الفصل السادس عشر.. (هي والطوفان).
--------
ثمة ظلامٌ في هيئة إنسان يسير بين الخلقِ وكأنه رُبان وأخرى بروح طيبة ترتدي وشاحًا فيظنه الورى آثام، لنبقى بأحكامنا جائرين ومن ثم العبرة بالخواتيم.
-----------
انهارت "نادرة" جالسة بالأرض تلطم وجهها تارة وأخرى فخذيها في حالة هستيرية، تعجبت من طلب ابنتها عندما أمرتها بأن تفتح سحاب حقيبة سفرها الجانبي وتُحضر لها اختبار للتحقق من وجود حمل أو لا، توقف مُحرك عقلها عن التفكير آنذاك ولكنها انصاعت لما قالته وكانت النتيجة؟!، فتاة لم تتزوج بعد تُجري اختبار حمل وتكون نتيجته إيجابية، هتفت نادرة من وسط بكائها قائلة:
-إنتِ تچوزتي يا بنيّتي بغير علمنا؟!
رفعت نادرة بصرها إلى ابنتها المُتصلبة في مكانها ترمقها بأمل، وَدت لو تُجيبها تقوى بـ "نعم" أهون عليها من أن تكون ابنتها قد ارتكبت معصية، لم تُفكر أبدًا لربما ابنتها لم ترتكب شيئًا بل مجرد ضحية فحسب تقهقرت تقوى بجسدها المرتجف إلى الخلف فما زالت أسيرة الصدمة فيما عادت نادرة تصرخ من جديد بها:
-احكي، كيف إنتِ حامل يا بنت!
همّ أن يطرق الباب ولكن صدمته من هذه الكلمة ألجمته عن الحركة، فتح عينيه واسعًا وقد صعد الدم إلى رأسهِ وقد تأججت نيران غضبه وصدمته في آن واحد ليفتح باب الغرفة باندفاع وبنبرة ثائرة قال:
-مين حامل؟
شهقت نادرة بصوت عالٍ وهي تضرب صدرها بقوة بينما سقط الاختبار من يد تقوى ومضت تبكي بصوت مكتوم، اندفع إليها تيسير بكُل ما أوتي من قوة ما أن وقعت عيناه على هذا الاختبار ليحيط عنقها بقبضته وبنبرة أشبه بفحيح الأفعى هدر:
-كيف إنتِ حامل؟!
سقطت الأكواب من يدي طيف وهي تحملهم في طريقها إلى المطبخ لتسمع صوت صراخه وتأتي لتتفقدهُ، نظرت إليهم بعينين جاحظتين فيما ظل الأخر يضغط على عُنقها بعنف قائلًا:
-حامل من مين يا فاجرة؟ ولا ما عُدتي تحددي وبتاخدي كام في الليلة!
انهمرت الدموع من عينيها وهي تقاوم بأقل جهد منها، بقيت عيناها مفتوحتان بقوة وأوشك الأكسجين على الانسحاب من حولها، أخذت طيف تصرخ به باكيةً ترجوه أن يبتعد عنها بينما زحفت نادرة بساقيها إليه ثم أمسكت أحد ساقيه تستجديه بأن يتركها وشأنها:
-بعد عنها يا تيسير راح تموت بيدك، الله لا يسامحك يا بنيّتي.
أزاح تيسير والدته عنه بقوة، أرخى قبضته عن عُنقها ثم انهال عليها بالصفعات حتى سقطت أرضًا، كانت في حالة سكوت مُخيفة لم تُصدر حتى صوتًا متأوهًا، عيناها تسيل بالدموع فقط وما أن انهارت أرضًا بفعل صفعاته حتى همّ أن يركلها بقدمه في بطنها ليجد قوة تدفع به بعيدًا عنها، استعاد تيسير توازنه من أثر الدفعة ليجد أيهم ينظُر إليه بعينين حادتين وما هي إلا ثوانٍ حتى انقض عليه يكيل له اللكمات والصفعات المميتة وكأنه فقد عقله كُليًا، ذُهل تيسير من تدخله في الأمر ولكنه بدأ يدافع عن نفسه ليشتد القتال بينهما وهنا هتف أيهم قائلًا وهو يضغط على عنق الأخير بكلا كفيه:
-هقتلك لو قربت منها تاني يا تيسير.
