نكمل روايتنا بِـلون الدم.
بقلم/سلسبيل كوبك.
الفصل الـ٣٦..
_______________________________
لا يعلمون كيف أحاطتهم عناصر الشرطة مِن كل اِتجاه ليخفض ليل مُسدسه ويتساءل سليم:
-ماذ يحدث هُنا؟
أجابه أحدهم والذِي يبدو أنه قائدهم:
-السيد تميم فؤاد ليل الجندي أنت رهن الاعتقال.
هتف تميم باِسم ليل بذعر وخوف:
-ليل، لا تتركني.
قَبض على ذراع ليل بَبنما الضابط حاول وضع الأصفاد حول معصمه ليقاومهم، ليل وسليم كانا مندهشان عاجزان عَنْ صد ذَلك الأذى عَنْه ليحاول ليل التحدث للضابط المسؤول:
-هل يمكننا معرفة ما التُهمة الموجهة له؟
-قُدمَت بلاغات ضده، يمكنكم إحضار محامي مِن أجله، ولكِن صدقني القول تِلك المرة سُلطتكم لن تنقذه.
تركهم وغادر بعد أن أحكم غلق الأصفاد بَينما تميم كان يصرخ ويهاجمهم بقوة رافضًا أن يُوضع داخل عربة الشرطة.
-ليل، فلتفعل شيئا.
-سليم، سليم لا تتركني.
نظرا لـهُ حتى اِخْتفى مِن أمَامهما ووُضِع قسرًا داخل العربة بَينما صوته يصل لـهم يستنجد بِـهم، غادرت السيارة تزامنا مَع عبور أمير بوابة المنزل ليهبط مِنها ويتجه نحوهما متعجبا:
-ماذا يحدث؟
أجابه سليم:
-قُدمَت بلاغات ضد تميم.
-أعتذر عمَّا سأقوله، ولكِننا نواجه مشكلة أخرى.
نظر ليل إليه يحثه على الحديث بقلبٍ منقبض:
-السيد فؤاد قبل وفاته كان مَدينًا بمبلغ قدره عشرين مليون دولار لأحد الشركات فِي الخارج وما أن سَمَعتْ ما أصاب العائلة وأصابه رفعت دعوى للحصول على مالها.
رفع ليل يده نحو ربطة عنقه ليحررها ويفك أول زِر لقميصه كيف سيجابه تِلك الظروف كُلَّها بمفرده!
اِقْترب مِنه سليم يربت على كتفه يقول:
-لا تقلق، سنجد مخرجًا.
وجه نظره نحو أمير يقول:
-اجمع لي كُل ما نستطيع جمعه، وإن كان هناك شيئا يمكنك بَيْعه بِعْه.
-حتى مطعمي اِعْرضهْ للبيع.
-لنذهب نَحنْ يا سليم إلى تميم.
كُل مِنهُمَا ذهب لوجهته، بَينما على الجهة الأخرى كان تميم خائفًا ينظر حوله برِيبة؛ رُبما لأنه يعلم بِما اِقْترفه ويعلم تِلك المصائب التِي فعلها مِن قبل آن الآوان لتظهر ويُعَاقب عليها.
وقف أمام مكتب الضابط المسؤول والذي سأله:
-ما أقوالك للتُهم الموجهه لك؟
-أي تُهم! لمْ أفعل شيئا.
-حقا! واحد وعشرون بلاغًا مُقدمًا في حقك، بأنك أجبرت البنات للخضوع لك.
-صدقني لمْ أفعل.
-لمْ أجبرهُنَّ، هُنَّ مَن وافقَنَّ بإرادَتهُنَّ.
-أي أنك لا تنكر فعلتك؟
صُدم تميم وصمت هُنَيهَة بَينما كان يحاول أن ينفي التهمة عَنْه أعترف بأنه فعل معهُنَّ شيئا لا يهم الآن إن كان إجباريًا أو بالتراضي.
_______________________________
كانت تجلس على الأريكة تتناول مشروبها بالكاد تستطيع أن تتنفس بشكل طبيعي، فالحمل يؤثر على وتيرة أنفاسها.
