نكمل روايتنا بِـلون الدم.
بقلم/سلسبيل كوبك.
الفصل الـ٣..
______________________________
تقدمت للداخل دون حتى أن تستمع لإذنها، بينما أفنان مازالت لا تستوعب مجيء جُلنار إلى ذلك الحيّ الشعبي وأمام بابها كانت تنظر يمينا ويسارا تنظر إلى الأرجاء جدران المنزل لا تخلو من التشققات، ولم يتم تشطيبها بشكل تام دُهنَت فقط بالأسمنت، جلست على تلك الأريكة المتهالكة ليهبط الإسفنج في الحال ليدل على مدى رداءتهُ وضعت قدماً فوق أخرى تستند بمرفقها على مقبض على الأريكة، بينما أفنان تقدمت منها تتساءل باِبتسامة لم تستطع إخفاءها:
-أَتودِّين شرب شَيءٍ ما؟
حركت رأسها بالنفي لتجلس أفنان على المقعد المقابل لها ليتضح لها تلك الفتاة القابعة في السرير تحتضن نفسها بوضعية الجنين تعطيها ظهرها لتُثير فضولها.
-سبب وجودي هنا معلوم.
-أودّ سماع قصتك، ذلك الأمر الجلل الذي جعلك تأتين إليّ مرات عديدة، ولم تستسلمي أبدا.
-أحقا ستُساعدينني؟
صمتت جُلنار لا تعلم إن كانت أتت إلى هنا من أجل الفضول أو الحنين، الحنين إلى منزل يوجد به أم كانت تأتي لهنا وهي متأكدة أنها ستجدها بداخله، ولكن هناك في أمريكا كانت تعود من الخارج كل يوم على أمل أن تراها، ولكنها تعود بالخيبات على كتفيها، ابتلعت لعابها وتمالكت أعصابها، وكادت أن تتحدث حتى تعالى رنين هاتفها لتخرجه من حقيبتها، وتجيب ما أن رأت هوية المتصل:
-السيد عمر غاب عن الوعي، وأنا أنقله الآن للمشفى.
نهضت في الحال تجذب حقيبتها تقول:
-سآتي، أخبرني بمكان المشفى.
-حسنا.
غـادرت بعد أن بعثت الأمل في قلب تلك السيدة لتجذب أيهم خلفها وهي تقول:
-أبي تعب سينقلونه للمشفى.
استقلت السيارة في المقعد الأمامي، بينما جلس في مكان السائق ليدير المحرك، ويغادر ذلك الحيّ، بينما هي هاتفت مارك من جديد:
-ننقله الآن في سيارة الإسعاف.
-إلى أي مشفى؟
سأل مارك موظف الإسعاف ليخبره باِسم المشفى وما أن استمعت جُلنار لـه حتى أغلقت تخبر أيهم اِسمها ليعرفها وينطلق نحوها، كانت تضغط على ما بين جفنيها بقوة فالصداع اجتاحها تتساءل بداخلها لما تخشى فقدانه لتلك الدرجة أليس هو مُعذبها! تتمنى له الموت، ولكن لِمَ قلبها الآن يدعو له حتى لا يصيبه مكروه إنها تشعر بالتناقض إنها لم تعد تعرف ماذا تريد ولا تستطيع تحديد ماهية مشاعرها.
توقف أيهم أمام المشفى لتهبط مِن السيارة وتتجه إلى الداخل عند موظفة الاستقبال تتساءل:
-مريض فاقد لوعيه، يُدعى عُمر المصري.
قبل أن تُجيب عليها رأت جُلنار أبيها ملقى على النقالة، ويُنْقَل للداخل لتتبعهم دون الاستماع لحديث الموظفة لتنظر إلى الممرض تسأله:
-ما أخباره؟ كيف حاله؟
-بعد الفحص يمكننا إخبارك.
نظرت لمارك تتساءل:
-أخبرتهم أنه مصاب بالسرطان؟
-نعم، لا تقلقِ أنتِ فقط اجلسي.
انتهى الممر بدخولهم لغرفة الفحص وعند علم الطبيب بمرض السرطان، حتى أمرهم بأخذه لغرفة الإشاعات.
