الفصل التاسع.

97 9 1
                                    

الفصل التاسع.. (ولادة حُب).
---------
لا تتجردي عن مبادئكِ حتى لو حرمتك الدنيا السعادة، لا تكوني تلك التي تخلت عن دنياها وآخرتها في آن واحد، أعلم أن جميعنا بداخلنا جُرح عميق ولكن لا تكشفي غطائه؛ فتندمين، وبإرادة حُرة كُنت أود لو لا تستسلمين، أعلم أن دونكِ أهوال وأنا المُتضرر لو تعلمين، الله ضرك، فإن بنفسكِ الضعيفة لشرايين قلبي تحرقين.. يا بعيدة.. استحلفكِ بأن تستيقظين، فإنني أتأرجح جراء ذنبك كالضالين، تسأليني من أنا؟!
أنا الذي في هواكِ تعذبين، انا الذي حفظ الفؤاد لمُحبته ومُحبته له تُهين.. أنا الأيهم في سواد بلا نجمات.. أنا السهل المُندفع بلا وقفات.. أنا الحياة.. انتظريني.
-------
انكمشت قسمات وجهها وهي ترمقه بنصف عين تُحاول ألا تتزعزع أمام سؤاله، تنحنحت قليلًا قبل أن تستعيد بحة صوتها التي كادت أن تفقدها لتقول:
-وإنت من وين عرفت إنّي هربتها لتجوى!!
افتر ثغره عن ابتسامة ظهرت على جانب فمه يشوبها التهكم، أمسك ذقنها برفق غير مُطمئن وبنظرة غامضة وصوت أجشٍ قال:
-مفيش كُونة "سر" تتخبى عن تيسير يا طيف، وش مصلحتك يا بنت الحورنات!
طيف وهي تبعد ذراعه عنها بحنق وثبات:
-تجوى خيتي وما أبغاها تنضر، مدري كيف قلبك أجسى من الحجر ذاته؟ هاي أختك يا تيسير، من وين يچيك قلب تقتلها!
تيسير بعصبية مُفرطة:
-هالبنت كيف المصيبة بينّاتنا، راح نرتاح عاد لو روحها فارقتنا.
ردت بانفعال كبيرٍ:
-يلعن القلب اللي يحبك، حتى دبلتي ما عاد أبغاها.
----------
جلست هذه الفتاة خلف المكتب، وضعت قدمًا فوق الأخرى وقد أخرجتهما عن حدود المكتب وأمسكت بين كفيها مرآة للزينة وبدأت في وضع أحمر الشفاه ذي اللون الكرزي على شفتيها حتى أصبحتا أكثر إغراءً، رمقتها غفران بعينين جاحظتين ثم تقدمت إليها بخُطوات بطيئة ثم وقفت أمامها وقامت بالضرب على المكتب بقبضتها، أخيرًا انتبهت لها الفتاة التي انتفضت وهي تنظُر لها بحنق ثم قالت:
-في أيه؟!
مالت غفران بجذعها العلوي قليلًا لتعود الفتاة بجسدها للوراء تظن هذه الواقفة قبالتها من ذوات العقول الخفيفة وهنا أردفت غفران بنبرة هادئة ولكنه هدوء ما قبل العاصفة:
-مركز أبو نواف للتجميل والنفخ والشَّد؟!
هزّت الفتاة رأسها ذا الخصلات الذهبية يمينًا ويسارًا ثم قالت بتلعثم:
-لأ، دا مركز دكتور ريان الشُهبي جراح عيون.
تابعت غفران بمكر:
-بيقولوا حالة الطقس مش ولابد، هو إنتِ مش بتبردي من سيقانك اللي شبه سيقان علي بك الكبير!
الفتاة بصدمة:
-نعم؟!