كانت جوهرة فِي الداخل مَع سمر يحضرنَّ وجبة الغداء بينما مِيا تجلس جِوارها تلعب على هاتفها ليُطرق الباب، تركت الكوب مِن يدها على الطاولة ونهضت لتفتحه وكادت أن ترحب بِـ حياة ولكِنها عقدت حاجبيها عندما رأت عَلامات الحزن على وجهها لتتساءل:
-ماذا بكِ؟ أنتِ بخير؟
-لمْ تعلمي بعد؟
-ماذا حدث؟
-أرجوكِ لا تقولين خبر سيء.
-رُبما ليس سيئًا لكِ ولكِنه سيئًا لـ ليل.
هذا اسوأ إن كان الأمر يتعلق بِـها رُبما تتحمله وتفكر بهدوء، ولكِن مَا أن يتعلق بِـه قد تقلب الوضع رأسًا على عقب ولن يهمها أحد سِواه.
-ألقوا القبض على تميم.
اِسْتَندَتْ إلى الطاولة خلفها حاولت إخفاء اِبتسامتها، سَينَال عقابًا يستحقه بالرغْم مِن حزنها أنها لم تمتلك الفرصة لأخذ انتقامها مِنه، لتُكَمل حياة حديثها تزامنًا مَع خروج جوهرة مِن المطبخ:
-أخبرني أمير أيضا أنه مَدينًا لإحدى الشركات بمبلغ كبير.
عبس وجهها لتسألها:
-هل مبلغ لن يستطيع دفعه؟
-أظن هذا، وخاصةً بعد أسهمهم التِي اِنْخفضَتْ وأيضا المنزل الذِي اِحْترق، الوضع سيء.
قلقت عليه لتتردد فِي سؤالها عَنْه ولكِنها فِي الأخير تنازلت:
-هل هو بخير؟
-لا أعلم، أخبرني أمير ما حدث باِخْتصَار وأغلق؛ لأنه سيعرض مطعمه للبيع ويحاول جمع المال، فالسداد يجب أن ينتهي بحلول الشهر القادم.
نظرت جُلَّنار للتقويم فِي هاتفها لتجد أنه متبقى خمسة أيام على اِنتهاء الشهر، استأذنتهم لتتجه نحو غُرفتها تغلق الباب خلفها لتجلس حياة بجانب جوهرة التِي سألتها:
-فيمَ أُخِذَ تميم؟ بأي تُهمة؟
-لم يخبرني بعد.
-هل رأيتِ ليل؟
تساءلت بقلبٍ منفطر على اِبنها إنها لمْ تره منذ أيامٍ عديدة وهو الوحيد الذي يحمل كل همومهم على كتفيه ولم يشكو أبدا، ولكِنها تشعر بِه إنه حزين وخاصةً أن جُلَّنار تبعده عَنْها وعَنْ طفله فِي أحشائها وتُصَعِب على كليهما الحياة والعيش فِيها، فكل المصائب تَهُون إن تقاسمناها.
على الجهة الأخرى، وقف ليل أمام أخيه ليتقدم مِنه بضع خُطُوات يرفع يده يُهَنْدِم ياقة قميصه ليُراقب تميم تصرفاته بصمت ورِيبة أثر نظرات ليل الحَزينة وقد تلألأت بِفعل الدموع التي تجمعت داخل عينيه ليكسر حاجز الصمت بَينهما بقوله:
-أنت مَن سلكت هذا الطريق، يا أخي.
-جميعنا الآن عاجزين عَنْ إخراجك.
اِبْتَعد عَنْه تميم ليتراجع بضع خُطُوات للخلف وقد جحظت عيناه ماذا يقصد هل سَيبقى هُنا بتُهمة اِغْتصَاب الفتيات والتحرش بِهُنَّ، إنه نَشَأَ فِي مجتمع أخبره أن تُهمة كتِلك لا يُعَاقب عليها، وأن الفتيات ضعفاء لن تقوى إحداهُنَّ على فضح نفسها وعائلتها وأنهم سيلتزمنَّ الصمت خِشية أن يعايرهُنَّ أحدًا وقد تقدمت إحداهُنَّ على إنهاء حياتها؛ لأنها تصبح بَين خيارين اسوأ مِن بعضهما أن تصمت وتخفي اِنتهاك روحها وجسدها داخلها وتتحمَّله بمفردها أو تتحدث، وحينها لن يصدقونها وحتى إن فعلوا وصدقونها سيجبرُنَّهَا على الالتزام بالصمت؛ لأنها أنثى في حين أنه رجل.
الرجال يقدموا على التحرش فِي الشوارع بلا خوف؛ لأنهم اعتادوا على أن الفتيات ستَخاف أن تتحدث وتفضح نفسها؛ لذا على كل فتاة ألا تلتزم بالصمت وألا تستمع لكلمات مجتمع عقيم يلقّون بِاللوم عليكِ، على كلٍ مِن الرجل والمرأة أن يلتزما بحدودهما مع الآخر.
-أنت تمزح معي، صحيح؟
هتف بِها تميم وقد اِغْرورقتْ عيناه بالدموع كيف له أن يتحمَّل يوم واحد فِي السجن، بعد أن خرجت سمر للإعلام وفضحت نفسها وكيف تم اِنتهاك جسدها ورُوحها قبله تشجّعت الفتيات ليقدمَنَّ بلاغات ضده، فهو لم يقف عند نور وسمر فقط مستخدمًا سُلطات أبيه الذي كان يحلِّها ببضع وريقات مالية، ولكِن هناك أشياء لا تُشترى بالمال كالشرف والآن بات أباه غير موجودٍ لإنقاذه كـكل مرة، وليل رجل قانوني لن يستخدم ثغرات وألاعيب لإخراجه وهو يعلم أن تصرفات كتلك تصدر مِنه.
-أخي!
تشبث تميم فِي ذراع ليل وأصبح يبكي كالطفل الرضيع حتى أنه جثا على قدميه يقول برجاء وتذلل:
-أرجوك، أخي لن أتحمّل.
-أخي، أرجوك لا تتركني هُنا وحدي.
-سيقتلونني.
-أخي، أرجوك.
-أرجوك.
-لا تتركني.
-أقسم لك جُلَّنار لم تفعلها معي، كنت أقول هذا مِن غضبي مِنها.
-أرجوك سامحني وأُخْرجنِي مِن هُنا.
-وإن أردت يمكنني تقبيل قدم زوجتك، ولكِن لا تتركني.
-أرجوك، أخي.
سقطت عَبرات ليل على وجنتيه حزنًا وألمًا على ما أصاب عائلته والآن أخيه، مشهد كهذا لم يحلم بِه حتى والآن يحدث فِي الحياة الواقعية، لا يعلم كيف اِسْتَطَاع نزع ذراعه مِن بَين يديّ أخيه، أخوه الذي إن طلب ذراعه يعطيها لها دون أن يسأل ولكِنه مَن سَلكَ ذَلك الطريق رغْم نُصْحه له ولُدِغ مِن قبل مرتين، ولكِنه أكمل فعلته الشنيعة تِلك واِنْتَهكَ حقوق الكثير مِن الفتيات التي تغلب عليهُنَّ العاطفة ويستسلمَنَّ لأقل كلمة تُقال لـهُنَّ.
صرخ تميم وهو يرى أخاه يغادر الغرفة بقلبٍ منفطرٍ متألمٍ.
-أخي!
نظر سليم لـ ليل وقد كان حزينًا هو الأخر ولكِنه أكثر تماسكًا مِن ليل، فـ ليل شخص عاطفي وكان الأكثر قُربًا مِنْ الجميع فِي العائلة على عكسه لطَالمَا كان مسافرًا.
عانقه سليم يربت على ظهره ليبكي ليل حزنًا على أخيه وعائلته، خرج تميم مِن غُرفة الضابط مُكبِّلًا بالأصفاد ويجره العسكري لداخل الحجز حتى يُعْرَض على النيابة بَينما هو يصرخ فيهم بأن يتركوه ويُنادي على أبيه الذي لطَالمَا كان يتفاوت فِي تصرفاته ولا يعلق إلا قلي، والآن ليس هُنا ليُجِيب عليه.
هتف ليل بنبرة مختنقة:
-أريد البَقاء بمفردي.
تركه وغادر حاول سليم إيقافه ولكِن بلا فائدة، ليقود ليل سيارته يدور بِها بلا وجهة حتى توقف أمام منزل جده، جده الذي يشاهد تِلك الأحداث التي أصابت عائلته فيصمت ويكتم داخله، لم ينتبه أحدًا لَه ولم يسأل عَنٔه إن كان ميتًا أو لا، أَطْفَأَ محرك السيارة ليهبط مِنها ويتجه للداخل يطرق على الباب ليفتح له، أصبح عجوزًا أكثر مِن ذي قبل.
كان ليل يرث الكثير مِن جده سَواء فِي الملامح أو العاطفة اِنْحنى ليل ليحتضنه جده بَينما الأخر أحاطه بذراعيه يربت على ظهره بهمس ببعض كلمات الصبر، ليدلفوا للداخل ينام ليل على ساقيّ جده الذي يمسح على خُصْلاتها بحنية لم يجدها في أقرب الناس لهُ.
_______________________________
كانت تنظر للهاتف المُلقى على السرير بتردد كادت أن تخلع خُصْلاتها بيدها مِن شدة قبضتها عليهم، أخذت تدور فِي الغُرفة حول نفسها تنقسم لاثنين الأول يودّ رؤيته والأخر يعترض على فكرة الأول.
إنها تشتاق له ها قد اِعْتَرفَت أخيرًا تشعر بالتردد خائفة أن تندم على اِتصالها بِه، ولكِن بالإضافة لهرمونات حملها التِي طالبت بقُربه جذبت هاتفها لتحسم أمرها وتتصل بِـه، كانت مترددة مَا إن كان سيُجِيب عليها.
كانت تنظر لاسمه على الهاتف في اِنتظار إجابته بَينما صدرها يعلو ويهبط بعُنف وخوف، تستمع لنبضات قلبها العنيفة تضرب فِي أُذنيها بقوة.
حالهُ لم يكن مختلفًا عَنْها ما أن أَضَاءَتْ شاشة هاتفه باِسمها حتى اِنْتَفض مِن مكانها وقد تعالت نبضات قلبه هو الآخر لينظر لجده الذي اِبْتسمَ، فهو علم هُوية المتصل بسبب ردة فعله لينهض ويبتعد عَنْ جده قليلا يُجيب على مكالماتها.
صمت تام لا يخلو مِن أنفاسهُمَا المُضطربة حتى كسرت هي ذَلك الحاجز وهي تلعب بالخاتم فِي يدها مِن شدة توترها واِرتباكها:
-أين أنتَ؟
صَمَتَ يستمتع بصوتها الذي اِشْتَاقَ لهُ لقد حرمَته مِنه لأيامٍ اِمْتَدتٔ لأسابيع وأشهر، كيف اِسْتَطَاعتْ فعل هذا بِـه! كيف جملة تتكون مِن كلمتين تبعثر كيانه بذَلك الشكل! رُبما مَا بعثر كيانه ليس اِتْصَالها بقدر صوتها وشوقه لها.
-أريد رؤيتك.
هتفت بِـها عندما طال صمته لتُكَمل قائلة:
-أريد رؤيتك الآن، يا ليل.
بَينما كان يستمتع بكَلماتها وصوتها عقد حاجباه باِنزعاج أثر جملتها الآخيرة والتِي قالتها بنبرة مختنقة بِالبُكاء والحزن.
-أين أنتِ؟
تساءل هو وقد اِتْجه نحو متعلقاته يشاور لـ جده الذِي أومَأ برأسه باِبتسامة يدعو بداخله لهُمَا، ليغادر فِي عجلة مِن أمره لتهتف وتقول وهي أيضا ترتدي حذائها:
-لنتقابل عِند مطعمك.
حيث بداية كل القصة عندما شعرت بالسعادة والحُرية لأول مرة جِواره.
خرجت مِن المنزل لتقف أمام منزلها على أمل أن تجد سيارة أجرة بَينما هو قد أدار محرك سيارته متجها نحو مطعمه وهي لحُسن حظها وجدت سيارة لتستقلها تخبره بوجهته وما زال الهاتف على أذنها ليتساءل وقد تمَلك مِنه القلق:
-هل هناك خطبًا ما؟
-اِشْتَقْتُ لك.
صمت حلَّ عليهُمَا لا يعلم بأي جملة يُجيب عليها يتمنى لو يتوقف الزمن عند تِلك الجملة لا يجب أن يُقال حديث بعد حديثها، اِضْطَربَت أنفاسه أكثر لتغلق الهاتف.
كانت تَقْبض على ثوبها بقوة كادت أن تمزقه بفعل المشاعر التي تمَّلِكتها، بدأت فِي عمليتيّ الشهيق والزفير تحت تعجب السائق الذي خُمَن بأنها قد تكون مجنونة.