تيسير وهو يرد له اللكمة فبدت ضعيفة قليلًا:
-والله لأشرب من دمها، هاذي زانية عقوبتها الموت، وچيانا بكُل وساخة تجول إنها "حامل".
تأذت من كلمته بصورة كبيرة لتقوم بوضع كفيها على أذنيها وهي تجهش بالبكاء بصوت صاخبٍ يخالطه رجفة ذات إيقاع متوسط لتقول بنبرة متألمة:
-أنا معملتش حاجة، سيبوني في حالي.
هرولت إليها طيف تحتضنها بقوة فيما دفنت الأخرى وجهها بين جنبات صديقتها، ظلت نادرة تنظر إليهم جميعًا في صدمة وصمت في حين توقف الأخيران عن العراك في دفعة قوية من تيسير له لينهض من فوقه، أسند أيهم ظهره بالحائط في حالة استسلام كامل فقد أُجهد من الصدام مع تيسير أو بالأحرى استسلم عقب سماعه كلماتها.
نهض تيسير من مكانه ثم أقترب منها ليدفع طيف عنها وأمسك بذراع شقيقته هاتفًا بلهجة آمرة:
-فِزي معاي، خلينا نتحاسب.
طيف ونادرة في آن واحد، يبدو أنهما تفهمانه جيدًا:
-لوين؟
حدجهما بنظرة صارمة دون أن يتفوه بكلمة فيما هزت تقوى رأسها برفض وذعر، رفع كفه كي يضربها حتى تنصاع له ولكن قاطعه صوت أيهم الثابت:
-لو فكرت تقرب لها تاني هأذيك، سامعني يا تيسير!
لم يمنحه فرصة الاندهاش مما يقول ليقبض أيهم على ذراعه بقوة وبنبرة عدوانية استأنف: -اخرج برا، وأنا هشرح لك الموضوع كله، اتفضل!
قاطعه تيسير بضحكة عالية مُتهكمة ليجابه أيهم بعينين حادتين وهو يقول بنبرة صارمة يظن بأنها تبعث الرعب في نفس الأخير ولكنها تبعث فيه الرغبة في قتله ليقول في حنق:
-مالك داخل علينا حامي هيك، تبغى تعيش دور ابن العم المنقذ ولا ليكون إنت اللي حبلتها؟ اديت لهذي الفاجرة كام بالليلة طالما إنك عارف كُل الموضوع!
ضغط أيهم على عينيه ومن ثم كور قبضة يده بانفعال، ما عاد يستطيع كظم غيظه أكثر من ذلك، رفع قبضته ثم باغته بلكمة في أنفه نزف على أثرها ليهتف أيهم بصوت جهوريٍ:
-برا!!!!!
رمقهُ أيهم بنظرة بغيضة، فيما كبلت نادرة ذراعي ولدها تحثه على السير للخارج حتى لا يتضخم الأمر أكثر من ذلك وما أن وصل تيسير إلى باب الغرفة وكاد أن يتخطاه حتى التفت إليها ثم بصق أمام وجهها وهو يقول بنبرة عدوانية تحمل في طياتها الكثير:
-عاصية.
ضغط أيهم بسبابته وابهامه على كلتا عينيه، بصعوبة يتحكم في أعصابه التي هُدرت في مجابهة هذا المريض من وجهة نظره، التفت إليها باختناق وهو ينفض ذراعيه في الهواء، أوشكت محاولاته في علاجها قاب قوسين أو أدنى أم أنها باءت بالفشل، زفر بتعب وهو يتجه إليها ثم أردف بنبرة هادئة:
-بعد إذنك يا آنسة طيف، اعملي لها ليمون دافي.