كانت تقف في منتصف الممر، بينما أعصابها ليست في مكانها إنها بالكاد تتمسك باِنفعالاتها لتطالع مارك متسائلة:
-أين كنت؟
-كنت أجلب لـه الماء.
-وإن كنت أنت من تجلب الماء ماذا تفعل تلك الفتاة التي في البيت!
-حسنا، لا تغضبي سيكون بخير.
أردفت بخفوت بنبرة نادمة لـم تصل لمسامعه:
-ربما لـم يكن عليّ أن آتي لهنا.
كانت تنتظر الطبيب ليخرج ويطمئنها تأخذ الممر ذهابا وإيابا إنه لـم يفقد وعيه من قبل لذا تشعر بكل هذا القلق هذا هو كان مبررها لشعور الخوف بداخلها.
خرج الطبيب لتجري نحوه باِندفاع تتساءل:
-أبي بخير؟
-ما سبب الإغماء؟
-يبدو أنه لا يتناول أقراص دواء السرطان باِنتظام، عليه أن ينتبه أكثر إن استمر على هذا الحال سيصبح السرطان أكثر خطورة، ويتفاقم الوضع وسيصبح في مرحلته الرابعة.
-لقد فحصناه قبل شهر كان السرطان ما زال في مرحلته الأولى، والآن؟
-إنه بخير، يبدو أنك كنتِ تتابعين من طبيب جيد كاد أن يُنهي على السرطان، ولكن عدم الانتظام سيؤدي إلى تفاقم الوضع كما أخبرتك.
-حسنا حسنا، ولكن أيمكنك ألا تخبره بأنه مريض بالسرطان.
-كما تعلم حالتهُ، إن علم بالسرطان ستسوء حالته.
-حسنا كما تريدين.
غادر الطبيب بينما جُلنار تقدمت من مارك تتساءل:
-كيف لا تهتم بأدويته؟ متى أصبحت مهمل؟
-أقسم لكِ أنني لا أغادر قبل أن يتناولها في فمه ولا أنام قبل أن اتأكد أنه تناول كافة أدويته.
-يبدو أن عُمر المصري يلعب معي.
أعادت خصلاتها للخلف بعنف وغضب لتخرج هاتفها من حقيبتها وتتصل بـ عزيزة التي أجابت على الفور متساءلة:
-هل السيد عُمر بخير؟
-عزيزة، اذهبي لغرفته وابحثي في سلة القمامة عما إن كانت توجد أدوية مُلقاة بداخلها.
-حسنا.
دلفت للداخل لتبحث كما أمرتها جُلنار التي كانت تقف على أعصابها بالكاد تتماسك، دلف مارك لغرفة عُمر، فقد أخبرته الممرضة أنه فاق، بينما عزيزة وجدت عدة أقراص مُلقاة في السلة أسفل بعض ورقيات لتخبر جُلنار التي أغلقت في الحال غاضبة منه لتنتبه على وجود أيهم أردفت قائلة:
-أيهم يمكنك الذهاب.
-سأنتظر يمكن تحتاجين إ.
قاطعته قائلة:
-إن احتاجت سأتصل بك، اذهب إلى المول وأخبرني بالمستجدات.
حرك رأسه بالإيجاب، وتمنى الشفاء لأبيها وغادر، بينما هي دلفت لداخل الغرفة لتجد أباها يستلقي على الفراش وبجانبه مارك الذي نهض يفسح لها المجال حتى تجلس هي وتساءلت:
-ألا يمكنك الانتباه أكثر؟
-لقد بلغ الشيب رأسي، اعذريني سأخبر التعب أن ينتظر حتى أبلغك.
-ممكن.
-ولكن العجز لن يجعلك مهملا صحيحاً؟
أشارت لمارك أن يغادر وجذبت المقعد لتجلس عليه قائلة:
-الدواء.
ارتبك أبوها ليتساءل:
-ماذا عنه؟
-لمَ تلقيه في القمامة؟
-ألست مسؤولا عن نفسك؟
-أم تريدني أشرف على دوائك أيضا!
-لا أريد منكِ شيئا، فقط دعيني وشأني.
-أنا قدرك، أبي شئت أو أبيت.
-أنا ابنتك لا يمكنك نكر تلك الحقيقة.
-لذا ستضطر للتعامل معي كما أتعامل؛ لأني لو نسيت لوهلة أنك أبي حينها صدقني لن أتردد في قتلك.
-إياك لن أسمح لك بتكرار تلك المأساة من جديد.
-ستفعل فقط ما أريد.
-ناكرة للمعروف، تتحدثين بتلك النبرة القوية بسببي.
-ليتك استطعت تجعلني أحادثك بنبرة غيرها، ليتك يا أبي.
تركته وغادرت لتطلب من مارك إنهاء إجراءات الخروج وجلب الأدوية التي كتبها الطبيب من أجله.
________________________________
دلف لغرفة أخيه ليجده نائماً على فراشه يغلق جفنيه ليجلس بجانبه ما أن شعر تميم حتى انتفض في نومته، واعتدل ليطالعه بعبوس ليردف ليل:
-تحزن وكأن أنا من أخطأت.
-ألا تعلم قوانين مطعمي، أنا أمنع دخول الخمر مطعمي وبيعه.
-ولكنك أحرجتني أمام زبائني، كيف أنا أَحْرَم شُرب الخمر وأنت تتناوله.
-ثم إن الفتيات اللاتي تصطحبهم معك، إنهم معك فقط لأنك تميم الجندي ليس إلا.
-لذا عليك أن تفيق لنفسك، لن أكون موجودا دائما من أجلك.
-والسيدة يُسرا لن تمدك بالمال طيلة حياتك؛ لأن أبي لو علم سيمنع عنها هي أيضا المال.
-تميم، أنا أخاف عليك لا تضطرني أنا أعاملك مثل أبي حينها ستجد الأبواب كلها مُغلقة.
لـم يتجاوب معه تميم لينهض ليل وهو يتنهد ويغادر، ولكن تميم قبض على يده ليعتدل في جلسته، ويتقدم منه يحتضنه يقول:
-أنا لا أستطيع العمل، لا يمكنني ارتداء بدلة رسمية طوال الوقت، يا أخي.
-أنا لـم أَعِشْ أيامي كما أريد.
ربت ليل على كتفيّ أخيه يردف:
-يمكنك فعل ما تريد بجانب العمل، ولكن الأموال زائلة ليس هناك ما يضمن أنك ستصبح ثرياً ليوم مماتك.
-فكر جيدا لمصلحتك.
تركه ليل واتجه نحو غرفته ليبدل ثيابه، فهو لـم يعَدّ للمنزل منذ أمس كان يودّ أن ينال قسطا من الراحة، ولكن أمه جوهرة اقتحمت خصوصيته قائلة:
-ستنام ظهرا؟
-نعم.
-عمك ياسر بالأسفل يريد أن يتحدث معك في أمر ما، حاول أبوك أن يعلم عما سيتحدث معك، ولكنه أبى البوح.
نهض ليل ليذهب مع أمه للأسفل، ويتقدم من عمه يصافحه ويلقي التحية على الجميع.
-لِمَا لم تهاتفني كنت قد أتيت لمنزلك.
-لا بأس، أنا من أحتاجك.
-يمكننا التحدث بالخارج.
أومأ برأسه ليتجها سويا للخارج حيث الحديقة ليطلب ليل فنجان قهوة حتى يصبح مركزا مع عمهُ ياسر الجندي يسكن في فيلا بجوارهم، ولكن كلاً منهما يعمل في مجال مختلف والمقابلات بينهما قليلة؛ بسبب عدم توافق كلٍ من جوهرة ويُسرا مع زوجة عمه ياسر زينب، وخاصةً أن عمه كل أبنائه بنات على عكس أخيه جميعهم صِبية.
اِبتسم ليل لعمه يحثه على الحديث ليردف ياسر:
-أنا أحتاجك معي في العمل، يا ليل.
-لقد تعب شاكر المحامي الخاص بي تعرفه جيدا، وأنا لا أثق بأحد من بعده سواك.
-خاصةً أن تلك الصفقة سيكون الطرف الآخر منها مِن أمريكا.
-وأيضا فتاة لذا أحتاجك معي، أنت تستطيع حل كافة المشاكل خاصةً أني أحتاج تلك الصفقة إنها مربحة لي.
-لن أوافق على رفضك، فقط تلك الصفقة من أجلي من أجل عمك.