غفران وهي تهتف بها في عصبية:
-نعم الله عليكِ، لابسة محزق وملزق وقاعدة تتزوقي ليّ وواخدة راحتك على الآخر، والنبي حلو الحوار، أهو العيان يجي لنا عينه وجعاها يشوفك يرجع له نظره 6/6 ما شاء الله، الأستاذة مرهم عيون!.
فتحت الفتاة فمها وهمّت أن تتحدث فيما أضافت غفران وهي تشير لها بسبابتها:
-أنا اللي شغاله هنا في المركز وإنتِ قاعدة على مكتبي، يلا زيّ الشاطرة كده خدي بعضك وروحي وأبقي دفي نفسك إحنا في الخريف والجو رياح، إلهي تدفي في نار جهنم يا بعيدة.
قالت جملتها الأخيرة بنبرة خفيضة، رمقتها الفتاة شزرًا ثم أردفت ببرود:
-ما أقدرش أمشي إلا بإذن دكتور ريّان.
غفران بنبرة حادة:
لا ما دكتور ريّان هو اللي بلغني أمشيكِ.
همَّت الفتاة أن تتكلم؛ ولكنها أوقفتها وهي تردف بحدة:
-كفاية رغي يا مرهم هانم عندنا ناس عيانة.
انصاعت الفتاة وارتدت حقيبتها ثم غادرت فيما جلست الأخرى على المكتب وهي تلوي شدقها بحنق وتقول:
-جاتها القرف، شككتني في أنوثتي.
----------
تلاقت أعينهما وطالت النظرات بينهما بين هائمة به ومستلذ بخيانة ثقتها، لم يكن يأسرها هي فقط بل هو محط أنظار جميع الفتيات اللواتي يجلسن في الطاولات الأخرى حولهما داخل هذا المطعم الشهير.
-عجبك الأكل؟!
أردف هشام يسألها بثبات وتمعن في ملامحها، فيما تابعت هي بفرحة واضحة:
-حلو جدًا، بس إنت بتحب تيجي هنا على طول!
هشام وهو يومئ برأسه إيجابًا:
-معظم أكلي هنا.
راقبت تقوى الوضع من حولها ثم عادت تنظُر له بنفاد صبرٍ:
-شهرتك واضحة أوي والعيون مش بتتشال من عليك!
هشام غامزًا لها بغزل:
-وأنا مش شايف بنات وإنتِ موجودة، قولي ليّ بقى ناويه تعملي أيه بالليل؟!
مطت شفتيها وهي ترفع كتفيها ثم تُنزلهما بلا شيء:
-هقعد مع غفران وماما شريفة نشوف فيلم أو مسلسل.
هشام بابتسامة هادئة:
-طيب أيه رأيك نروح رحلة نيلية بمركب، أنا وإنتِ وبس!
تنحنحت تقوى قليلًا قبل أن تردف بهدوء تعتذر منه:
-للأسف مش هينفع علشان ماما شريفة رافضه دا تمامًا وإني أكون برا البيت بعد الساعة 10 لو قبل كده ماشي.
هشام بعصبية خفيفة وهو يُلقي أدوات الطعام جانبًا:
-هي شريفة دي من بقية عيلتك!، إنتِ مش ملاحظة أنهم مُتحكمين في كُل تحركاتك!
تقوى وهي تبتلع ريقها بحُزن ثم استرسلت تقول وهي تنظر إليه باسمة:
-الناس فتحوا ليّ بيتهم وحبوني يبقى أنا لازم أحترم رغبتهم يا هشام، بلاش تكون ضد حاجة في مصلحتي.
تنفس هشام الهواء داخله ثم أخرج زفيرًا حارقًا ليهدأ قليلًا ثم التقط كفها يُقبل ظاهره بحنان مُزيف:
-أنا آسف، بس إنتِ وحشاني وحابب أقضي معاكِ وقت أطول مش مُجرد عشا في مطعم ربع ساعة وخلاص!
تقوى وهي ترمقه بعينين عاشقتين:
-بحبك جدًا يا هشام.