اومأت طيف برأسها في تفهم، أسرعت بالامتثال لأوامره فيما جلس هو أمامها القرفصاء يرمقها بأسى فقد انكمشت على نفسها كجنين مُكتمل النمو في رحم أمه، لم يكُن أمامه إلا تحدي المخاطر كيلا يفقدها حتى وإن خالف مبدأه في تأييد الحرب ولكنه سيقاتل من أجلها، توقدت النيران داخل جدار روحه وهو يجدها تأن في صمت دون أن تنظر له.
-تقوى، ممكن ترفعي وشك؟ بصي ليّ عاوز أقولك حاجة مهمة.
رفعت بصرها تنظُر إليه بعينين ارهقهما كثرة البكاء وبنبرة منكسرة قالت:
-لو انتحرت هموت كافرة، هو انا كُنت ناقصة شقى علشان يجيني طفل من المريض دا؟ طفل من ذنب؟ طفل مش شرعي!
تنهد تنهيدة قوية لم يعد قادرًا على الصمود أمام ضعفها، لشدّ ما يحزنه أنها لا تجد من يسمعها أو ينصت إلى ضعفها في منزل سُرقت منه الآدمية بالفعل، يعترف داخل خبيئة نفسه بأن قوته تنهار أمام ضعفها وبحركة تلقائية منه بادر بضمها إليه ومضى يُقبل رأسها قُبلة طويلة ذات لهيب ساخن وكأنه يتوعد بشيء ما فيما لم تقاومه حتى، فقط ازداد بكائها فدائمًا ما احتاجت إلى من يحتوي عثراتها وسقطاتها، احتاجت من يرشدها إلى الصواب قبل أن يعد عليها أخطائها.
---------
-في أيه يا عم هشام، إنت من أمتى بتخبي عليّا مكانك!
أردف شادي بتلك الكلمات وهو يتوسد أحد ذراعيه مُستلقيًا على الفراش وبالآخر يضمها إليها، استرقت السمع إلى حديثهما في صمت تام بينما جاءه صوت هشام الغاضب:
-أنا لا بخبي عليك ولا نيلة، كُل الحكاية إني جاي على بالي أبعد لوحدي.
أطلق "شادي" قهقهة عالية بعض الشيء ليتنحنح بثبات وبنبرة جامدة قال:
-تقعد لوحدك بردو ولا خايف من ريّان ومعارف تقوى!
هشام بتهكم :
-معارف تقوى مرة واحدة؟! يابني هي دي ليها أهل يعبروها، مفيش غير ريّان خطيب صاحبتها ودا حسابه تقل أوي معايا.
بدا الحنق على وجه شادي من أفعال صديقه، جاهد في إخفاء ما يعمل في قلبه بابتسامة باردة وهو يقول:
-وإنت عليك من دا بأيه يا صاحبي؟!
وفي هذه اللحظة زفر هشام بقوة حتى اندفع صوت زفيره عبر الهاتف ليخترق أذن شادي وبنبرة منفعلة قليلًا تابع:
-اخلص يا عم شادي، وصلت لحاجة بخصوص البتاع اللي بيسأل عليا من وقت للتاني دا؟
شادي بنبرة هادئة:
-البتاع دا اسمه أيهم بيّار عبد العظيم الداغري وبعد تحريات أتضح أنه ابن عم تقوى.
هشام بنبرة ساخطة:
-أهو دا اللي كُنت ناقصه، أنا هتصرف، المهم إنت بتعمل أيه من غير سهراتنا!
شادي بضحكة خبيثة:
-مش أنا سمعت كلامك يا صاحبي وجربت اللي ما كُنتش عاوزه أبدًا.
أطلق "هشام" صفيرًا عاليًا ألحقه بضحكة مُغتبطة لنجاحه في إقناع صديقه على سلك ذاك الطريق، لا يعلم بأن صديقه اختار الطريق الذي سيذبحه به وهنا تابع هشام بخبث:
-عايزك تستمتع على الآخر وتعيش حياتك.
التفت شادي بوجهه إليها نصف التفاتة ليجدها قد ملت التنصت ووضعت رأسها على صدره، مال قليلًا بوجهه ثم لثم جبينها وهو يغمغم بنبرة هادئة:
-مستمتع.
----------
مرَّ ثلاث ساعات تقريبًا منذ لحظة استيقاظها، فلم تكن تتمكن من النوم إلا بعدما أعطاها مهدئًا، انزلت نادرة الملعقة في الصحن مرة أخرى وهي تقول بنبرة مهمومة:
-ما راح تاكلي من يدي يا تجوى!
اشاحت تقوى بوجهها للجهة الأخرى، سال الدمعُ من جانب عينيها، تنظُر إلى الجبال التي بالكاد تراها من نافذة الغرفة في شرود وبنبرة منهكة قالت:
-ما راح.
كان يقف أمام باب الغرفة مستندًا إلى مقبض الباب، تنهد بخفة ثم قاطع حديث نادرة الذي انتهى بإشارة من يديه ليتجه إليها ثم يجلس إلى طرف الفراش أمامها، التقط الصحن من والدتها ثم نظر إليها وهو يقول بنبرة مرحة:
-يلا ناكل ولا مفيش خروج؟
التفتت إليه تقوى بهدوء وعينين تلمعان بالأمل لتقول بنبرة خافتة:
-هتمشيني من هنا!
أيهم وهو يومئ برأسه إيجابًا:
-أوعدك بس كُلي الأول.
أنهى كلامه ثم رفع الملعقة إلى فمها لتتناول ما بها، ظل يختلس إليها النظرات دون أن تلاحظه فقط ليشبع عواطفه التي تحرقت شوقًا لامتلاكها دون أن يكون لأحد من بني البشر سلطة عليها سواه وبعدها لن يسمح بشبح من الحزن يمر أمامها، انتهت من طعامها ليناول الصحن إلى والدتها التي ظلت تراقب ابنتها بنظرة أسى وحُزن، نهض أيهم عن طرف الفراش ثم تابع بحسم:
-هنزل أشوف جدي لأنه طلبني وراجع لك.
أومأت تقوى برأسها في خفة وابتسامة هادئة داهمت ثغرها، اندهش لوهلة مما فعلت ولكن قلبه وقتها قد أُقتُلع من مكانه وعاد يحمل معه دفء ابتسامتها، اتجه على الفور إلى حجرة الضيافة الواسعة.
وجد الشيخ يجلس في همّ وشرود ويحاوره هاذان؛ الأب وابنه من نفس فصيلة القلوب المتحجرة التي نخرتها أفعالهم، تنهد بثبات وهو يقول:
-خير يا جدي!
عابد بنبرة عالية وصارمة:
-ومن وين هيچينا الخير!
أيهم بنبرة ثابتة:
-الخير ما بيجيش لأعدائه.
تيسير وهو يهدر به في انفعال حاد:
-خلص، كيف حِبلت هالزانية؟
قبض أيهم على مقدمة رأسه بقوة وهو يطلق زفيرًا حارقًا، كور قبضته مصوبًا بصره إلى هذا الأبله، مشى إليه بخطوات ثابتة ثم مال بنصفه العُلوي قليلًا حتى حاوط المقعد الذي يجلس عليه تيسير بذراعيه، نظر إليه شزرًا وبنبرة رخيمة تابع:
-هقطع لك لسانك لو اتجرأت على تقوى بكلمة تاني خصوصًا إنها هتكون مراتي وإنت عارف بقى الشرقي القفل اللي مش بيستحمل كلمة على مراته.
استقام في وقفته من جديد وهو يربت على كتفه بقوة يحذره وبنبرة هادئة تابع:
-أنا طالب إيد تقوى على سُنة الله ورسوله.
#ضي_البادية
#علياء_شعبان
أنت تقرأ
رواية "ضي البادية".. حرب مسلوبة الراء.
Roman d'amour"المقدمة" فُتنت بها وأنا الذي عنهن مُعرضا. أتى بيّ القدرُ إليها، من كُل حدبٍ وصوبٍ.. أنا مَن فُزت بها. وَلّيت إليها حثيثًا بعدما تخطيّت زحام العابرين والعراقيل مُضيًا ليجمعنا القدرُ. وفي وليجة نفسي بقيتُ حائرًا، لما القدرُ ألقاني بين أحضانها؟، هل سأ...