ركن سيارته بعشوائية أمام مطعمه ليتجه نحوه ويقف أمام وجهته يسير ذهابًا وإيابًا فِي اِنتظارها، لتقف سيارة الأجرة أمَامه لتحاسبه وتهبط مِنها.
كان يلتفت للجهة الأخرى حيث كان يعطيها ظهره ليجدها أمَامه ثوانٍ فقط وكانت بَين ذراعيه يضمها نحوه بقوة بَينما هِي تُحِيط عُنقه براحتيّ يدها، لتضرب أنفاسها الحَارة والمُضْطَربَة عُنقه رفع يده إلى مؤخرة رأسها يبعدها عَنْه ومَا زال محتفظًا بجسدها بذراعه، ليتمَتع بالنظر إلى ملامحها مرر إبهامه على وجنتها يَزِيل عَبراتها ويدنو مِنها يقبّلها بعشوائية على وجهها لتغلق مقلتاها وتزيد فِي بُكائها حتى شعرت بِه يُقَبِّل جفناها ليبتعد وتفتحهم هِي ببطء ليقابلها وجهه وترى لحيته اِزْدَادتْ عَنْ ذِي قبل وعيناه أصبحت باهتة ولكِنها ما زالت تحتفظ بتِلك اللمعة لها فقط.
ابتعدا عَنْ بعضهُمَا والصمت ثالثهم لتَزِيل عَبراتها بباطن يدها وتُعيد خُصْلاتها للخلف باِرتباك لتهتف تقول بنبرة خافتة:
-لم أكن أنا.
كان حاله لا يختلف عَنْها، كان مضطربًا ولا يعلم مَا إن كانت سَتَندم على فعلتها تِلك ليتساءل:
-عفوا! ماذا تقصدين؟
حَمَحَمَتْ ليتضح الصوت لـه وتقول:
-أقصد لستُ مَن اِشْتَاقَ لك بل طفلك.
قالت جملتها لتضع يدها على معدتها المنتفخة قليلا، ليرفع حاجبه باِستنكار ويتقدم مِنْها لتتراجع خُطْوة للخلف لتجده يجثو على ركبتيه يُحِيط معدتها بَين يديه ويقبِّلها لتنظر حولها بخجل مِن فعلته ووجدت البعض ينظرون لها لتساعده على الوقوف وتقول:
-لنذهب مِن هُنا.
-ماذا! ألم تقولين...
قاطعته وهي تدفعه بعيدًا عَنْ المطعم والذِي كان الناس يتهامسون عليهُما مِن خلال الواجهة الزجاجية المتواجدة للمطعم.
-إنهم ينظرون إلينا.
أخذها نحو سيارته وفتح لها الباب لتركبها بَينما هو اِتَجه نحو بابه ليصعد إلى السيارة هو الأخر يقودها بلا وجهة محددة ليبتسم مِن حين لآخر عندما يتذكر مشاعرها قبل قليل هتفت تقول:
-عُدّ بِي للمنزل.
-جدي اِشْتَاق لكِ.
-سأذهب لأزوره فيما بعد.
-وجائع لمْ يتناول طعام العَشاء، لنُطعمهُ ثم أُعِيدك للمنزل.
صمتت لا تجيبه؛ لأنها لا تمانع أن تَبقَى معه لأطول مدة ممكنة بالرغْم مِن تأنيبها لضميرها بأنها جزء مما أصابه وأصاب عائلته، توقف أمام متجر بقالة ليشتري مِنه بضعة مشتريات لتحضير طعام العَشاء لثلاثتهم.
عاد لمنزل جده الذي فرح كالطفل بعودة جُلَّنار التِي اِبْتَسمَتْ له وعانقته بَينما ليل ذهب لإعداد الطعام كانت تتحدث إلى الجد ويضحكان معًا لتنظر نحوه مِن حين لآخر وتبتسم عليه؛ لأنه بالرغْم أنه طباخ ماهر ألا أنه يقلب المطبخ رأسًا على عقب فقط لتحضير بيضة على سبيل المثال.
اِسْتَأذنتْ مِن الجَدّ لتنهض وتتجه نحوه تقوم بالتنظيف مِن خلفه بَينما هو يَعدّ الطعام، كاد أن يصطدم بِها وبمعدتها ليتوقف فِي اللحظة الآخيرة وجدته ينحني نحو معدتها يقول:
-هل أنت بخير، يا صغيري؟
هتفت تقول بحنق:
-لِمَ تقول صغيري! رُبما تصبح فتاة.
-أم أنك ذكوري!
رفعت سبابتها فِي وجهه ليتعجب مِنها ويقول:
-بالفعل، أنا أريده ولدًا.
-وأنا أريدها بنتًا.
-لا أريدها بنتًا ستصبح شبهك عنيدة.
-أنا لستُ عنيدة.
-لا أريده ولدًا، سيصبح شبهك اا...
نظر لها فِي اِنتظار تكملة جملتها ولكِنها حقا لم تجد فيه عيبًا لتفاجئه بقولها:
-ستصبح أنفه كبيرة مثلك.
شهق بتفاجئ ليضع يده على أنفه يتساءل بذهول:
-هل حقا أنفي كبير!
-نعم، أنا لا أستطيع التنفس يبدو أنك اِسْتَنْفَذتْ الأُكسجين كُلَّه.
جحظ بعينيه كان عليها إيجاد عيب أخر ولكِنها جرحت مشاعره بقولها هذا ليهتف بغيظ:
-أنا لمْ أرِدْ جرح مشاعرك، ولكِنك منذ أن حملتِ وأنفك أصبح هو الكبير أنتِ مَن تستنفذي الأُكسجين ولستُ أنا.
صُدِمت لتغضب مِنه وتصرخ فِيه بقولها:
-طبيعي سَأسْتَهلك أُكسجين أنا بمثابة اثنين.
-هل إن اِنْتَهَى شجاركم يمكننا تناول الطعام؟
نظرا لبعضهُمَا بضيق وغيظ ليَقْبَض كل واحد على طبقٍ ويتجه نحو المائدة يضعه عليه ليعود للمطبخ يجلب آخر بَينما هي وقفت مكانها ليخرج فجأةً على صوت بُكائها ليتساءل:
-ماذا حدث؟ هل هناك ما يؤلمك؟
أجابته بنبرة باكية:
-لقد قلت على أنفي كبير وأنني أستهلك أُكسجين المكان كُلَّه.
اِنْفَجَرتْ فِي البُكاء ليتأذى كل مِن ليل وجده الذِي وضع الوسادة أعلى رأسه بَينما ليل وقف جِوارها يقول:
-حسنا، اصمتي لأعتذر لكِ ولكِن رجاءً رجاءً توقفي عَنْ البُكاء.
اِزْدَادت فِي بُكائها ليتساءل بحنق:
-لِمَ تبكين الآن؟
-لأن صوت بُكائي يزعجك.
-لا أريد طعام العَشاء.
نهض الجَدّ منزعجًا وتركهم ليتجه نحو غُرفته يصفع بَابها خلفه بقوة ليتقدم ليل مِنها يُحِيط وجنتاها بيده ويُزِيل عَبراتها يقول:
-جُلَّنار، رجاءً لا تبكين.
-أنتِ أنفك ما زال صغيرًا قلت هذا؛ لأنك أغضبتيني ليس إلا ولكِنك ما زلتِ جميلة فِي عيني.
-حقا!
هتفت بِها بحماس ليومئ برأسه ويدنو بوجهه مِنها يقول بهمس:
-اِشْتَقْتُ لكِ، يا جُلَّنار.
اِنْحَنَى يحملها بَين ذراعيه لتفيق مِن هرموناتها النكدية التِي طغت عليها قَبل قليل، لترتبك وهي تراه يأخذها لداخل الغُرفة الثانية يضعها على السرير برفق وينام جِوارها يجذبها لأحضانه يغلق مقلتاه، يضع ذراعًا أسفل معدتها والأخرى على عينيه، رفعت رأسها نحوه تنظر له كيف نام بتِلك السرعة!
لا تعلم بأنه لمْ يذقْ النوم فِي بُعدها أبدا؛ لذا مَا أن وضعها بَين ذراعيه حتى ذهب فِي سُبات عميق لترفع ذراعها نحوه تحضنه هي الأخرى وتضع رأسها على صدره تستمع لنبضات قلبه الهادئة والمتزنة دلالة على نومه.
فِي الخارج، مَدّ الجد رأسه مِن الباب لينظر يمينًا ويسارًا ومَا أن تأكد مِن خِلو المكان حتى خرج وتقدم مِن مائدة الطعام يشرع فِي تناول الأكل الذِي حَضّره ليل.
_______________________________
فِي صباح اليوم التالي، كان الجميع يبحث عَن جُلَّنار قلقين مِن أن يكون أصابها مكروهًا، فاِخْتفَائها مريبًا وخاصةً أن مارك يبقى أمَام المنزل أغلب الوقت ما عدا أوقات نومه والتِي اِسْتَغلتهَا للخروج دون علمهم على أمل العودة دون أن يسألها أحد عَنْ مكانها ولم تحسب بَقائها في مَنزل الجَدّ.
عقدت حاجباها باِنزعاج أثر رنين الهاتف لينظر إليها وسُرعان ما ألتقطه يَغْلق الصوت حتى لا يزعجها، ولكِنها كانت قد اِسْتَيقَظتْ بالفعل لتفتح جفناها بَينما هو هتف يقول:
-إنها أمي، اكملي نومك.
نهضت بفزع لتتساءل:
-كمْ الساعة؟
-بالتأكيد علموا أني لست فِي المنزل.
-اهدئي سأخبرهم أنك مَعي.
صرخت فيه تمنعه قبل أن يجيب:
-لا، توقف لا تخبرهم أني مَعك.
أجاب على الاتصال ليقابله صوت جوهرة القلق:
-ليل، أنت بخير؟
-نعم، ماذا بكِ؟
-جُلَّنار، جُلَّنار ليست هُنا.
-لا نعلم متى خرجت أو إلى أيَن.
-حسنا، سأبحث عَنْها.
-ابقي عندك ولا تَخْرُجِي.
-طمئِنِي ما أن تجدها.
-حسنا.
تنفست جُلَّنار الصعداء مَا أن أغلق لتعود بجسدها للخلف تنظر نحوه وتقول:
-أنا جائعة.
تركها وغادر وهُو لا يعلم كم وجه وشخصية لديها، إنه متعجب مِن تصرفاتها المتناقضة تارة تُعَبر له عَنْ شوقها وتارة ترفضه وتغضب مِنه وتارة لا تتحدث إليه وتارة تتعامل وكأن الأمور طبيعية.
التقطت هاتفها لتنهض وهِي تبحث عَنْ ورقة وقلم حتى وجدتهم لتبدأ فِي تدّوين رَقْم هاتف وأسفله عنوان لتطويّ الورقة وتُهَنْدِم ثيابها لتغادر الغُرفة، وجدت الجَدّ مستيقظًا يجلس على الأريكة عابس الوجه لتتساءل:
-هل هناك خطبًا؟
-زوجك هذا أريد قتله.
-لِمَ؟
-أيقظني مِن نومي لأبقى حارسًا لكِ وأمنعك مِن الرحيل إن حاولتِ.
اِبْتَسمَتْ جُلَّنار لتجاوره وهي تَقْبَض على يده تقول:
-لا تقلق لن أغادر قبل عودته، أعدك.
-إذا، لأذهب وأستحم حتى يجهز طعام الفطور.
أومَأت لـه ليتركها ويتجه لغُرفته يحضر بعض الثياب ويذهب للحمَّام بَينما هِي نظفَتْ المائدة وكذلك المطبخ لتجده يعود حاملًا بيده بعض الأكياس البلاستيكية نظر حوله يتساءل:
-أين جدي؟
-ذهب ليستحم، لا تقلق لن أغادر لأي مكان قبل حديثي إليك.
حَمَحَم باِحراج أبتلك السرعة أفشى جده ما قاله له، وضع الأكياس خلفها على الطاولة الصغيرة ليقول:
-اِجْلسي سَأُعدّ طعام الفطور مِن أجلنا.
-لا بأس لأساعدك.
ها قد عادت مرة أخرى للرسميات ليبدأ فِي إخراج محتويات الأكياس بَينما هي تساعده حتى اِنْتهوا مِن إعداد الطعام ووضعه ليل على المائدة كاد أن يُنادي على جده حتى قَبَضت على يده تقول:
-ليس الآن، أريد التحدث إليك.
نظر لها بتوجس وترقب ها قد تحوّلت لشخصية جادة عكس الجانب الطفولي الذِي ظَهَر مِنها ليلة أمس، قدمت له تِلك الورقة ليرفع يده ويأخذها يقرأ ما بداخلها وقَبل أن يتساءل عمَّا تقصده قالت:
-هذا رَقْم واِسم وعنوان الرجل الذي سَيشترِي المول التجاري، فلتفعلها أنت وتأخذ الأموال لتسديد الدَين.
كان ينظر لها بِاندهاش كيف اِسْتَطَاعتْ التفريط فِي حلمها بتِلك السهولة مِن أجله! وهل كل ما حدث ليلة أمس كان تخطيطًا مِنها لإخباره بتلك الكلمات؟
ترك الورقة من يده يقول وهو يعطيها ظهره.
-لا أريد.
-ليل...
-أخبرتك لن أخذ منكِ حلمك.
-تِلك كانت حُجَّة.
-ماذا!
التفت لها ليتساءل ما الذِي تقصده مِن حديثها لتهتف وقد اِمْتَلأتْ عيناها بالدموع:
-لقد كانت حُجَّة لرؤية أمي.
-وهذا سبب أكبر لرفضي، يا جُلَّنار.
-لن أخذ منكِ هذا المول.
نهضت لتحيط وجهه براحتيّ يدها وتقول:
-أرجوك، مِن أجل طفلنا لا أريدك أن تُسْجَن؛ لأنك لم تسدد الدَين.
-لا تبيع المطعم هذا هو الذِكرى المشتركة بَيننا، لا تمحيها.
-رجاءً، يا ليل.
-مِن أجل طفلنا ومِن أجلي لا ترفض.
-لا تُشْعرنِي بتأنيب الضمير أكثر، بسببي تدمرت كل عائلتك... أنا آسفة.
أجهشت في البُكاء وتجمعت عَبراتها في مقلتاها تتهيئ للنزول لتُكَمل قائلة:
-أنا أحبك، ولكِن حتى وإن نسيت... أنا لن أنسى أنني سبب دمار عائلتك.
-أنا يدي مُزينة بالأحمر أثر دماء عائلتك وعائلتي.
اِبْتَعدَتْ عَنْه تمسح عَبراتها المتمردة بيدها وتجذب حقيبتها لتغادر، كانت أنفاسه مُضْطَربة ونظره مصوب نحوها بَينما قبضته تعتصر الورقة داخلها لطَالمَا كانت الحياة تعطيه اختبارات ولم يشكو أبدا، ولكِنه لأول مرة تمَّني لو أنه عاش حياة أخرى مختلفة.
كانت تسير بجوار السور المُحاط بالمزرعة تبكي حتى اعترضَ طريقها أحدًا رأت قدماه لترفع رأسها نحوه وتُفْزَع عند رؤيتها لوجه قد تشوه كُلَّه بالكاد تُمَيز عيناه، لتجده يهتف بغضب بَينما هِي تصنمت فِي مكانها:
-أنتِ السبب، أنتِ مَن دمرتيني ودمرتِ عائلتي.
هتفت بصوت لم تسمعه هي حتى:
-لم أفعل.
تراجعت خُطْوة للخلف تتساءل بفزع:
-كيف ما زلت على قيد الحياة!
.
بقلم/سلسبيل كوبك.
.
.
يتبع
_______________________________
بعد خمسة وثلاثين فصلٍ أَخْرجت لكم مشهدًا كوميديًا.•تناقشوا حول قضية التحرش التي تحدث مِن قِبل الرجال وصمت الفتاة خشية من الفضيحة وعُقم المجتمع حول تِلك القضية.
أنت تقرأ
بِـلون الدم
عشوائيلكُلٍ مِنْا جَوارحهُ التِي تَنزَف دَاخلهُ بِقوةٍ مِنذُ سنوات وَلكِن لا أحد يراها؛ لأننا نَحكمُ الغَلقُ بِشدَّةِ وَكأننا نخافُ أنْ يَسْقطَ نَزِيفُنا بالأرضِ، فيتلطخ بِه أحدٌ. هو قَررَ مُشارِكتها لِنَزِيفها بأنْ يكونَ إناءٌ تُفْرِغ بِداخلهُ مَا كَتمته...