هشام وهو يغمز لها بحماسٍ:
-تعالي، هنروح مشوار مهم.
انتصب "هشام" واقفًا بحماس بالغٍ بعد أن وضع النقود على الطاولة ثم جذبها من ذراعها مُنطلقًا بها إلى خارج المكان.
-------
جلسا داخل أحد المحلات الخاصة بالرسم كأنواع الوشم والحناء وغيرهما، تخضبت وِجنتيها باللون الأحمر القاني وهي تُظهر الجزء العلوي من كتفها أمام الرسام، بدأ الأخير في نحت الوشم الذي يشبه ذاك القابع على كتف هشام فقد أقنعها بأن هذه المُفاجأة ستربطهما ببعض إلى أجل غير معلوم فيكفي أن يتشابها في كُل شيء.
- مش قادرة يا هشام، إنت إزاي استحملته، خلاص مش عاوزة أكمله.
قام بالربت على كفها بعد أن أرسل إشارة للرسام بأن يواصل عمله، ثم أردف بنبرة هادئة:
-اهدي، أنا جنبك.
تقوى بألم رهيبٍ:
-لسه كتير!
هشام بنفاد صبر:
-إنتِ طفلة زيادة عن اللزوم، وشكل المُفاجأة مش عجباكِ.
تقوى بشهقات مُتقطعة:
-أنا كُنت فاكرة إن الوشم دا حنة، لكن اللي بيحصل دا حفر في جسمي.
هشام بضحكة خفيفة:
-هتعجبك لما تخلص ولا إنتِ مش عايزة حاجة تفكرك بيّا كُل شوية؟!
ارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة ارضاءً له، ثم هزّت رأسها بما يود أن يعلمه منها دون أن تنبس ببنت شفةٍ.
--------
_ غُفران؟!
نادى اسمها في دهشة فاليوم هي في إجازة بعد موافقته! وأين هذه الجديدة!.. عقد جبينه لوهلة فيما رفعت بصرها عن الأوراق لتنظُر إليه بثبات:
-بصراحة محبتش إن حد يلعب في شغلي فقررت أجي.
انفكت عقدة حاجبيه من جديد، يعتلي قسمات وجهه الذهول، ثم تابع مُضيقًا عينيه في شك:
-طيب والبنت فين؟!
غفران بحنق واستنكار:
-مشيتها وبعدين إنت جايب واحدة تشبه لنا المكان!
رد باستغراب:
-أنا مكنتش لسه شوفتها من الأساس، وبعدين بطلي رغي وخليكِ في شغلك.
لوت "غفران" شدقها بغيظ من حديثه لتعاود النظر إلى الأوراق التي أمامها مرة أخرى وهي تقول بنبرة خافتة:
-كائن لزج.
كان مُتجهًا نحو الباب، ولكنه فجأة استدار ينظُر إليها بشيء من التمعن، مشى إليها في بُطء شديد ثم دفع بالكرسي قريبًا منها وراح يجلس عليه، ابتلعت ريقها بصعوبة ثم وجدته يقول بنبرة حادة:
-إنتِ قولتي أيه؟!
ظلت تنظُر نظرات نافذة إلى عينيه وكأنها لا تُصدق بسماعه لما قالتهُ، صمت رهيب داهم الوسط، قام ريّان بفتح سحاب حقيبته الجلدية ثم أخرج آلة حادة يستخدمها في غرفة العمليات، لوح بها أمامها ثم قرر سؤاله بلهجة حازمة:
-قولتي أيه؟!
غفران بتلعثم:
-كائن لزج.
أومأ ريّان برأسه في خفة ثم استكمل بطريقة مُبهمة بين الدعابة والجد:
-كام مرة من ساعة ما شرفتي هنا؟!
غفران وهي تنظُر إلى الآلة بارتياب:
-ممكن تسعة مرات أو عشرة!
كان يرمقها بغموض ثم قال بنبرة يتصنع فيها الغضب:
-أنا بقى هقطع لك لسانك تسع أو عشر حتت.
تنحنحت غفران قليلًا وهي تبتعد بكرسيها بمسافة عنه، نظرت إليه من جانب عينيها ثم أردفت مُستهجنة ما قاله:
-بالسهولة دي، على العموم أنا آسفة يا عم.
ريّان بصدمة:
عم ؟! هي حصلت، تعالي ورايا يا غفران.
هبّ من مكانه مُتجهّا إلى حجرة مكتبه، فيما ازدردت غفران ريقها بريبة وهتفت بنبرة أوشكت على البكاء:
-هترفدني ولا أيه!
سارت خلفه حتى الحجرة، قام بفتح خزانة النقود خاصته بهدوء ثم أخرج منها مبلغًا والتفت إليها يمد يده لها ببعض النقود:
-اتفضلي مُرتبك وتقدري تكملي باقي يومك أجازة بعد ما تلغي الحجوزات لأن عند عملية مستعجلة.
غفران بسعادة غامرة:
-ربنا يعمر بيتك يا دكتور ريّان، أما أتصل بتقوى علشان أعزمها على الغدا، يلا السلام عليكم.
ريّان وقد خرجت منه ضحكة تلقائية ليرد بهدوء:
-وعليكم السلام.
---------
-أيوة يا بنتي، أنا واقفة قدام محل الآيس كريم، آه خلاص شوفتك.
أغلقت "غفران" الاتصال ما أن رأت سيارة هشام تقف أمامها في الحال، أشاحت ببصرها للناحية الأخرى تتجنب النظر إليه، ترجلت تقوى من سيارته ثم اتجهت صوبها وتبادلا القبلات، لّوحت له تقوى بكفها  ليقول قبل ذهابه:
-متتأخريش في الشارع.
همهمت "غفران" بتهكم:
-الشيطان يعظ.
دلفتا سوية داخل محل المثلجات ثم جلستا إلى طاولتهما المفضلة ليأتي العامل بطلبهما عبارة عن أطباق بلاستيكية بها الكثير من النكهات وشوكة وهنا تابعت غفران بغيظ:
-مش كُنا روحنا أكلنا الأول وبعدين نحلي؟!
تقوى بابتسامة عريضة:
-هشام أكلني.. أكل زيــــن.
غفران بتنهيدة خفيفة:
-بالهنا يا ست البدوية، بس مش ملاحظة إنك لمّا  بتفرحي بتتكلمي بدوي.
تقوى بشرود قليلًا:
-يمكن لأني أشتاق للبادية، أشتاق لأمي وجدي وطيف حتى چاد.
امتلأ حديثهما بالفضفضة والمُزاح ثم ذهبتا بعد ذلك إلى المنزل بعد أن تلقت غفران اتصالًا من والدتها تستعجل حضورهما إلى المنزل وإلا غضبت عليهما، قامت غفران بطرق باب المنزل بمشاكسة وهي تصيح عاليًا:
-ماما.. يا أمي.. ست الحبايب يا حبيبة.
ظلت تصيح أمام الباب وما أن فتحت والدتها الباب حتى هتفت بنبرة عالية نافذة الصبر:
-ساعة بنادي، فين الحمام؟!
تقوى بضحك:
-على ايدك الشمال يا غالية.
تحركت "غفران" خطوتين للأمام ولكنها توقفت مرة أخرى في حالة من الصدمة وهي تجده يجلس في غرفة الصالون أمامها، كتم ضحكته مليًا فيما ذهبت الدماء عن وجهها وهي تتلعثم:
-إنت سمعت؟ هو إنت بتعمل أيه عندنا!
شريفة بضحكة خفيفة:
-تعالي اقعدي بس يا عروسة وسيبي ليّ فرصة أتكلم.
يتبع ....
#ضي_البادية
#علياء_شعبان

رواية "ضي البادية".. حرب مسلوبة الراء.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن