الفصل الرابع والثلاثون

77 5 2
                                    

نكمل روايتنا بِـلون الدم.
بقلم/سلسبيل كوبك.
الفصل الـ٣٤..
_______________________________
كانَ يقف أمَام غُرفتها يستمع لحديث الطبيب عَن اِرتفاع ضغط الدم عندها نظرًا لتقدمها فِي السن وظهور الأمراض المُزمنَة مِن ضمن مراحل التقدم، شكره ليل ونظر نحو مارك الذِي كانَ يجلس على المَقْعد أمَام الغُرفة ليتساءل بقوله:
-كيف علمت بمرضها؟
-كانت قد طلبت مِني أدوية لم أعلم مَاهيتها، ظننت الأمر عاجلًا؛ لذا هاتفتها على أمل أن تكون مستيقظةً ولكِني وجدت المكالمة فُتِحَت دون إجابة مِنها، فهرولت سريعًا لـها وأخبرت سمر لتُخْبر السيدة جُلَّنار، ولكِنها أخبرتني أنها فِي المشفى.
-هل جُلَّنار كانت تعلم مكان اختبائها.
-لقد أعطتها منزل السيد عُمر، رأت أنه لن يُخِيل عليه الأمر أبدًا.
تنهد ليل وجلس على المَقْعد بجواره يتساءل كيف اِسْتَطَاعتْ الاهتمام بكافة الأمور وحدها، هتف يتساءل:
-هل كُنت تعلم بِـ حملها؟
صمت مارك ليستشف ليل الإجابة يبدو أنه كان المغفل الوحيد، تنهد بضِيق ومَسَح على وجهه ليقول مارك مبررًا موقف سيدته:
-كانت مُجبرة على إخفاء الأمر.
-كانت تعلم أنها ستؤُذِيك أكثر إن غادرت وأبعدتك عَنْ ابنك؛ لذا قررت عدم إخبارك حتى لا تتعلق بالطفل وتُظلَم.
ليس مبررًا ولمْ يقتنع بِـه، إنَّ ما تحمله فِي أحشائها قطعة مِنه ودمائه تسرى فِي عروقه، كيفَ كانت ستخفي أمرًا كهذا، تجعله يعيش فِي وَهم هجرانها لـهُ وتستمتع بمفردها مَع ابنه الذي لطَالمَا حلم بتكوين أسرة مِن خِلاله.
أخبرهم الطبيب موعد خروجها سيكون فِي الصباح؛ لذا لا داعٍ مِن بقائهم، ليقرر العودة للمنزل حيث يوجد سليم والبَقية، ولكِن لا يَعْلم ما أصَابه لينعطف لليمين فِي طريقه لها رغْم شعوره بالخُذلان مِنها، ولكِنه يشتاق لـها ولطفله، ليظهر طيف اِبتسامة على ثغره سُرعان ما أخفاها فِي محاولة مِنه للسيطرة على مشاعره.
على الجهة الأخرى، كان الوقت متأخرًا لمجيء أحد لزيارتهم.
نهضت أفنان وكذلك نور لتتساءل أفنان مِن خلف الباب عَنْ هُوية الطَارق لتُجيبها قائلة:
-جُلَّنار.
نظرت أفنان نحو نور ثم عادت للباب تفتحه وقد اِرْتسمَتْ بَسمة على ثغرها، كادت أن تُرَحب بِها حتى وجدتها تندفع للداخل تهجم على عُنق نور ودفعتها للجَدار خلفها تهتف بغضب:
-أَ قُمتِ بخداعي؟
-هل تجرأتِ وفعلتيها؟
وقفت أفنان بجانبها تحاول دفع يدها عَنْ نور، ولكِن وكأن كُل الغضب تمَركز فِي تِلك القَبضَة، إنها ضحت بكُلِ ما تَملُك فِي سبيل العَدالة وإعادة حقها، ولكِن أن يصبح كُل شيء كذبة جعل رأسها يثور كالبُركان.
-ماذا حدث، يا جُلَّنار؟
-ألستِ الرأس المُدّبِر!
-كُل تِلك الأحداث رُبما حدثت مِن تخطيطك.
-اتركي ابنتي.
-وأنا ماذا كُنت!
هتفت نور مِن بَين اِختناقها وأنفاسها الأخيرة:
-أفلتيني، لا أستطيع التنفس.
تبادلت النظرات بَينهُما كانت أفنان تحاول أن تدفع قبضتها بَينما نور تحشر أظافرها داخل جلد يدها فِي محاولة منها لإبعادها.
