رواية: ضيّ البادية.
(حرب مسلوبة الراء)
"رواية واقعية"
تأليف/ علياء شعبان.
------
تحتوي الرواية على بعض المشاهد الحادة قليلًا بين مسلوب بكامل إرادةً وما يُسلب بالكاد، فترات تمر على ذات الشخص؛ فتجدها تنظُر إليه بعين الحيرة، هل في كُل مرةً ستسلُب منه نُقطة الخير فيه وتجعله عار قد فضحته مساوئه؟ والغريب في الأمر بأنها تجد نفس الشخص قد تحول بين يوم وليلة لتُقرر أن تقف بعيدًا على قارعة الطريق وتنظُر له يجاهد مليًا ضد هواه.
هناك من تُغيرهم الأقدار والجوائح فيصمدون، يتخذونها درجة للأعلى، فكلنا يخطىء ولسنا بملائكة ومن ثم العبرة بالخواتيم.
"المقدمة"
فُتنت بها وأنا الذي عنهن مُعرضا.
أتى بيّ القدرُ إليها، من كُل حدبٍ وصوبٍ.. أنا مَن فُزت بها.
وَلّيت إليها حثيثًا بعدما تخطيّت زحام العابرين والعراقيل مُضيًا ليجمعنا القدرُ.
وفي وليجة نفسي بقيتُ حائرًا، لما القدرُ ألقاني بين أحضانها؟، هل سألقَ حتفي إبان ذنب جرتهُ إليّ كي أستره، أما أنها امرأة ظلفة النفسِ لا تُقهرُ.
عَلِمَت خفايا نفسها، فَوَدت أن تُطهرُ من ماضيِ جعلها تُعيد حسابات حاضرها فطوته بغير قنوط أو ضير.
فهل أنا مُجرد فُرصة لأجل حاضر آمن لها؟!.. فقد كُنتُ أترنح بين السُبلٍ جراء ذنب ارتكبته مَن هي النصف الآخر منيّ حتى استفاقت من غُفوة سُكرتها؛ فأتيت إليها ساعيًا.
فما أعظم الاعتراف بالذنب وطيّ صفحاتهِ دون التمادي به ظنًا بأن ربّ السماء لن يغفر الذنب الفادح.
واليوم أنا في حربِ عليهم جميعًا -باستثنائها-
فحربي عليها.. مسلوبة الراء
..................................
«الإهـــــداء»
عزيزي القارئ هذه دعوة مني لمُصافحة ألمك:
"تتساءل من أين لك هذا كُله؟! إنهُ الخير الذي قدمته وأكملت طريقك من بعده، ربما نسيته فداءً لله؛ ولكن الله لم ينسَك.
فانتبه ألا تكون في حياة الناس وجعًا، كُن لهم حياة داخل حيواتهم، اجبرهم بكلمة ربما تزيدهم إصرارًا أو ربما تكون أنت الحياة بالنسبة لهم وكلماتك تُحيي بهم كُل شيءٍ، فإحياء الميت وإماتة الحي لا تقتصر على مُعجزات الأنبياء فقط.
لا تعلم كم من روحٍ أمتها بغلظة لسانك وقلبك وكم من روحٍ ارتفع شأنها بلين كلماتك يا بلسم".
(ضيّ البادية)
علياء شعبان
•~•~•~•~•~•~•
الفصل الأول..(تمرُد).
----------
بين توهجات قلبي مكثتُ أنا، ضممتُ نفسي أُلملمُ شتاتي وكأنني ختمتُ ذنبي على جسدي بذاك الوشمٍ، توهج نيران موقدِ أهون عليّ من جُرح قلبي النازف، كُنت هذه الراعية الصغيرة التي لا تُدرك عن الدُنيا سوى غنمتها الحسناء،
كتوهج ياقوتةٍ مُشعشعة في أراضيها وبها نسجت البادية ألوانها لتكون هي
"ضي البادية" وسرعان ما بدأتُ أسير بين آلام نفسي ضائعةً، طفلة فقدت الآدمية من الأقربين لها، تتوق نفسها لضلوع تحتويها وأنامل حانية تُحارب ضد عَبراتها فتتحول لضحكة رنانة، كانت طموحات هذه ذات الجدائل بمقدار ذرة ولم تنل شيءٍ، تشبثتُ بيد الحياة ابتسم بأمل وهي تنتشلني من جفاف عواطفهم الجائرة؛ ولكنها أغرقتني وحتى الآن أُعافر كي أستعيد "ذات الجدائل الناعمة" .
-----------
"البداية"
قضت قرابة الساعتين تجلس داخل حوض الاستحمام بكامل ملابسها لتنسكب المياه عليها دون أن تأبه لبرودتها، دُهشت من القسوة التي تلقتها منه بعد قسمه لها بالحب والأمانٍ، تكلمت بصوت مخنوق تُغلفه الحسرة:
-لسه هتحكموا عليّا بأيه تاني؟ هتأذوني لحد إمتى؟ لحد أمتى هتصعب عليّا نفسي وأنا ما صعبتش عليكم، أنا عايشه ليه وعلشان مين دلوقتي؟، حتى هو قتلني زيهم.. لسه ليّ كام روح فاضله علشان تخلصوا مني!
تهدج صوتها ببكاء وظلت أطرافها ترتعش، أزاحت المياه عن وجهها ثم لمست كتفها بطرف أناملها تتحسس ذاك الوشمٍ القابع عليه بوضوح، حاولت مليًا أن تتجنب نبش الذكريات التي قد تؤلمها وتوقد النيران داخل جدار روحها ولكنها دائمًا تقع بين أرصفة وعرة وأشخاص كُلفوا بحرق روحها ولذلك بقيت هي أسيرة نكستها، ابتلعت ريقها بصعوبة وفتور وهي تنتحب مُستنكرةً:
-سيبوني أعيش بعاري؟، أرحموا وجعي ما تحفروش فيه.
ضربت يسار صدرها في حُرقة وقنوط فقد قبل الله صدق تقرُبها له بينما أبَى عباده ذلك، فمن هم كي يحكموا في قضية حُسمت بأمر الله؟ أخذت تصرخ بقوة واهية وتقول:
-وقف وريحني، مش عاوزة الظروف تجبرني أموت كافرة، أقف خليني أروح لمكان أحسن من دا، أنا ماليش حد يحمي ضعفي أو يغفر ليّ زلاتي، أنا ماليش حد أعيش علشانه.
استاءت من أفعالهم وكرهت الحياة، لكم ناجت ربها حتى يقبلها فوجدت منه ما أرضاها ولكم قسى من حولها عليها بغير حقٍ؟ استحضرت ذكرياتها الماضية وقد تجهم وجهها في نفور ورفض لتستجمع نفسها قليلًا وهي تطيح بهذه الذكريات عن رأسها بعيدًا فأخذت تُحركها يمينًا ويسارًا وهي تهتف بنبرة حادة أقسمت فيها بأن تتشبث بحقها حتى الموت.
-جربي تعيشي من غيرهم وتقفي على أرض صلبة في مكان نضيف، جربي تبعدي عن الناس اللي بتحاسبك وناسيين إن في ربنا، جربي تعيشي إنتِ وذنبك اللي تمحى عند ربنا بس هم حفروه بضلالهم، هترتاحي صدقيني.
خرجت فورًا من حوض الاستحمام، أخذت قطرات المياه تتساقط عن ثيابها المُبتلة وقبل أن تغادر الحمام التفتت مرة أخرى للحوض المملوء بالمياه ثم نزعت خاتم الزفاف عن أصابعها وألقته ليغوص داخله، تنهدت تنهيدة ممدودة بعُمقِ وقد جاءت إلى مُخيلتها ذكرياتهما معًا فقد امتاز تعاشرهما طيلة الوقت بالصفاء والصبر واليوم رُمست معالم الثقة بينهما ولم يعُد هناك من معالم تُنصف ما كان بينهما لتردد بنبرة مُتحسرة تعود فيها لمسقط رأسها:
-الضي انطفا من الجسوة، وكُنت إنتَ آخر أمل يحييه.
--------------
في سيناء وخاصةً إحدى قُرى العريش التي تتميز بالنمط البدوي الخالص حيث القرية التابعة لقبيلة تُسمى "بالدواغرة ".
صدح المذياع بإحدى الأُغنيات الأجنبية فيما ظلت هي تتمايل على ألحانها بثبات وثقةً، ترنحت بحيوية من اليمين إلى اليسار في شيء من المرونة القاتلة حيث تتميز هي بقوامها البدوي الممشوق ومرونة جسدها الذهبي، ارتدت في أحد قدميها خُلخالًا ينسج هو الآخر نغمات رنانة تختلط بصوتٍ المذياع، اِنسدل شعرها البُني الحريري على ظهرها ليصل حتى نهاية خصرها وكذلك تمتلك هي عينين بُنيتين يتسعان بشدة، تُحددهما بكُحل أسود لا يُفارقهما، ارتدت بذلة رقص شرقية من اللون الأسود الحريري مُزركشة بعُملات معدنية صغيرة عند منطقة الصدر والخِصر، أخذ خُلخالها يُصدر أصوات مُتجانسة وفي لحظة ما توقفت عندما سمعت صوت صراخ والدتها التي دخلت الغرفة ونظرت إليها بعينين جاحظتين:
-أيش هاذي!، يخربيتك تشبهين الغازيات، إنتِ جنيتي إذا بيشوفك يبوكِ كذا بيجتلك.
وقفت "تقوى" أمامها في صلابة تضع كفها حول خصرها وراحت تقول مُتحديةً تهديدها:
-ايباه (أبي)؟! من وين راح يشوفني اذا إنتِ ما جُولتي له، التوب عچبني فإشتريته لچربه شو المُشكلة هْنُـه؟ ولا هاذا كمان حرام وممنوع، اللِعب حرام، المشاعر حرام، حُضن الأب لَلحمهُ عِندِكم حرام، مدري شو هو الحلال في نظركم؟!
ضغطت الأم على ذراعها بقوة وقالت تعنفها:
-تاكلين وتشربين وغير كذيه إنتِ حفيدته لشيخ الجبيلة وعن جريب راح يمسك يبوك المشيخة عن جدك، وتعيشين في أخيل (أجمل) بيت بالقرية وتركناكِ لتروحي على القاهرة وتكملي علامك بالچامعة، شو بدك أكثر من هيكا!!
ثبتت "تقوى" بصرها في مُقلتي عيني والدتها مُباشرة وقد لمعت الدموع في عينيها لتردف بنبرة مُستنكرة:
-ما بيكفيني يُما، تدري شو يلي كان يكفيني من صغري!، حُضنك وقت ما أبكي وما لجيته، حُضن أبوي وهو يطبطب عليّ ويجوليّ أنا سندك ويمسك يدي ويمشي بيّ وسط الخلج وأكون ما أني خايفة، بس تدري يُما، هو أول شخص جسا عليّ لشرخ روحي وإنتِ نفختي بالچرح لحتى تهشم وزمام أمورنا كلياتها ومستقبلنا بيد چدي.
حدجتها الأم بنظرة جامدة ثم ردت بقسوة دون أن ترق لأوجاع ابنتها:
-يبوكِ هو يبوكِ حتى لو كان مش على حج، اليوم العيد وچايينا "چاد" وأهله ليطلب يدك من يبوكِ وچدك، چهزي حالك.
أولتها "تقوى" ظهرها ثم اتجهت صوب خزانتها وهي تبحث عن ثوب لترتديه وبنبرة حانقة تابعت:
-جلت لك ما أحبه وما بفكر في الچواز تمًا، أنا ما بريد إلا انهي علامي.
نادرة بانفعال حاد بعد أن نبج صوتها بصورةٍ أعلى:
-من وجت ما سافرتي على القاهرة وتمردتي على عاداتنا ولجينا لك صوت، تتعلمي في بيت چوزك أو بلاها منه، چاد يحبك وراح يچيب لك سياچ (مهر) كيف ما تتريدي وجبيلته ناس أكرام ومعروفين وإلا ما كُنا خطبنا أُخته طيف لأخوكِ.
ردت "تقوى" بغيظ:
-وليش ما أتعلم وأنا بنت شيخ الجبيلة متل ما تجولين؟!، توجفي عن المتاچرة بيّ! تعرفين إنه ما تعلم بحياته، إيش ودك أكثر من هيكا ؟!
نادرة بثبات:
-التعليم بالراس مانو بالكراس يُما والشب عِنده چمل يشتغل بيه بالمدينة ويكسب جوته بعرج إچبينه وحافظ بدل اللُغة خمسة بغير ما يفوت على مدارس بس إنتِ بديتي تشبهين عمك بتمرده.
أسرعت تعقد شعرها على شكل كعكة مُحكمة وهي ترد برفض قاطعٍ:
-ما بيغفر له عِندي وما تحاولين أكثر من هيك، ماني متچوزة، روحي يُما، بريد غيّر تياب الغازيات ذي، الله يرضى عليكِ.
حدجتها الأم بنظرة أخيرة متوعدة قبل أن تترجل للخارج وتصفق الباب خلفها، تأففت تقوى أخيرًا وبدأت تتنفس الصعداء لتوها وسرعان ما تجسدت صورتهُ أمامها وهي تنظر للهاتف الخليوي الخاص بها بغيظ من نسيانه لها في يوم عيد كهذا، قطع شرودها الحزين صوت رنين هاتفها لتهرول إليه بلهفة وما أن نظرت إلى ماهية المُتصل حتى ازدادت ضحكتها اتساعًا، لَم يكُن هو؛ بل كانت صديقتها الوفية لها جمعتهما صداقة دامت لعامين فقد التقيتا في العام الأول من الجامعة حيث التحقتا بكُلية التربية جامعة القاهرة، كانت تقوى تشعر بالغُربة الشديدة وقتها لتلتقي "غُفران" التي أحبتها كثيرًا وعشقت لهجتها الغريبة ومن هنا أصبحتا أوفى صديقتين حيث سكنت "تقوى" في بيت غُفران الذي يجمعها هي ووالدتها فقط بعد وفاة والدها.
أجابتها "تقوى" بنبرة سعيدة للغاية :
-Forgiveness calls me؟!
-يا هلا يا هلا بالحلا كِله، وحشتيني.
أطلقت "غُفران" ضحكة خافتة وهي تستمع من جديد إلى لهجتها ومشاكستها التي تعشقها لتقول بحب:
-كُل عام وإنتِ بخير، عيد سعيد يا توتا.
تقوى وهي تجلس إلى الفراش مُضيفةً بنبرة اجتاحها الضيق:
-وإنتِ بألف خير يا عُمري، يجعلك من عوادينه، أيه أخبارك والحياة ماشية إزاي من غيري؟!
غُفران بنبرة مُشتاقة لها:
-مفتقدينك أنا وماما، البيت فضي علينا لما سافرتي، إنتِ لازم ترجعي لما الدراسة تبدأ؟ حاولي تيجي الأسبوع الجاي، ماليش مزاج لأي حاجة من غيرك.
تقوى بضيق:
-صدقيني أنا وجودي هنا زيّ عدمه، محبوسة بين حيطان البيت ووقت ما بخرج بروح على الصحرا مع طيف خطيبة أخويا ترعى الغنمات.
غُفران بنبرة مُتسائلة:
-طيب أيه رأيك ماما تكلم والدتك؟
تقوى بفتورٍ:
-هتكون مُحاولة فاشلة.
وجدتها غُفران في لحظة تجهم وغضب فقد أصبحت لا قُدرة لها على تحملِ الإهانةِ لتسألها صاغية لجوابها:
-توتا، صوتك مخنوق، أيه اللي حصل؟!
تقوى بنبرة حانقة:
-في عريس وهم موافقين عليه ويغور رأيي يا غفران، أنا لومتهم كتير على تقصيرهم ولسه شايفين إنهم صح.
حزنت غفران بشدة وأضافت:
-وناويه تعملي أيه؟!
تقوى بتحدٍ:
-هقول لأ، ولو مش عاجبهم يقتلوني زيّ ما بيهددوني بالقتل من صغري لحد ما زرعوا فيّا الوسواس والخوف دايمًا إني لو عصيت كلامهم، هموت.
غُفران بحزن:
-وليه ما قولتيش للأستاذ اللي طول الوقت يقولك بحبك ومش هتخلى عنك، خليه يتحرك بقى ويخلي الموضوع رسمي ولا هو عاجبه اللي بيحصل لك طول الوقت.
تقوى بتنهيدة مهمومة:
-غصب عنه، والده رافض يمشي له في أي جواز إلا بعد ما يتخرج وأنا لازم أقف جنبه واستحمله.
غُفران بحنق:
-أقفي ياختي لما نشوف أخرتها.
أطلقت تقوى ضحكة عالية صدح صداها في الأرجاء لتقول بنبرة خبيثة:
-المهم الدكتور اللي بتشتغلي معاه دا لسه بيزعق لك تاني بعد آخر تاتش بيني وبينه!
غُفران بملامحِ مُمتعضة:
-مش عارفة هو اللي شخصيته لزجة وبارد ولا دا ضغط شغل بس هعمل ايه بقى، أكل العيش، ما إنتِ عارفة مصاريف علاج ماما كتير.
تقوى بضحكة رنانة:
-جبتي (لزجة) دي منين؟!
غُفران تبادلها الضحك:
-من عاشر القوم!
تقوى تتذكر بحماس:
-اشتريت بدلة رقص تجنن هشيلها في جهازي ولونها أسود زي ما هشام بيحب.
غُفران بحنق:
-على الله يطمر فيه ويسعى في الجوازة.
تقوى بابتسامة خفيفة:
-أنا مش عارفة إنتِ مش بتحبي هشام ليه؟ والله دا طيب أوي وبيحبني!.
غفران بهدوء:
-هطمن له لمَّا يثبت رجولته في كلمته وأشوفك في بيته.
--------------
-شدوا الحيل يا بنات، عمي داغر وصى على الوكل، ما وكدت أعرف عدد الرجال الجالسين معه.
أردفت "نادرة" بتلك الكلمات في تحفيز وهي تجوب ببصرها بين الفتيات اللواتي يجلسن لطحن القمح في الأرحية وأخريات يشرعن في طهي الثريد لضيوف الشيخ داغر وابنه عابد "والد تقوى" وهنا أردفت إحداهن وهي تُهرول صوب نادرة:
-حماتي؟! وينه "تيسير" ما عيّد عليّ للحين!، يا لطيف ليكون نسى إني خطيبته؟
تجهمت معالم وجه نادرة وهي تجوب ببصرها بين الفتاة تتفحصها من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها وبنبرة جامدة تابعت:
-الرجال جاعد مع ضيوفنا وكإنو فاضي لك عاد، وإنتِ شو بتسوي هون؟ خطيبة تيسير الداغري ما تخدم على حدا، إنچري وراي أو اجعدي حدا ذيك المتمردة.
أومأت "طيف" برأسها في توتر فهي تخشى غضبها كثيرًا وتسعى دومًا لإرضائها، لأن رضا هذه السيدة الصارمة يجعل ابنها مُتمسكًا بها، فكم تعشقه وهو لا يُبالي بها!، هي مُجرد فتاة اختارتها له والدته لتُنجب له أطفالًا وكذلك لتوطيد العلاقات بين القبيلتين؛ فهي ابنة آل الحورنات.
--------------
جلس الشيخ داغــر بصُحبة ابنه عابد وحفيده تيسير بديوان عائلتهم حيث يُسمى بديوان عائلة "الدواغرة" يجتمع فيه أبناء القبيلة في المناسبات وحل النزاعات وغيرهـا، يأتيهم من حين إلى آخر أحد الإعلاميين لرصد عادات الاحتفال على الطريقة البدوية والتلذذ بالثريد الذي لا يُجيده سوى البدو بعد أن يُقيمون الذبائح احتفالًا بالضيوف، فقد عُرف عنهم بأنهم أهل الكرم والضيافة، امتد حديثهم حتى طال المشاكل التي يواجها بدو سيناء من تهميش لهم ولحقوقهم وهنا أردف الشيخ داغر بنبرة ترحيبية:
-يا مرحب بضيوفنا اللي إچونا.
الضيف بابتسامة خفيفة:
-الله يعزك يا شيخنا، بس أنا شايف تطور في القرية عن المرة اللي فاتت!,
الشيخ داغر وهو يومئ برأسه مؤيدًا إياهُ في ثبات:
-معك حج، اهنا يابني لا في ميّ ولا صرف ولا حدا سائل فينا، كُل هاد احنا عملناه بمچهودنا، حتى الحكومة ما سائله فينا، شايفين البدو جُطاع طُرج وجتالين جُتلى ونسيوا إن البدوي بن آدم وكُل بن آدم في كُل مكان فيه الخير والشر، فليش مانهم معترفين بينا.
هزّ الضيف رأسه بخفة وبنبرة هادئة تابع:
-طيب والمدارس!، أنا شايف إن في مدارس كتير اتبنت.
الشيخ بثبات:
-موچودة المدارس، بس حجنا كمصريين وينه! الكهربا والميّ ما بيجوا وكُل القرية على خط واحد يادوب يضوي في الليل ووجت المغربية لما بنعود بغنماتنا من الصحرا بيكون معنا مصابيح صغيرة حتى عواميد الكهربا ما في.
الضيف بتفهم:
-صوتك هيوصل إن شاء الله يا شيخ داغر ولينا حلقة معاك في برنامجنا بس انت خليك على الوعد.
قهقه الشيخ الكبير في ثبات ومن ثم تابع بنبرة هادئة:
-لا تجلج وإنت منورنا لتحضر معانا مدود الجصلة (ربط كلام ) لحفيدتي.
الضيف بنبرة سعيدة:
-مُبارك وعلى خير يا شيخنا، كلمني بقى عن الخطوبة والقايمة والمهر والكلام دا كُله عندكم!.
الشيخ بتفهم مُستأنفًا حديثه:
-المهر عندنا اسمه "سياچ" وحدانا لازم السياچ يليج بمقام بنتنا؛ لكننا نرفض الجايمة في عاداتنا لتونا نشتري راچل وحجنا إذا جصر عاد بناخده بالجعدات لما يتلم المشايخ.
الضيف بضحكة خفيفة:
-ربنا ما يجيب مشاكل، يعني أنا لو فكرت أتجوز بدوية أبيع اللي ورايا واللي قدامي علشان المهر!
الشيخ داغر بقهقهة خفيفة:
-لأ يا وِلد، حدانا متل بيجول، يا ماخذ الجرد ع ماله، بيروح المال وبيضل الجرد ع حاله، إحنا بنقدر بردو حالة الرچال.
------------
-بتحبها يا هشام؟!، جاوبني! بتحبها!
أردف "شادي" وهو يستقل السيارة مُنطلقًا بها في سباق مع صديقه "هشام" في بهو فيلته. هشام وُلد عن عائلة ثرية، يدرس الهندسة بجامعة القاهرة في السنة الأخيرة، التقى بشادي الذي يدرس معه أيضًا وقد اتخذه شادي خليلًا لشدة غناهُ، أمـا شادي فهو من عائلة فقيرة تُشبع حاجيات نفسها بالكاد وتُعتبر صداقتهما دائمة التوتر حيث أن هشام مُصاب بمُتلازمة "الطبقية " فيتعامل مع صديقه على هذا النحو، توقف "هشام" بسيارته فجأة حتى أصدرت صريرًا عاليًا وتابع حديثه بحنق:
-أه بحبها ومش فاهم سر فضولك ناحية حاجة متخصكش!.
رمقهُ شادي بنظرة ثاقبة ليُردف:
-من أمتى بتعمل حاجة "نادين" هانم مش عايزاها؟
تجهمت معالم وجه هشام وقال بحنق وهو يفتح باب السيارة مُترجلًا خارجها.
-مين فهمك إن نادين هانم مش موافقة على تقوى!، بالعكس تقوى عجينة سهلة لأمي تشكلها على راحتها وحلوة زيّ ما أنا عايز دا غير إنها ساذجة وكلمتي مسموعة عندها وهي يوم ما فاقت على الدُنيا شافتني أنا، يعني أنا بالنسبة لتقوى الدُنيا وغيابي يقتلها، أمي هتعوز ايه تاني.
شادي بنبرة خبيثة:
-أه يعني علشان هي بنت غلبانة وملهاش تجارب شايفين إنها فُرصة، طيب ولما هي موافقة ما خطبتهاش ليه؟!
هشام بنفاد صبرٍ:
-أسئلتك مضايقاني فبلاش أقلب على الوش التانى فمتلاقيش النِعم دي كُلها يا صاحبي!!
ضيق شادي عينيه حنقًا ليفتر ثغرهُ عن ابتسامة مُتهكمة وراح يقول:
-إنت خليت فيها صاحبي.. سلام.
قام " شادي" بصفع باب السيارة ومن ثم أولاهُ ظهره ماشيًا من أمامه.
----------
-سرحانة في إيه وما بتاكليش!
أردفت "شريفة " والدة "غُفران" بتلك الكلمات أثناء جلوسهما حول مائدة الطعام، انتبهت غُفران لحديث والدتها لتترك شوكتها جانبًا وراحت تقول بحُزن:
-تقوى جالها عريس يا أُمي، والمرادي أهلها مُقتنعين بيه جدًا وأنا خايفة أوي أهلها يمنعوها ترجع وتكمل تعليمها.
ردت شريفة بتساؤل:
-طيب وهشام؟! ما أخدش خطوة ليه لما عرف الكلام دا!
غُفران وهي تزفر زفرة طويلة يملأها الحنق:
-إنتِ عارفة يا أُمي إني مش بطيقه ولا برتاح له، بس هي بتحبه أوي ومتعلقة بيه بطريقة غريبة، تقوى مريضة بحبه، دا لو قالها إرمي نفسك في البحر مش هتقول لأ، الحُب اللي زيّ دا بيقتل.
شريفة بحيرة:
-طيب ولما هما بيحبوا بعض، إنتِ ليه خايفة؟!
نكست غُفران ذقنها يائسةً وراحت تردف بملامح حزينة:
-أنا خايفة عليها يا أُمي من نفسها، تقوى شافت كتير في حياتها من جبروت أب وأُم عمرها ما احتوتها، ضرب وإهانة علشان هي بنت وعيلتها ليها كيان هناك، تقوى لو كانت لقت الاحتواء والحُب منهم مكنتش دورت عليه برا، ولا جريت لأول واحد قالها بحبك، بس هي كانت صفحة بيضا ملهاش تجارب وكأنها ما صدقت بعدت عنهم وانفتحت على الناس ودلوقتي بتنتقم منهم بإنها تفرض عليهم جبروتها وإنها مش فارق معاها وبعدين يا أُمي أنا خايفة مايكنش هو بيحبها، دي ممكن يجرا لها حاجة.
أجابتها شريفة بنبرة هادئة:
- تقوى بنت جميلة ومُثقفة وبعدين إحنا جنبها وهي كمان قوية.
غُفران وهي تقتبس بعض الطمأنينة من حديث والدتها:
-ربنا يستر.
--------
-هررر.. هررر.. حلجي عليه يا تجوى، حلجي!
أردفت "طيف" بتلك الكلمات وهي تهرع صوب الماعز تجمعهم ناحية المرعى من جديد، حدجتها "تقوى" بغيظ ثم أردفت وهي تجلس إلى صخرة كبيرة:
-ما راح حلج، ماني جاية معك لحلج على غنماتك يا غراب!، إجيت لأهرب من وچوههم وألعب مع غنماتي لصغار.
اتجهت "طيف" وجلست بجوارها وبنبرة سعيدة رددت:
-جولتي لي راح تورچيني حبيبك، وينو ها!
رمقتها "تقوى" بتفهم، وراحت تنظُر يمينًا ويسارًا من خلف برقعها الذي زُين بعُملات معدنية ذهبية اللون ومن ثم أردفت بلهجة قاهرية:
-اتهدي هتفضحيني بصوتك العالي دا.
أسرعت " تقوى" بإخراج هاتفها الذي خبأته في جيب بنطالها القابع أسفل جلبابها الأسود وما أن وجدت صورته حتى وضعتها أمام مرأى عيني طيف التي صرخت وهي تنظُر للصورة بانبهار:
-زيــــــن، شو هاد؟ مدري وش ياكل، كيف القمر يا بنت.
ابتسم "تقوى" في صمت بينما غمزت الأخيرة لها وهي تقول:
-عايّدك اليوم يا بنت؟!
تقوى بحُزن:
-ما عايدني يا طيف.
طيف وقد كسا الحُزن قسمات وجهها:
-تيسير ما عايّدني، أخوك ليش ما يحبني!
أطلقت "تقوى" قهقهة عالية يشوبها الحسرة وبنبرة جامدة أردفت:
-أخوي ما يحبني، يشوفني عار، البنت في جبيلتنا آلة تنجب وبس، ما تحب ولا تتوجع ولا تجول الآه ، كيف راح يحبك إنتِ!
توقفت "تقوى" عن الحديث وهي ترى حية صغيرة الحجم تقترب ناحيتهما، نهضت على الأثر في مكانها بينما صرخت طيف بنبرة مُولولة:
-الحجونا.. يُما.. يُما حية ..وين رايحة يا بنت بعدي لتطبي فيها.
مشت "تقوى" صوبها في سعادة شديدة، أخذت تطلق قهقهات رنانة على حال صديقتها وما أن اقتربت من الحية حتى جثت على رُكبتيها وراحت تنظُر لها بثبات وهي تهتف:
-بجرب أموت متل كليوباترا، مدري شو طعم السم؟، ما راح يكون أمر من حياتي.
طيف بصراخ وفزع:
-جنيتي يا بنتي، تعي لهون أبوس يدك.
أمدت "تقوى" كفيها حتى أمسكت بجسد الحية بين يديها لترفعها أمامها وراحت تُقرب وجهها منها فيما هتفت طيف بصرخة أخيرة قبل أن تغيب عن وعيها:
-لا تبوسيها، راح تموتي يا تجوى!
أنت تقرأ
رواية "ضي البادية".. حرب مسلوبة الراء.
Romance"المقدمة" فُتنت بها وأنا الذي عنهن مُعرضا. أتى بيّ القدرُ إليها، من كُل حدبٍ وصوبٍ.. أنا مَن فُزت بها. وَلّيت إليها حثيثًا بعدما تخطيّت زحام العابرين والعراقيل مُضيًا ليجمعنا القدرُ. وفي وليجة نفسي بقيتُ حائرًا، لما القدرُ ألقاني بين أحضانها؟، هل سأ...