صمت ليل قليلا يفكر أنه لا يريد أن يشتت نفسه ما بين أبيه وعمه ومطعمهُ، ولكنه لا يحب أن يرفض طلباً لعمه وخاصةً أنه عرض عليه من قبل أن يعمل معه ولكنه رفض؛ لأن أخاه فَرَّ هاربا للخارج، وتميم متهورا لذا اعتمد أبوه عليه كليا في العمل، ولم يَرُدّ تركه وحده.
-حسنا، أوافق.
تهللت أسارير ياسر، ونهض يحتضن ليل يقول:
-حسنا، سأجعل ماهر يتواصل معك.
تساءل ليل عن هوية ماهر ليخبره ياسر بأنه الوسيط بين كليهما غادر ياسر، ووجد ليل من تقبض على ذراعه تتساءل:
-ماذا كان يريد عمك؟
-كان يريدني من أجل العمل.
-حسنا، اتفقت معه على مال؟
-فيما بعد.
كاد أن يصعد لينعم بقسطٍ من الراحة حتى أخبره موظفه بضرورة المجيء للشركة ليذهب نحو سيارته ويجد أمامه حارسه الشخصي أمير الذي جلس في مقعد السائق، فجلس بجانبه وانطلقوا نحو الشركة.
_______________________________
كانت تجلس على تلك الأريكة في صالة منزلهم وأمامها أبوها، بينما على الطاولة مُلقى الأدوية كلها لتردف بحدة، وهي توجه كلماتها نحو مارك:
-إن تكرر الأمر، سأعاقبك.
كان ينظر مارك للأسفل تعبيرا عن ندمه يضع كل من ذراعيه بجانبه لتشير إليه أن يذهب، ليتقدم نحو عُمر، ويدفع مقعده لداخل غرفته يينما عزيزة تقدمت من جُلنار تتساءل عما إن كانت تريد أمرا ما، ولكنها أجابت بالنفي لتسمح لـها بالمغادرة وتحضير الغداء.
أرجعت رأسها للخلف تغلق جفنيها، وتتنهد بضيق إنها بالكاد تتماسك أمام المصاعب كلها التي تواجهها فقط تتمنى لو أن تختفي من تلك الحياة.
تعالى رنين هاتفها لتجذبه وما أن رأت هوية المتصل حتى زفرت الهواء من حولها بضيق لتحاول التحكم في تعابير وجهها ونبرة صوتها لتجيب:
-ما الأمر، ماهر؟
-كنت أودّ أن أخبرك أنني قد حددت الميعاد صباح الغد في شركتي.
-حسنا، يا ماهر.
-أغلق الآن، وإن كان هناك جديد يمكنك مهاتفة طارق سأرسل لك رقمه.
أغلقت الخط لترسل رقمه عبر إحدى مواقع التواصل الاجتماعي، ألقت الهاتف على الأريكة بجوارها، ونادت باِسم عزيزة لتخبرها أن تصنع لها فنجانا من القهوة، وألقت بجسدها على الأريكة تغلق جفنيها لتراودها تلك الذكريات التي لطالما هربت منها ومن ألمها.
كانت تسير في ذلك الممر، وتوقفت أمام أحد الأبواب، والذي كان مفتوحاً قليلا يسمح لـها برؤية ما بداخله، كانت أمها تسقط أرضا تبكي وتتوسل لأبيها الذي قبض على حزامه، وسدد ضرباته على جسدها كانت تنتفض في مكانها، حتى إنها بللت ثيابها بلا شعور والدموع تسابقت على وجنتيها كادت أن تغادر قبل أن يراها لتصطدم قدماها بتلك الطاولة الصغيرة الموضوعة بين كل غرفة والأخرى لتصدر صوتا، ليتجه نحو مصدر الصوت، ويراها ترتجف أمامه بينما هو يتقدم منها وهي تتراجع للخلف ليتساءل:
-ألم أخبرك ألا تصعدين؟
حركت رأسها بالإيجاب، تواصلت تراجعها للخلف كلما اقترب منها، حتى وصلت إلى نهاية الممر حيث السلالم. أصبحت الأمور تنتهي بصراخها وهي تنزلق على السلالم، حتى وصلت إلى أسفل الممر، وكانت آخر شيء رأته صورة السقف المغطاة بالضباب وصراخ والدها عندما ناداها باِسمها عندها أغمضت عيناها، تستسلم لعتمة تلك اللحظة التي أحيانًا تكون أكثر أماناً من بريق النور، فتصبح ملاذًا للمفتقرين إلى ملاذ.