أفلتتها لتعود للخلف بضعة خُطُوات تحشر أصابعها داخل خُصْلاتها وتنظر نحوهما باِشمِئزاز لتهتف ساخرة:
-لِمَ لمْ تخبريني أنك مُغَفلة مِن البداية؟
-ضحك عليكِ بكُلِ سهولة.
-كذب وافتراء.
هتفت بِها نور التي كانت تُدَلك عُنقها أثر قبضة جُلَّنار الحديدية والتِي تركت بقعة حمراء ظاهرة، لتنهض وهِي تردد تِلك الكلمات:
-هراء، كُل ما تقولينه هراء.
-لستُ مُغَفلة.
حقا! إنها تنكر خطيئتها وتقف أمَام وجهها تُعاندها لتقترب مِنها وقد ظهرت مَلامحها أكثر فِي تِلك المنامة الحريرية، بَشرتها باتت نضرة أكثر عَنْ ذِي قبل، تتحدث بنبرة قوية تعجبت مِنها جُلَّنار.
هل الثَراء جعلها بذلك الشكل حقًا أم أنَّ الوقاحة ورثتها مِن أمها؟
-فِي حين أنك كُنتِ تنامين على سريرك بفراش مِن الحرير، كُنت أنام فِي الأرض أشكو مِن قسوة البرد.
-فِي حين أنك كُنتِ تذهبين إلى أفضل المدارس والجامعات، ذهبت للجامعة فِي مِنحة ذُلِّ أبي للحصول عليها.
-فِي حين أنه كان هناك ما يخدمك، كان علَىَّ فعل كل مَا أُريد بنفسي.
-فِي حين أن ثيابك تُصنَع خصيصًا مِن أجلك، كُنت أذهب لشراء ثياب مُستعملة.
-حتى أنك حصلتِ على ليل وأنا لمْ أحصل على أخيه أو عليه.
-لطَالمَا كُنتِ أفضل مِني.
صرخت فِي نهاية حديثها بَينما جُلَّنار مندهشة مِن الحقد الذي تَكنُه فِي داخلها نحوها، وقفت أفنان حائرة بَين كليهما تستمع لكلمات ابنتها وللعجيب لمْ تأخذ صف جُلَّنار تِلك المرة أيضا بَل اِنْضمَت لصف ابنتها، لتُكمل نور تقول:
-كان علَىَّ أن أبذل مجهودًا مضاعفًا لكسب رضائها؛ حتى لا تشعر بأنها تفتقدك ولكِنها لطَالمَا كانت تبحث عَنكِ وعَنْ صورك، كانت تُشعرني بالنقص.
-أنتِ لستِ أفضل مِني.
-بَينما كُنتِ تعيشين فِي ثَراء فاحش، كنا نُطْرد مِن مَنزلنا ونبقى داخل أزقة تسكُنها الفئران فقط.
-كان علَىَّ شَقَّ طريقي وأبحث عَنْ طريقة للثراء، لمْ يخطر بِبَالي سِوى تميم.
-كان علَىَّ كسب رضائه ليُحبني، ولكِني لمْ أكن سِوى فتاة مِن اللاتي يعرفهُنَّ.
-ولكِنك وجدتِ مَن يحبك أيضًا.
-دوما تكونين أفضل مِني فِي الحياة، وكذلك الحُبَّ.
تقدمت نور مِنها لتقف أمامها مباشرةً عقب أخر كلماتها بَينما جُلَّنار لا تصدق ما تسمعه أذنيها.
الحقيقة مؤلمة وحقيقة أن تضحيتها ذهبت هباءً تُؤذيها، بالتأكيد إنسان مثلها يبحث عما عند الآخرين ويفرح لحُزنهم ويطمع بالثَراء بذلك الشكل المريض لدرجة خداع كُل مَن حوله لا يستحق العيش فِي تِلك الدُنيا، إنها كذبت فقط لتصبح ضحيةً وراهنت على حياتها بالكامل فِي سبيل زواج رجل ثري كـ تميم بفتاة مثلها، ليتها كانت فقيرة ماديًا فقط، ولكِنها أيضا تفتقر للمبادئ والخُلق الحسن.
-رُبما كان عليكِ البَقاء فِي السجن مدى الحياة.
عند ذلك الحَدّ ولمْتستطع جُلَّنار سماع المزيد، لتهتف فِيها صارخة:
-لقد ضَحيتْ بِي وبِـ طفلي، وذهبنا للسجن في سبيل عدالتك، ولكِنك الآن تقولين ليتني بقيت هناك مدى حياتي!
-هل تري نفسك تستحقين بعد كل ما فعلته مِن أجلك!
-أنا ضحيت بلحظاتي السعيدة مَع زوجي وفرحتنا بأول طفل أحمله داخلي، وبدل الذَّهاب مَعه لمعاينة الطبيب مكثت فِي السجن لأكثر مِن أسبوعين.
كانت الصدمة مِن نصيب أفنان ونور بخبر حملها، وقد رَقَّ قلب أفنان لـها بَينما نور هتفت بذهول:
-حتى في هذا تفوقتِ علَىَّ؟
-لقد أجهضوني بَينما أنتِ طفلك فِي حالة سليمة.
ماذا! أحقا تستمع لتِلك الكلمات مِن ثغر تِلك الحمقاء!
إن جَمعتْ كُل الصفات البذيئة لتصفها بِها لن توّفيها حقها، رفعت يدها نحو مقدمة صدرها تدلكه لعل ذلك الاختناق يزول، ولكِنه لم يكن مجرد اختناق كانت نيران تأكل فِي جسدها مِن الداخل لتشعر وكأن هناك يدًا تتحرك داخل جسدها تعتصر قلبها بقوة بَينما يدًا أخرى تعتصر معدتها، لتغلق مقلتيها وهِي تنحني للأسفل قليلا تئِن، انتبهت لكلمات نور والتِي يبدو أنها ذهبت لإلتقاط شيء وعادت:
-تِلك المرة على الأقل يجب أن نكون متساووين.
جحظت بعينيها عند رؤيتها لذلك السكين فِي يدها بينما أفنان هتفت بذهول:
-نور، كوني عاقلةً.
-لقد لغيت عقلي قبل سابق.
تجمدت جُلَّنار فِي مكانها وهي ترى نور قادمة نحوها فقط تعابير وجهها التي كانت تتبدل من الذهول للخذلان للخوف، شعرت بيدٍ تُحِيط خصرها يقف صاحبها أمامها يحميها بجسده ولم يكن سِوى ليل الذِي دفعها قليلا لليمين، بينما نور سقطت بالأرض حيث كانت تجري بأقصى قوة عزم حصلت عليها ونظرًا لتَحَرُك جُلَّنار وليل بعيدًا حتى اصطدمت بالهواء لتسقط.
رفعت جُلَّنار بَصرها نحوه ليرى عَبراتها متجمعة داخلهما بَينما هناك بعض الاحمرار يُزينها، نظرت نور نحوهما وهتفت تقول بصراخ:
-لم يكن هناك شخصًا يحميني حينها، لِمَ هو يحميكِ!
-رُبما لأنها ليست أنانية مثلك.
تحدث ليل وهو غاضب مِن تِلك التي هدمت عائلته ولم يُكفيها الأمر كادت أن تقتل زوجته وطفله، تقدم مِنها بينما هي زحفت للخلف تقول:
-أنا لست أنانية، أنا أفضل مِنها.
-لم يكن عليها أن تُولَد، كان علَىَّ أن أحصل على ثرائِها.
-كان علَىَّ أن أصبح زوجتك أو زوجة تميم.
-كان يجب أن أكون فِي مكانها.
-كان يجب أن تكون ثيابي مِن حرير وليست بَالية.
-كان علَىَّ أن أنعم بتِلك الحياة بدلا مِنها.
صرخت فِي نهاية حديثها وأيضا نهاية الطريق حيث اصطدم جسدها بالجدار مِن خلفها، لينحني ليل نحوها قابضًا على خُصْلاتها يرفعها لتصبح فِي مستوى قريب مِنه يقول:
-لم يجرؤ أحد على إيذاء زوجتي مِن قبل ولن أسمح بهذا.
-رُبما عدم وجودك سيكون أفضل، أليس كذلك؟
تألمت نور أثر قبضته الفولاذية الغاضبة على خُصْلاتها، بينما أفنان جرت نحو جُلَّنار تهتف بذعر:
-جُلَّنار، أخبريه أن يتركها.
-إنها فتاة صغيرة لا تفقه شيئا.
-أرجوكِ.
الخذلان مِن غريب مُرّ فماذا إن كان قريبًا وليس أي قريب، هو شخص اِرْتبطتْ بِـه مِن العدم منذ أن خُلقَتْ نطفة داخل أحشائه ربطك حبل بَينك وبَينه، تساءلت كثيرا فيما سبق عمَّ إن كانت تسأل عَنْها أو تشتاق له‍ا أو حتى حَبَّتها، كانت تتمنى لو أن لها نصيبًا فِي قلبها ولو حتى مِثقال ذرة.
بينما هِي مَن كانت ستموت لكِنها تهتم لأمر نور، وبَينما كانت مُلقية فِي السجن كانت تنعم مَع ابنتها فِي ذَلك المنزل الذِي اشترته بمالها ومال أبيها.
أفاقت مِن شرودها وانتبهت إلى أفنان عندما وضعت السكين على عُنقها ووقفت خلفها تقول:
-اُتْرُك ابنتي وإلا قتلتها.
أفلت نور لتسقط بالأرض ووجها مُدمي أثر صفعاته المتتالية على وجنتيها، أردف يقول:
-اُتْرُكِيها.
رفعت جُلَّنار يدها حيث يد أمها لتقبض عليها وتتحكم هي فِي السكين لتُقربه أكثر نحو عُنقها حتى غرز فِي جلدها لتسيل الدماء بَينما هي أردفت:
-لا داعٍ لفعلها، لقد قتلتيني مرة مِن قبل.
-رُبما علَىَّ فعلها أنا الآن.
حاولت أفنان تحرير يدها إنها لا تنوي على قتلها فقط كانت تُخيفه، لتعتدل نور فِي جلستها بالأرض وتنظر لهم تُصَفق بكلتا يدها وعلى وجهها اِبتسامة مُتسعة لتقول:
-وها أخيرًا قد رأيتك تكرهينها، ماذا تنتظرين! اقتليها.
-أيتها المجنونة!
هتف بِها ليل وهو يتقدم مِن جُلَّنار يقول:
-أفنان، لا تُؤذِيها وأنا فِي المقابل لن أُؤذِيكم.
-اُتْرُكنِي أنا واِبنتي.
-لن تقتليها، يا أمي؟
هتفت بِها نور بعبوس، كانت جُلَّنار غائبة عنهما تتذكر تِلك اللحظات التي كانت فِيها وحيدة تجلس على مائدة الطعام على أمل عودة أمها وأبيها ليشاركونها طعام العَشاء، ولكِن أمنية كتلك كانت مِن المستحيل الذي لا يتحقق بَينما نور كانت كل يوم تتناول معهُما وتعيش أسفل سقف واحد يضم ثلاثتهم فِي حين أنها تُرِكَتْ ليالٍ وأيامٍ بمفردها في منزل واسع مِن الخارج ولكِن جدرانه تضيق عليها مِن الداخل.
أفاقت مِن شرودها أثر جرحها الذي اتسع بسبب قبضتها التي كانت تضغط أكثر بالسكين للداخل، لتنظر نحو ليل الذي يُنادي باِسمها لتُقَلل ضغطها مِن القبض على يد أفنان، كانت حُجَّة للشعور بالدفء لطَالما يقولون أن الأم دافئة ولكِنها شعرت بالعكس.
ابتعدت عَنْها ولتلتقطها ذراعيّ ليل ويرفع يده نحو وجنتها يتساءل:
-جُلَّنار، أنتِ بخير؟
-لا تقلقيني عليكِ.
وضعت رأسها على صدره لتغلق مقلتاها بَينما هو وضع يده على جرحها يمنع تدفق الدماء هتف يقول:
-لنذهب مِن هُنا.
كاد أن يَخْرُج بِها حتى هتفت نور تقول:
-أنتِ هي السبب.
دفع جُلَّنار للخارج فِي محاولة مِنه لحمايتها، ولكِنهما تفاجئوا حينما قبضت على السكين وغرزتها فِي جسد أفنان، كانت الصدمة مِن نصيب جُلَّنار التي تصلَّبَ جسدها ونظرت نحوها وهي تسقط بالأرض وأسفلها بقعة مِن الدَّماء بَينما السكين وقع مِن يد نور وتراجعت للخلف تنظر لأمها التي أدارت رأسها باِتجاه جُلَّنار وتسقط مِنها إحدى عَبراتها تبتلع تِلك الغصة المريرة فِي حلقها، لمْ تكن تتوقع أن تقتلها اِبنتها بيدها.
مَدّت يدها باِتجاه جُلَّنار تحثها على المساعدة ولكِنها تراجعت عدة خُطُوات للخلف، لم تنتبهِ لكل ما حدت تاليًا فقط تركيزها وبَصرها باِتجاه تِلك الجثة الهامدة بالأرض أمَام عينيها.
لا تعلم كيف ومتى أتت الشُرطة والإسعاف ينقلونها للخارج، بَينما نور مُعلق بيدها الأصفاد والغريب أنها هتفت تصرخ...
«غادروا منزلي، لن أترككم فيه، ليس بَعد أن ذُقت ذَلك النعيم.»، وكلماتٍ مِن هذا القبيل.
إنها مَوَّلعة بالثَراء والغِنى كذبت على الجميع وقتلت أمها فِي سبيله.
الأصوات خفتت والرؤية ضبابية حتى الكلمات باتت غير واضحة لا تعلم ما أصابها، ليعود مجال الرؤية واضحًا أكثر عَنْ ذِي قبل ولكِن مهلا كيف عادت للمنزل بتلك السرعة؟
مَن فعل تِلك التجديدات فِيه تستمع لضحكات أشخاصٍ لمْ تتعرف عليهم لتسير باِتجاههم، ولكِنها توقفت أمَام المرآة تُطالع هيئتها بعدم تصديق متى برزت بطنها بِذلك الشكل! وجدت مَن يستند بفكه إلى كتفها يقول:
-هل تتذمرين ثانيةً بسبب هيئتك!
-متى حدث هذا؟
-أ تُريدين تذكيرك قولا أم فعلا!
-ليل!
ابتسم وقَبّل كتفها ليبتعد متجها للمطبخ يقول:
-اذهبي لأبيكِ لقد عاد.
أبي! كيف للأموات أن يعودوا!
بحثت عَنْه فِي كل إنش داخل المنزل حتى اِسْتمعَتْ للضحك مرة أخرى وحينها حددت مصدره إنه في الخارج، فتحت الباب على مصرعيه وصدرها يعلو ويهبط بعُنف إنها تشتاق له وجدته يُعطِيها ظهره يلاعب إحداهُنَّ لم تتعرف على هُوية الفتاة ولكِنها هتفت:
-أبي.
أدار جسده لـها ولم يَكُف عَنْ الابتسام بدّلت نظراتها لتِلك الفتاة التي تشبهها توح لها بيده تقول:
-أمي، جدي أحضر لي هدية.
رفعت يدها نحو معدتها بعدم تصديق لتجدها بارزة مكانها...
متى أنجبت؟
ومتى حملت ثانية؟
وكيف أبوها يتواجد أمامها؟
تساؤلات عدة فِي رأسها، جرت تِلك الفتاة الصغيرة للداخل بَينما هِي تقدمت نحو أبيها تتساءل بذهول:
-كيف عُدت؟
رفع يده لتنظر لموضعهما لتجدها مُدمية تراجعت خُطْوة للخلف لتصطدم بجسد إحداهُنَّ أدارت جسدها لتجد أفنان ولكِنها كانت بالكامل مُدمية هتفت بكلمة واحدة:
-اُعْفِي عَنْي.
فُزَعتْ عندما وجدتها تقترب مِنها لتبدأ تتراجع للخلف حتى اِنْزلقَتْ قدمها لتسقط بالأرض وتصرخ، أحاطت معدتها بيدها كآلية للدفاع عَنْ طفلها وتغلق مقلتيها تردد:
-ابتعدي، ابتعدي أنا لم أُؤذكِ.
فتحت جفنيها بفزع لتطالع السقف تتناثر حبيبات العرق بغزارة على جبهتها وعنقها ووتيرة أنفاسها ليست طبيعية، اِعْتَدلتْ فِي نومتها تضع يدها على معدتها تتفقد طفلها ولكِن عادت معدتها مسطحة كما في السابق، أزالت الغطاء بعُنف وكادت أن تغادر الغرفة حتى وجدته يدلف للداخل يتساءل:
-أنتِ بخير؟
-ماذا تفعل هُنا؟
-غادر.
ظهرت حياة مِن خلف ليل تتقدم نحو جُلَّنار التِي كانت تنتفض ويدها ترتجف وقد التصقت خُصْلاتها بجبهتها بفعل العرق، لتُزيل حياة خُصْلاتها للخلف لتتشبث بِها جُلَّنار وتعانقها بقوة بَينما ليل نظر لحالها وحَزن وخاصةً أنها لم تستعِن بِه في وقتها هذا، غادر يترك لهما قليل مِن المساحة.
_______________________________
كانَ فٓي طريقه للخارج ليِقابل ليل كما طلب مِنه، فتح باب سيارته وكاد أن يركبها حتى هتفت تِلك الصغيرة:
-أبي.
توقف عما يفعله ورفع بصره باِتجاه الصوت ليجدها أمامه واِبتسامتها تُزَيّن وجهها لتبَعثر قلبه هتف باِسمها مِن بَين شفتيه بذهول:
-مِيا!
