدبرة ويُرسله هو مكانه، رفع أصبع البنصر بيده اليُسرى وأردف يقول:
-ليل، أنا متزوج... حياة إن علمت بالأمر سأنتظرك تأتي لتُجمّعْ أشلائي.
-وَمَنْ سيخبرها؟
أجابه بقوله:
-أنا، أنا سأخْبرها؛ حتَى لا تجرؤ على الطلب مَنْي الذّهاب إلى موعد مدبر ثانية.
-حسنا، لا تعبس بوجهك وغادر.
-لا تنسَ تفقد المطعم.
-كما تأمُر، يا سيدي.
-سأقدم اَسْتقالتي قريبا.
-جيد، سأرتاح مِن وجهك العابس.
ضَحكَ ليل بَينما أمير غادر المكتب يصفع الباب الزجاجي للمكتب مِن خلفه يتمتم بكلماتٍ غير واضحة.
_______________________________
كانت تجلس أمَام ذَلك المول التجاري والذِي يحمل اِسمُهَا «جُلَّنار» اِسم يحمل العديد مِن الذكريات الحزينة وَكأنها خُلقَتْ لتكون مأساة بذات نفسها، لمْ يتم الانتهاء مِن المول التجاري بعد ولكِنها تأتي كُـل يوم فِي اِنتظارها.
تقدمت مِن الرجل الواقف أمام واجهة المبنى يحميه ويحرسه لتسأله بقولها:
-لمْ تأتِ بعد؟
-أَخْبرتك المرة السابقة أنها لن تأتي قبل أسبوع.
-هل تتحدث إليك؟
-أخْبرها أنه أنا أفنان، ستأتي مهرولة.
تقدم مِنهُما رجلًا يُدعى طارق يرتدي حُلَّة رسمية ليقول ما أن رَأَها:
-لِمَ عُدتِ إلى هُنا؟
-أخْبرتك أن لسيدة جُلَّنار ترفض مقابلتك.
-أخْبرتَها أنني أفنان!
-أخبرتُها أنك أفنان أمها، ولكِنها أمرتني أن ألقي بكِ خارج المكان، وَإن عادت ووجدتك حينها ستعاقبني؛ لذا رجاءً غادري... لا فائدة مِن بقائك هُنا.
همعت الدموع على وجنتيها وعادت أدراجها لتُطَالع الاسم مرة أخرى كان باللون الأسود يُحيطه شكل نيران حمراء مِن كُل مكان، كانت تعلم أنها ستكون قوية ولكِن ليست قاسية.
عـادت لذلك المنزل البسيط الذِي يتألف مِن غرفتين وحمَّام ومطبخ بالإضافة لصالة بأثاث ركيك متهالك، لتفتح باب تِلك الفتاة ويصدر عنه صرير مزعج لتتقدم للداخل تَرَاها تستلقي بوضعية الجنين داخل بطن الأم لتهتف داخلها ليتها لمْ تلدها أبدا حينها لمْ تكن تعرضت لما حدث، إنها كانت ضحية أسرة فقيرة... فقط إن كانت مُذنبة فرُبما ذنبها الوحيد أنها اِبنة موظف يعمل لدى الحكومة بمرتب لا يكفي عشرة أيام فِي الشهر ويمضي بقية الأيام بالديون، وأم تعمل عاملة نظافة فِي إحدى المستشفيات لا يتعدى دخلها خمسمائة جنيها وَغزا الفقر والتعب ملامحها.
عـاد مِن عمله يحمل أعباءً على عاتقه يشعر بأنه على وشك الانهيار، لقدْ كانت حياته وحياة أسرته على المحك كاد أن يفقد سمعته وابنته.
كانت تغلق جفناها وتتسرب عَبراتها على وجنتيها بصمت تضع يدها على معدتها تشعر بالألم داخلها تتمنى لو أنها لم تُولَدْ قط.
_______________________________
عـادت إلى المنزل ثم اِتْجهت إلى غُرفته دون الطرق على بابها لتجلس على تِلك الأريكة الموجودة أمَام فراشه الذِي يرقد عليه تطالعه وَهُو يحمل بَين يديه كتابًا لينظر إليها بضيق ثم عاد للقراءة ثانية لتقاطعه بقولها:
-حجزت التذاكر.
-لن أغادر، مهما فعلتِ لن أغادر.
-لتذهب معي بَينما أحادثك بهدوء.
-ناكرة للمعروف.
-لا تجعلني أجبرك، حينها سيحترق فؤادك على أموالك وكل الثروة التِي جمعتها طيلة حياتك.
-ولأني ناكرة للمعروف، لن أشعر بالندم أو الشفقة نحوك.
ألقت كلماتها ونهضت لتغادر الغُرفة بَينما هو أردف بغضب وضعف وعجز:
-أكرهك.
ألقى الكتاب ليرتطم بالأرض بقوة على قدرغضبه وهبطت عَبراته ضعفًا وعجزًا، إنها تحرق روحه وتؤذيه ليردد داخلهُ ليته لمْ ينجبها، إنها بمثابة خطأ ليتها لمْ تأتِ لتِلك الحياة يتمنى لو أنه قطع أنفاسها بعد أن وُلدت مباشرةً.
دلفت إلى غُرفتها لتخلع ثيابها قطعة تِلو الأخرى أثناء ذهابها للحمَّام حتَى اِنْتهَى الطريق بحوض الاستحمام والتِي جهزته الخادمة سلفًا لأجلها، لتغوص بداخله وَتغلق جفناها تستمتع بخمس دقائق مِن الراحة، هِي فتاة يُغـادرها كُل شيء حتَى النوم... إنها مُصابة بالأرق لا تنام إلا نادرا أو إذا تناولت حبوبًا مهدئة ولا أحدا يعلم عن ذلك الأمر.
أتى موعد السفر، كان يرتدي ثيابه ويجلس على مَقْعده المتحرك عابس الوجه إنه مُجبر على إتباعها؛ حتى لا تنفجر بِه إنها مثل القنبلة المؤقتة ستنفجر بأي لحظة ممكنة وأول مَن سيُؤذى هو.
هبطت على درجات السلم تنظر لأرجاء المنزل، هذا البيت مَن شاهد كُل طفولتها وبرائتها وذكرياتها، عاصرها منذُ أن كانت طفلة حتى أصبحت فتاة يافعة بالسابعة والعشرين... فتاة يمكُنها حرق الأخضر واليابس ولكِنها هادئة... هادئة بِـشكل مزعج ومريب.
تقدمت إليه تقْبض على مقبضيّ مَقْعده واِتْجهت بِه للخارج بَينما هُو كان ينظر للمنزل متأثرا لتنبس بقولها وهي مندهشة:
-مَن يرى حزنك يظن أنك تحترم الذكريات.
-لقدْ تعبت كثيرًا لبنائه، يا ناكرة المعروف.
-بنيته مِن الخارج وَنسيت أن تبني داخله تركته هشًا وضعيفًا.
ساعدها مُرافق أبيها ليضعه بالسيارة وصعدت إليها، كانت تجلس فِي الأَمام وهُو خلفها زجاج كُـل منهُمَا مفتوح يطل على المنزل يحمل كلاهُمِا مشاعرً مختلفة ولكِن المؤكد أن كليهُما يحمل داخله الكرهُ سَواء للآخر أو للمنزل.
صعدت إلى متن الطائرة وَكانت تجلس فِي مَقْعد بمفردها جانب النافذة بَينما أبيها ومُرافقه يجلسان بجانب بعضهم البعض وكان يطالعها بغيظ؛ لأنها تعلم أنه يحب النافذة ولكِنها أبت أن تجلسه بجانبها لتنظر إليه وتلوح بيدها وتعود لتقرأ ذَلك الكتاب بيدها، ليهوى قلبها كُلَّما أقترب موعد الهبوط كلاهما يحتفظ بذِكرى واحدة سيئة عَنْ تِلك البلد.
هبطت الطائرة بمقرها لتترجل مَنها ومَا أن أبصرت الشمس حتى أغلقت جفناها تستمتع بذلك النسيم لتتطاير خُصْلاتها وتزعجها؛ لذا أَخْرجت مِن حقيبتها الصغيرة ربطة الشعر لتُجمّع خُصْلاتها للأعلى بواسطتها ما عدا عدّة خُصْلات قدْ تمردوا، هبطت للأسفل فِي اِنتظار أبيها ومرافقهُ وَتقدمت لتُنْهِي كافة الإجراءات بَينما كان باِنتظارهم طارق الذِي سُرعان مَا فتح لها الباب لتصعد إلى السيارة ويجلس بجانبها أبيها بَينما بالأمام كلٍ مِن طارق ومُرافق أبيها الذِي يُدعى مارك.
هتف طارق يقول باِبتسامة ويرحب بِها:
-أنرتِ، سيدة جُلَّنار.
-أشكرك.
قاد السيارة باِتجاه فيلا صغيرة اِسْتَأجرتها لتمكث بِها مدة بقائها هُنا هِي وَأبيها، كانت جميلة للغاية بحديقة صغيرة مملوءة بالورد وحيّ هادئ كانت كما طلبتها بالضبط.
-تِلك مفاتيحها، إن أردتِ شيئا أخر هاتفيني.
-حسنا، يمكنك الذّهاب.
أشارت إلى مارك؛ حتى يفتح الباب لتتجه حيث أبيها وتمسك مقبضيّ مَقْعَده بَينما هو أردف باِنفعال:
-أنتِ ستعاقبين.
-أيعقل أنك نسيت أفعالك بتِلك السهولةّ!
-قاسية.
قالها بغضب لتنبس بقولها تعلق عَلى كلمته:
-قسوتي تِلك ورثتها عَنك.
نبس بقوله وهي تجر مقعده للأمَام:
-أنا مِن ساعدك عندما كُنتِ تبكين كل ليلة بغُرفتك تمتنعين عَن الطعام والشراب.
علقت على حديثه وهي تُطالع المكان مِن حولها:
-ليتك لم تفعل.
لتُكمَل حديثها بنبرة لم تصل لمسامعه:
-رُبما كُنت اَحْتفظت بِبرائتي.
كان المنزل يتكون مَن طابق واحد يحتوي على خمس غُرف ومطبخ يطل على غُرفة المعيشة الكبيرة وحمَّام لغُرفتين فقط بالإضافة لحمَّام إضافي جانب المطبخ وإحدى الغُرف الخمس تحتوي على مائدة طعام ومجلس صغير.
دلفت لتفحص الغُرف وتختار غُرفتها والتِي كانت الأكبر، لتردف قائلة:
-مارك، ضَعْ حقائبي بغُرفتي ثم تعالَ لتعتني بِه.
أومَأ برأسه وَاِتْجه إلى حقيبتها ليحملها ويضعها بغُرفتها ليتجه نحو أبيها يغادر بِه للغُرفة المجاورة ويساعده فِي تبديل ثيابه، ليستلقي على الفراش ويضع مارك الغطاء حوله.
جلست على الفراش تتنهد وتتساءل داخلها لِمَ عادت، أتظن أنها ستجد هُويتها المفقودة!
_______________________________
اَسْتَعدَ تميم للمغادرة وجلس ليرتدي حذاءه الرياضي ويتجه للخارج ليصطدم بأمه التِي تساءلت بحدة:
-إلى أين؟
-للخارج.
-برفقة مَن؟
-أصدقائي، يا أمي.
-لِمَ تسألين!
-كن حذرًا.
اِقْترب مِنها تميم ليعانقها ويُقبّلها لينبس بقوله:
-لا تقلقي، أحبك.
تركها وغـادر بَينما هِي كُلّما خرج كُلّما شعرت بالتوجس والخوف إنه اِبْنها ولكِنه لا يُميز بَين الخطأ والصواب يفعل مُصيبته وَيعود مرتجفًا يلقي همَّهُ إليهُمْ.
_______________________________
اِنْتَهَتْ مِن اِرتداء ثيابها وَاِتْجهَتْ للخارج لتجد مارك يُعِدّ طعام العشاء لأبيها تقدمت مِنه وتساءلت:
-كَيفَ حاله؟
-بخير.
-خُذه للطبيب بالغد، وَأخْبرني إن طَرأَ شيئًا.
-كما تأمُرين.
تركته وغـادرت لتجد طارق يقف أمَام باب المنزل باِنتظارها لتصعد مَعه للسيارة ليتجه بِها نحو المول التُجاري والذِي أصبح جاهزًا للافتتاح، وقفت أمَامه تطالعه بأَعْيُن منبهرة، لطَالمَا كانت تحلم بأن تُقِيم مولا تجاريا باِسمها يمتلك شتى السلع ومنقسم لعدة أقسام ولـكُل قسم مِنه غاية وحلم.
كانت تنظر بفخر للمول وَصعدت درجاتهُ واحدة تِلو الأخرى لتدلف للداخل تنظر للأرجاء مَا زالوا ينقلون السلع والبضائع.
تجولت فِي طوابقهُ السبعة يوجد اِسمها على كل محل وكل مقهى، لطَالمَا أرادتْ أن يُذكر اِسمها ويتردد على ألسنة الناس «جُلَّنـار» فِي قاموسها اِسم يعني الثقة وَالانتقام؛ اَنْتَقمَت لـنفسها تِلك الفتاة القديمة التِي كان ينهال والدها عليها بِـ حزامهُ رغْم تقدّم وتحضّر البلد التِي كانوا يسكنون بِها.
كان يستمع لصوت بُكائها بأرجاء المنزل ويهددها إن لمْ تصمُتْ سَيُعِيد الكَرة مرة أخرى.
-أشكرك، يا طارق.
-مسرور؛ لأنه نال اِسْتحسَانك.
صياح إحداهُنَّ باِسمها أيقظ مشاعرً لطَالمَا أخفتها داخلها ولمْ تبُحْ بِها لأحد.
-جُلَّنار.
مَا زالت تمتلك نفس القدر مِن الجمال ولكِن بإضافة القليل مِن التجاعيد والتعب والإرهاق، كَسَا الفقر حياتها ولكِنها مَن اِخْتَارتْ أن تتخَلَّى عَنها لتنقذ نفسها مِن الهَلاك الذِي تركتها داخله بمفردها.
لتتساءل دَاخلها لِمَ تَجَمعّتْ الدموع بمقلتيها مَا أن سمعت صوتها وَرَأَتها؟
لِمَ مَا زالت تسيطر عليها وعلى مشاعرها بذَلك الشكل المؤذي؟
حاولت تِلك السيدة التقدم مِنها ولكِن رجال الأمن يعارضونها لتصرخ باِسمها وتبكي، وَلكِن جُلَّنار اَرْتَدتْ نظارتها السوداء وَتجاهلتها لتتجه نحو السيارة التِي فتح طارق بابها وَكادت أن تستقلها حتَى أردفت تِلك السيدة بقولها:
-أنا أمك، لا أستحق أن تُعامليني بذَلك الأسلوب.
اِبْتَسمَتْ بسخرية وهِي تُعْطِيها ظهرها لتخفض نظارتها عَن عينيها وتتقدم نحوها تنبس بسؤالها:
-أَ أنا كُنت أستحق!
-أنا أحتاج مساعدتك.
-اِنْظري إلى عيني بتمعن، ماذا تَرَيْن فيهُمَا؟
-أَ أنا بهذا الغباء الذِي قدْ يجعلني أستمع لكِ ولعَبراتك الزائفة!
-أنا اِبْنة عُمر المصري.
-ألقوا بِها خارجًا، لا أريد رؤيتها هُنا.
-لا تشبهينه، لا تكونين قاسية مِثله.
عقبت على كلماتها وهِي ترتدي نظارتها بَينما تعابير وجهها جامدة ومتجهمة:
-آسفة، وَلكِن لمْ يعلمني أحد شيء سِوى القسوة.
صعدت إلى سيارتها ليقودها طارق ويتجه إلى وجهة غير مُحددة، فهي لمْ تَخْبره سِوى بأنها لا تريد العودة للمنزل الآن، لقدْ تخطى الوقت مُنتصف للليل بَينما هِي مَا زالت تستند برأسها إلى النافذة الزجاجية للسيارة تغلق جفناها تستمتع بذَلك النسيم الذِي يضرب بشرتها برفق.
لا تعلم كَيفَ صار الأمر حتِى وجدت السيارة تُقْلَبْ رأسًا على عقبٍ وهِي داخلها لتصطدم رأسها بالنافذة وتسقط دَاخل السيارة المُنْقلبة على أحد جوانبها وتستسلم لذِلك الظلام الذِي دَاهمها وتغلق جفناها ببطء وآخر مِا سمعته صوت أحدهم خارج السيارة.
.
بقلم/سلسبيل كوبك.
.
.
يتبع
_______________________________
أنت تقرأ
بِـلون الدم
Randomلكُلٍ مِنْا جَوارحهُ التِي تَنزَف دَاخلهُ بِقوةٍ مِنذُ سنوات وَلكِن لا أحد يراها؛ لأننا نَحكمُ الغَلقُ بِشدَّةِ وَكأننا نخافُ أنْ يَسْقطَ نَزِيفُنا بالأرضِ، فيتلطخ بِه أحدٌ. هو قَررَ مُشارِكتها لِنَزِيفها بأنْ يكونَ إناءٌ تُفْرِغ بِداخلهُ مَا كَتمته...