______________________________
كانت تقف أمام مرآتها تعدل ياقة تلك الحُلَّة النسائية البيضاء لتضع زينتها البسيطة التي كانت تتألف من حلق ذهبي اللون بالإضافة لعِقد من اللون نفسه لتجلس على تلك الأريكة ترتدي حذاءها الذهبي دلفت عزيزة للداخل، وتنبهر من خزانتها المفتوحة والتي كانت تأخذ عرض حائط مساحته خمسة أمتار توجَد بداخله كل ما تحتاجه المرأة لتشعر بالحسرة بداخلها، وتلعن الظروف التي جعلتها تعمل كخادمة من منزل لآخر.
تساءلت جُلنار عندما رأتها تقف في مكانها لا تتحرك:
-ماذا هناك، يا عزيزة؟
-القهوة.
-حسنا، يمكنكِ تركها هنا.
-إن أتى طارق أخبريني.
-كما تؤمرين.
وضعت عزيزة القهوة على الطاولة، وغادرت لتعدّ طعام الفطور، فلم يستيقظ عُمر بعد، جلست جُلنار على الأريكة تلتقط فنجانها، وترتشف منه القليل تفكر عما إن كانت حقا تفكر في الاستقرار داخل تلك البلد التي تجلب لـها سوء الحظ والذكريات السيئة، ربما كان عليها الاستماع لرغبة عُمر لم يكن عليها المجيء لهنا قط.
أتى كل من طارق وأيهم، فطارق لديه كسر في ذراعه لن يتمكن من القيادة لذا طلب من أيهم المساعدة جذبت حقيبتها تتجه إلى الخارج لتفتح باب غرفة أبيها تختلس النظرات للداخل كان يخبر مارك بأنه لا يريد الخروج ما دامت هي بالمنزل لا يريد أن يتواجه معها بأي شكل من الأشكال، حتى لا تبدأ برمي بعد الكلمات المسمومة عليه كـكل مرة.
اِبتسمت بخفوت على تذمره ونبرته الطفولية في حديثه لتستجمع قوتها، وتغادر تلقي التحية على طارق وأيهم، وتستقل السيارة باِتجاه مقر شركة ماهر، كانت شركته بسيطة مقارنةً بجُلنار وياسر، ولكنه يحاول دائما أن يَقُرن اسمه باِسمهم حتى يستطيع أن يكون مثلهما في يومٍ ما.
رحب ماهر بها كثيرا، وقدم لها مشروبات عدة، ولكنها رفضت تناول أي منهم، كانت تنقر بسبابتها على طاولة الاجتماعات تنظر لماهر الذي يشعر بالارتباك من تأخر الطرف الآخر ليردف مبررا:
-نلتمس له العذر، ربما زحمة سير، أو تعطلت سيارتهم.
فُتِح الباب على مصرعيه تزامنا مع صوت رجولي يعتذر عن التأخير لتلتفت برأسها نحو الباب، وتراه أمامها لـم تتعرف عليه، ولكنه بدي لـها مألوفا لـم تستطع تحديد هويته ليلقي التحية عليهم، ويتجه نحو ماهر يصافحه ليتبعه ياسر الذي اعتذر هو الآخر عن تأخيره.
-ليل، تركت أباك وعملت مع عمك؟
-لا سيد ماهر، ولكن لا بأس بصفقة أو اثتنين إكراما لـه.
-ولد صالح.
-أقدم لك يا جُلنار، ياسر الجندي.
-تشرفت.
-وليل ابن أخيه.
حركت رأسها بالإيجاب لتتعجب من نظراته نحوها وكأنه يعرفها، ليبدأ ماهر في عرض خطته لينصتا لـه باِهتمام.
-سيدة جُلنار، أعلم مدى خوفك من التعامل مع مصريّ ولكن لا تحملي همّا ستصل لكِ أموالك في الوقت المحدد الذي سنتفق عليه.
-رُبما لا تعلم سيد ياسر.
-ولكن المصنع تم غلقه منذ فترة، وقمت بإعادة تشغيله مرة أخرى لذا من الصعب كسب ثقة مستوردين مرة أخرى.
-لا أحمل همّ المال؛ لأني لا أترك حقي أبدا.
-ونحن لا نأكل حق أحد، سيدة چَلنار.
-جُلنار وليس چَلنار.
أردف ماهر يقول وهو يرى حِدة جُلنار في التعامل مع لِيل:
-تلك الصفقة لا تحتاج أكثر من تصدير رائع وهذا متوفر، و مستورد جاهز وهذا أيضا متوفر.
-لذا أرى أن نقوم بإمضاء العقود هنا.
-عليّ الإطلاع على العقود أولا، سيد ماهر.
-بالطبع، يا ليل.
أشار ماهر لمساعدهُ أن يأتي بالعقود ليقدم نسخة لجُلنار وأخرى لـ لِيل، كان يتناقش ليل مع عمه، بينما جُلنار مع طارق تعالى رنين هاتفها لتستأذنهما وتبتعد عنهم قليلا نحو النافذة تُجيب عن اِتصال أبيها، فأبوها لا يتصل إلا للضرورة كادت أن تتحدث حتى بادر هو بصراخه عليها لتبعد الهاتف عن أذنها، وينتهي حديثه مكررا:
-يا ناكرة المعروف، أريدك أمامي حالا.
-الآن.
أنهى المكالمة لتتنفس الصعداء، وتتساءل عما حدث حتى يهاتفها بتلك النبرة، ويريدها أمامه لـم تستطع فهم ما يرمي إليه عندما نظرت للخلف، وجدته واقفا خلفها مباشرةً، فُزِعت وتراجعت للخلف على نحو سريع، واصطدمت قدمها بذلك المقعد الجلدي الذي يعتبر مريحاً للأعصاب، وكادت أن تسقط، ولكنها تمسكت بياقة قميصه، وجذبته معها حتى سقطا معاً على ذلك المقعد، وبينما كان الجميع يفقدون ألسنتهم من الدهشة، فإنه كان هو الذي تعرض لصدمة أكبر من الجميع، عندما قامت بدفعه بأقصى قوة تملكها ليسقط على الأرض، بينما هي نهضت في الحال ترسم على وجهها بسمة مرتبكة محرجة تحاول فيها تمرير الموقف ليعتدل في وقفته هو الآخر، ويبادلهم الابتسامة نفسها، ويتجها نحو الطاولة يجلسان في أماكنهم.
ابتلعت لعابها، وأعادت خصلاتها للخلف تحاول التحكم في تعابير وجهها لتظهر أكثر جدية، ولكن الإحراج مما حدث يجعلها تتمنى لو أن تعود إلى بطن أمها مرة أخرى، أو تنشق الأرض وتبتلعها، أمضت على العَقد تقول:
-إلى اللقاء، أدعوكم إلى حفل افتتاح المول التجاري الخاص بي.
-سأنتظركم.
غادرت مع مساعديها، بينما ليل تحدث إلى ماهر يتساءل عن خلفيتها ومدى جودة صناعتها وعملها.
عادت جُلنار للمنزل لتجده ينتظرها في منتصف البيت على مقعده ملامح الغضب على وجهه تشعر وكأنه عاد إلى نفسه القديمة مرة أخرى تساءلت وهي تنظر نحو مارك:
-ما الذي حدث؟
أشار إلى الجميع ليغادر، بينما هي وضعت حقيبتها على الأريكة لا تعرف لما شعور الخوف دبّ داخلها لتستند بيدها على مسند الأريكة تحثه على الحديث ليتساءل:
-لمَ عُدتِ إلى هنا؟
صمتت قليلا بالتأكيد إجابة السؤال ليست مطابقة لإجابتها لتردف قائلة:
-من أجل افتتاح المول.
-أيمكنك إخباري الآن بما حدث؟
-لما صرخت عليّ؟
-لا تنسين أنني من اعتنيت بكِ سنوات عمري بالكامل، أنتِ ترتدين تلك الملابس الغالية من مالي أنا تمشين على تلك الأرض بقدميكِ بفضلي.
-لن أسمح لك أن تهيني بحديثك، لذا انتبه على كلماتك جيدا.
-تحدث معي بلا ألغاز.
-أفنان، تلك الحقيرة أتت لهنا تطلب رؤيتك.
ابتلعت لُعابها، لقد حذرها كثيرا ألا تتواصل معها، كانت كلما ذكرت اسمها أمامه يسدد لها صفعات على وجنتيها وكأن اسمها مُحرم عليها أن تنطقه حتى في داخلها، ذلك الاسم الذي لطالما كان سبب عُقدة كلاهما.
أجابت بنبرة خافت بالكاد سمعها:
-ألم تخبرك فيما كانت تريدني؟
-لا.
-بالتأكيد أتت لتكسب عطفك، وتبتذلك بأساليبها الرخيصة.
-لا تقلق، لا تمتلك رصيدا كافيا عندي.
نهضت واتجهت إلى الخارج، فالداخل لا يشبهها يجعلها مُهشمة أكثر تشعر بالغُربة تسير في الطرقات لا تعلم وجهتها، ولكنها تفضل على أي حال أن تضل طريق العودة إلى المنزل، المنزل وحده لا يكفي لجعل الإنسان يشعر بالراحة، فإنه يحتاج أيضًا إلى وجود أشخاص يحبونه ويكونون حوله ليشعر بالأمان.
توقفت أمام ذلك الباب المتهالك كأصحابه تطرق عليه بقبضة يدها فتحت أفنان لتجد من يطبق على جيدها بقوة، وتدفعها للداخل لتسقط على الأريكة، بينما جُلنار تحدثت بغضب:
-ما الذي تخططين له؟
-تحدثي، لِمَ ذهبتي لمنزلي؟ لِمَ قابلتيه؟
دفعتها بغضب عندما رأتها تلفظ أنفاسها الأخيرة أثر قبضتها وعينيها تتدلى للخارج لتسعل أفنان بشدة وما أن استعادت توازنها حتى أردفت بنفي:
-خُفت، صدقيني خُفت من ألا تعودي أبدا.
-أن تتراجعي عن قرارك بمساعدتك.
-لا تفهميني على نحو خاطئ.
-فقط اسمعيني لمرة واحدة.
أعادت خصلاتها للخلف بضيق، وأزالت حبات العرق على جبينها بكف يدها لتتظم أنفاسها، وتغلق جفنيها في محاولة منها لتهيئة نفسها لما ستسمعه، لتعاود فتحهم من جديد، وتنظر إليها تحثها على الحديث.
-ولكن يجب عليكِ رؤية شخص ما.
كادت أن تقبض على ذراعها تجرها خلفها حتى انتفضت جُلنار أثرها، وأبعدتها عنها إنها تكره لمساتها لتتقدم منها أفنان نحو حجرة تلك الفتاة التي رأتها من قبل، وأثارت فضولها لتردف أفنان قائلة:
-إنها نور، أختك.
ألجمتها الصدمة لتنظر إلى أمها، وتشعر بأن الأرض من تحتها تدور تتساءل ألا يكفي أنها هربت مع عشيقها و أنجبت فتاة، ولكن تلك المرة لم تتركها ولم تتَخَلَّ عنها كما فعلت معها، بل بقيت بجانبها ترعاها وتهتم بها حتى قاربت سن العشرين، تشعر وكأنها تلقت طعنة في قلبها لتتساءل، ألم تكن تستحق أن تبقى أمها بجانبها لتعتني بها؟
.
بقلم/سلسبيل كوبك.
.
.
يتبع
_______________________________
أنت تقرأ
بِـلون الدم
Randomلكُلٍ مِنْا جَوارحهُ التِي تَنزَف دَاخلهُ بِقوةٍ مِنذُ سنوات وَلكِن لا أحد يراها؛ لأننا نَحكمُ الغَلقُ بِشدَّةِ وَكأننا نخافُ أنْ يَسْقطَ نَزِيفُنا بالأرضِ، فيتلطخ بِه أحدٌ. هو قَررَ مُشارِكتها لِنَزِيفها بأنْ يكونَ إناءٌ تُفْرِغ بِداخلهُ مَا كَتمته...