نزعت يدها مِن قبضة أمها وركضت بأقصى قوة تمتلكها نحوه لتلتقطها ذراعيه اللائي رفعتها للأعلى يضمها له يقول:
-لقد اشتقت لكِ.
بدأ يوزع قبلاته على ثنايا وجهها بشُوق ولَهفة، رُبما لم يدرك مِن قبل ولكِن اِبنته هِي أغلى مَا فِي حياته، فمنذ أن عاد وهو يشعر بالفراغ وأن هناك مَا ينقصه، ولكِن برؤيته لـها جعلت بستان قلبه يُزْهر تتسارع نبضات قلبه وكأنه يحتضن بَين ذراعيه محبوبته ليست اِبنته، كانت اِبتسامته لا تفارق وجهه وهو ينظر لـها ويحفر تفاصيلها داخل حصون قلبه.
هتفت تِلك السيدة التِي تقدمت مِنه دون أن يشعر وكانت لهجتها أجنبية وكذلك لغتها لتردف بالاسبانية:
-مِيا، اشتاقت لك كثيرا.
نظر صوّبها لا ينكر اِشْتياقه لها هِي الأخرى، رفعت يدها نحو كتفه تربت عليه تقول:
-لقد علمت بِمَا أصاب عائلتك، فكرت أنك رُبما تحتاج لرؤيتها لتدعمك.
-شكرا لكِ.
اِبْتسمَت له ليبادلها خاصتها ونظر نحو ابنته ليمسح على خُصْلاتها الذهبية بيده يبتسم بحُب وحنين، عندما حدث اِنفصالهما كان يبدو وكأنه لا يهمّه الأمر ولكِن الألم كان يأخذ مكانًا فِي قلبه أثر فراقه عَنْها.
تبادل النظرات بَين كليهما ليقول:
-ما رأيك بأن ترتاحي قليلا؟
-سليم، أريد مخاطبتك حول أمرٍ مهم.
عقد حاجبيه معًا بِـ حَيْرَة وقد أشعلت بداخله توجس أثر نبرتها الخافتة تِلك، وكأن ما ستقوله لن يعجبه.
أخفض مِيا مِن ذراعيه يُنادي على الخادمة لتأتي لـه على الفور كانت قد سئمت مِن التحدث للجدران بملل، لم يعد أحد يأتي للمنزل أو يتناول الطعام داخله وكأن حُلَّت عليه لعنة جعلتهم متفرقين.
-خُذي مِيا واذهبي بِها للداخل.
ثم تحدث بالاسبانية وهو يوجه حديثه لـ مِيا:
-اذهبي مَعها، وسأعود بعد دقائق.
هزَّت برأسها وكانت تمتلك اِبتسامة رائعة أظهرتها لـه وبعثرت كيانه لتمسك بيد الخادمة التِي كانت منبهرة مِن جمالها الغربي بالكاد تقسم أنها دُمية وليست ابنة السيد سليم لتدلف بها للداخل بَينما سليم وطليقته ذهبا معًا للحديقة حيث يوجد مَقْعَد جلسوا عليه لتبدأ بحديثها تقول:
-سليم، ما أريد التحدث بخصوصه فِي غاية الأهمية.
-لا تقلقيني يا ماريا، هل هناك خطب بكِ أو بِـ مِيا؟
-الخطب ليس في مِيا.
رغْم أن العَلاقة بَينهما كانت سطحية ومليئة بالفتور ولكِنه قلق ليكون هناك ما أصابها:
-أهناك خطبًا بكِ؟ أنتِ بخير؟
هتفت تقول بعد أن أخذت شهيقًا قويًا وزفرته على أربع مرات:
-أنا سأتزوج الشهر المقبل.
صدمة لجمت لسانه كُلما حاول تحريره ليتحدث ويجمع كلمتين على بعضهم لتكوين جملة كُلما خانه التعبير.
بِمَ سيُجيب؟
وماذا عَنْ ابنته؟
_______________________________
كانت تجلس على السرير الخاص بِها تضع طلاء الأظافر على أظافرها اللامعة وتنظر للتلفاز أمَامها، كان المذيع يتحدث بالإنجليزية وهي تستمع لتِلك الجريمة التي حدثت داخل أزقة نيويورك بتركيز، حتى قاطعها دخول أمها تقول:
-اِنْهَضي لتتناوي طعامك.
-ليس قبل أن يجف طلاء الأظافر.
-حقا! إن لمْ تأتِ الآن لن تأكلين حتى يعود أبوكِ فِي المَساء.
-ماذا! ستتركيني حتى المَساء دون طعام.
-لا تتذمرين واِنْهَضي.
تركتها زينب واِتَجهَتْ للخارج لتلحق بِها جودي بعد أن أغلقت تلفازها، كان المنزل رائعًا اختارته جُلَّنار بعناية مِن أجلهم، وجدت أختها سندس قد بدأت دونها لتصرخ فيها تتهمها بالخيانة العظمي:
-كيف لكِ أن تتناولين لقمة بدوني! لقد علمت مِن البداية أنك خائنة.
-اِجلسي أيتها البلهاء، وأخبريني لِمَ تكاسلتِ عَنْ العمل؟
-لم أتكاسل ولكن.
صمتت هُنَيهَة حتى هتفت تقول بعدما رأت حاجبيّ سندس يرتفعان:
-فِي الحقيقة، الحياة العملية لا تروق لي سأنتظر حتى يأتي عريسًا مناسبًا.
-بَينما ستتزوجين أنتِ وأختي زينة مِن العمل.
-اصمتي.
-أين زينة؟ لا أراها.
-منذ أن أتينا لهُنا وهي قد اِنْشَغلت بالعمل مَع أبي لا نراها وأيضا لا نراه.
تلقت صفعة على مؤخرة رأسها يتبعها صوت أمها:
-لا تتحدثين كثيرا وتناولي طعامك.
-لِمَ تعامليني بعنصرية! كنت أعلم أنني لستُ ابنتك.
-نعم أنتِ لستِ ابنتي الحقيقة ليتني استبدلتك بقطعتيّ جبن.
تِلك العائلة التِي كانت على وشك الانهيار أثر كثرة التفككات داخلها وبُعد كل فرد عَنْ الآخر منشغلا بسياق الحياة اِسْتَطاعتْ ترميم جدرانها، أحيانا الهرب يكون حلًا للمشكلات.
السبب الذي وافق مِن أجله ياسر بالمخاطرة هو إنقاذ أسرته.
أصبحوا أكثر قربًا مِن ذِي قبل وُوُجِدَت لغة حوار بَينهما؛ لأنهم فِي بلد غريب لا يفقهون عَنه شيء، والإنسان يسعى جاهدًا للحصول على رفيق فِي تِلك الحياة ليُعينه على مواكبة الظروف والأيام.
عادت زينة برفقة أبيها فِي المَساء باتت تنغمس فِي العمل الذي قد نست أنها حصلت على شهادة جامعية مِن أجل مساعدة أبيها فِي العمل هذا كان هدفها الأول لالتحاقها بكلية إدارة الأعمال، ولكِنها تقاعست رغْم أنها الأكبر سنًّا ولكِن أن تأتي متأخرًا خيرًا مِن ألا تأتي أبدا.
تناولوا طعام العَشاء كأسرة طبيعية يتحدثون عَنْ كيف مَر اليوم سَواء فِي المنزل أو خارجه يتشاركون أطراف الحديث.
تجمّعوا ثلاثتهم وكانت قد أصبحت زينة هادئة أكثر وصامتة تشرد مِن حين لآخر توبخ نفسها على سنوات حياتها التي ضيعتها خلف ما يُسمى الحُبَّ وأتضح أنه كان فخًّا.
وكزتها جودي باِبتسامة تقول:
-فيمَ تشردين؟ هل هناك رجلًا ما يأخذ عقلك؟
-لا.
-ماذا بكِ يا زينة لِمَ تَبْدِي حزينة؟
تنهدت زينة ونظرت لأختها سندس التِي طرحت ذلك السؤال إنها ليست حزينة إنها فقط...
-أشعر بالندم.
-لقد ضيعت عُمري فِي حُبّ ليل تحت كلمتيّ العادات والتقاليد، فقط لأننا أبناء عم باتت عمتي يُسرا تخبرني أنه علَىَّ الزواج مِن داخل العائلة وكانت تُلَمّح لي عَنْ ليل.
-كانت ترمي بعض الكلمات كـ ليل منجذب لكِ، وكانت تجعلني أنجذب حتى وقعت فِي شباكها.
-لم أعلم ما غايتها مِن هذا ولكِني اِسْتَجبت، وهذا يجعلني نادمة لقد دمرت حياتي وحياتكم وحياة عائلتي حتى حياة ليل.
-يكفي أن نعترف بأخطائنا.
-هل تظنين ليل سيكون قادرًا على مسامحتي يوما؟
-الأهم أنك تسامحين نفسك، ثم كما تعلمين وسط الأحداث التي يتعرضون لها لن تجعله يفكر فِي خطِئك.
نظرت زينة لأخواتها لتندم ثانيةً على كل لحظة لم تكن موجودة فيها مِن أجلهم بالرغْم أنها كانت أكبرهم، ولكِنها كانت تسعى دوما لتحقيق مصالحها وكانت أنانية.
جذبتهم نحوها تحضنهم بقوة وتقبّلهم ليبتسموا ثلاثتهم، يمكنك كسر عود قصب واحد ولكِن عندما يتشكلوا عُصبة لن تستطيع مجابتهم وكذلك الأخوات هم أشبه بالعُصبة.
فِي الغِرفة المجاورة، كان يجلس ياسر على الأريكة تجاوره زينب التي هتفت تقول:
-لِمَ لا تتدخل، يا ياسر؟
-أظن أن الأحوال متدهورة، وأخوك فِي حاجتك.
-لقد اتصلت بِـ ليل أخبرني أنه لا داعٍ.
-إذا لِمَ أنت مثقل هكذا؟
تنهد ياسر ودلك صدغيه يقول:
-أنا قلق، الأحوال فِي مصر ليست بخيرًا، وأيضا أخاف على ليل خاصةّ بعد ما حدث.
-أنت تمتنع عَنْ الحديث، ماذا يحدث هناك يا ياسر؟
قصَّ عليها كل الحقائق التي ظهرت واحدة تلو الأخرى، ضربت مقدمة صدرها بتلقائية تعبيرا عَنْ دهشتها وصدمتها لذلك الحديث الذي يَخْرُج مِن زوجها.
-ما أن أخبرتني جُلَّنار حتى وافقت على طلبها وأنقذتكم حتى لا يصيبكم أذى.
-كيف لـ جُلَّنار معرفة كل هذا!
-لا أعلم.
-حمدا لله أننا أتينا لهُنا.
اِبْتَسمَ ياسر عليها ليقول بنبرة ماكرة:
-ألم تتذمري فِي البداية؟
صمتت خجلًا مِنه بالفعل هِي تذمرت كثيرا، ولكِنها لم تستطع معارضة رأيه وأيضا رأت أنه مِن المناسب لـ زينة الابتعاد عَن ليل وجلَّنار ورؤيتهما؛ لذا وافقت على مضض.
انحنى يَقْبض على يدها يقبِّلها يقول:
-شكرا لكِ يا زينب؛ لأنك لم تتركيني فِي المُنتصف.
-وشكرا لكِ؛ لأنك اختارتيني بالرغْم مِن عائلتي.
ربتت على يده القابضة على خاصتها تبتسم لـه بحُبّ، بالرغْم أنهما تزوجا زواج تقليدي رأى فيها فتاة على خُلق تصلح زوجة وأم، فسُرعان ما طلبها للزواج كانت قلقة فِي البداية ولكِنها وافقت والآن لم تندم أبدًا، كان أفضل زوج وأب والآن هِي باتت تعشقه حتى النخاع؛ لم يؤذيها يومًا أو يحِزنها على عكس فؤاد الذي كان يلقي كلماتٍ على مسامع جوهرة، فكانت تشفق عليها مِن قسوة حديثه وكلماته.
_______________________________
«يؤسفنا أن نبلغكم بأن الشرطة عثرت على فَتَاة فِي ظروفٍ غامضة داخل حاويات القمامة فِي الشوارع، يبدو أنه قبل قتلها تم الاعتداء عليها بالضرب وسرقة مقتنياتها، والآن الشرطة تُحقق في الأمر، تابعونا للمزيد من الأخبار.»
.
بقلم/سلسبيل كوبك.
.
.
يتبع
_______________________________

1)هل كانت أفنان تستحق أن تُقْتَل بتِلك الطريقة وعلى يَد اِبنتها التي ضَحت بكل ما تملكه في سبيل سعادتها؟
2)هل نور ضحية للفقر كما تزعم؟
3)فلتخبرونني مدى تأثير العادات والتقاليد في حياتكما، هل تستمعون لها أم تخالفونها؟
4)مَن الفتاة التي عثرت عليها الشرطة؟
فِيما يَخُصّ النقطة الرابعة لأعطيكم لُغز يُسَهل عليكم الإجابة...
•أملك مفاتيح الرجال سِوى مَن أريده..
•أعيش وهمًا تمَنيّتُ أن يصبح حقيقيًا..
•أملك أسرار الجميع، ولكِنها وحدها مَن تملك أسراري..
هل عرفتموها؟

بِـلون الدمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن