الفصل العشرون.

63 6 0
                                    

الفصل العشرون.. (نزاعات قلب).
---------
انقضى شهرُ وكأنه دهر بالنسبة لذاك العاشق الذي أُجبر على أن يتحمل نفسية زوجته الواهية إبان تلك الحادثة التي أخذت من روحها الكثير، كثف علاجه لها بمثابرة وثبات دون أن يكل أو يمل فزعها من قُربه رغم ولعه الشديد لإخماد ثورة حنينه منها، أوصاه الشيخ بألا يزوره في دار البلدة حتى لا تنشب نيران الانتقام بينه وبين ابن عمه الغليظ ذاك، كان يطمئن على حالهِ من هاتف صغير اشتراهُ له أيهم، كان شاغل الشيخ الأوحد أن ينتهي عدائهما وأن تتبخر هذه الرواسب المُتكتلة على قلوبهما جراء حادثة "تقوى"؛ فلتبقى في حماية زوجها ومن وجهة نظر شقيقها أصبحت بين الموتى وتحللت.
افادها العلاج كثيرًا بعد عناء شديد ومحاولات مُضنية لبث الثقة في نفسها من جديد، حتى أصبحت هادئة ومثابرة على بلائها، تقبلته على أمل القصاص؛ وكذلك تمكن هو من هدم كوابيسها بحبه لها حتى بات قلبها يرق له وتعلق بوجوده حولها وإن غاب عنها تحدث فوضى داخلها وينقلب حالها رأسًا على عقبٍ حتى تجده سالمًا أمامها.
أما "ريّان" فأراد برغبة عارمة أن تحمل خطيبته اسمه، تأكد من حبه لها؛ فلا يجب أن يُضيع وقته أكث؛ فعليه أن يستمتع بعشقهما ولكن بصورة أقرب دون أن يُفكر في أن ما يفعله غير مُباحٍ أو لا يصح ارتكابه، قررا إتمام حفل زفافهما بعد أربعة أشهر قادمة بينما مراسم عقد قرانهما في خلال ساعات.
تمكن تيسير ووالده من حصد جميع تركة عائلة "آل داغر" بعد نجاحهما في جعل الشيخ يطبع بصمته على أوراق نصها هو التنازل عن كُل ما يملك لابنه الأصغر عابد دون علمه حتى الآن.
-أيش تقول؟! مضيت الشيخ على أوراق تنازله عن أملاكه كِلها لـ يبوك!
صاحت طيف بعصبية هوجاء وهي تحدق إليه في صدمة، رمقها بطرف عينيه ثم عاود النظر أمامه وهو يقول بصوتٍ أجشٍ:
-دا شقانا وتعبنا وبعدين يبوي هو الوريث الوحيد في الأساس بعد موت عمي بيار، تعرفين إني شغال في المحجر طول النهار أكسر في حجار وحيلي انهد وييچي في الآخر رچال من بلاد برا ياخد مشيخة القبيلة ويقاسمنا الورث!
كانت عيناها أكثر اتساعًا وهي تنصت إلى تصريحه الخالي من الصحة بل وضعيف أيضًا، كيف لوالده أن يسرق الشيخ وهو على قيد الحياة مُعللًا بأنه حقه، ضغطت على عينيها ثم قالت بنبرة هادئة:

-بس هاذ حقه، هو ابن عمك وطبيعي يقاسمك في الورث والله هاذ عدل الله يا تيسير!
تيسير وهو يصيح بانفعال حاد ينظر داخل عينيها المضغوطتين بغضب:
-من وين العدل؟ ما عاد له ورث بعد موت يبوه يا بنت، كُل أملاك چدي صارت لأبوي، بس هو بده يعطي چزء من الأملاك لأيهم ابن بيّار.
تنحنحت طيف بتوتر ولم تتفوه بكلمة واحدة، هدأت نبرة صوته عن ذي قبل، أدرك لوهلة بأنه ربما أخطأ عند الاعتراف لها بهذا السر الخطير ولكنه يعرفها جيدًا لا تبوح لأحد ولا تشي عليه أبدًا؛ فتخاف أن يُصيبه مكروه؛ فتتألم، استأنف حديثه بابتسامة ذات مغزى:
-يا بنت راح خليكِ تعيشي كيف الملكة في زمانها، اوعاكِ تغضبي كُله فدا عيونك.
زمت طيف شفتيها بحُزن، أشاحت بوجهها للجهة الأخرى تتجنب النظر إليه وبنبرة محتجة قالت:
-أنا ابغى أعيش بالحلال.
تيسير وهو يتملق إليها بفظاظة تفهمها جيدًا، قرب ذراعيه من خصرها يضغط عليه قائلًا:
-وليش أنا أشتغل صبي يكسر حچار بالچبل؟ مو علشان نعيش سوا بالحلال.
ضربته على كفه بقوة وثبات، أبعد كفه مُتأوهًا على الأثر بينما تابعت هي بنبرة ساخطة:
-نسيت يدك على خصري!
في هذه اللحظة صدح هاتفه يُعلن عن مجيء اتصالًا له، زفر في حنق ثم دس ذراعه في جيب جلابيته والتقط الهاتف ينظر في شاشته، دمدم ببعض الكلمات المُبهمة عليها فيما زوت هي ما بين عينيها وهي تتساءل بفضول رهيب:
-ليش عبست؟!
رفع سبابته إلى فمه يأمرها بالتزام الصمت، ضغط زر الإجابة ليأتيه صوت قائلًا بنبرة فظة يكرهها:
-أيه يا تيسير باشا؟ تقلان عليّا ليه بس، دا أنا عايز أساعدك حتى!
تلفت أعصابه هذه المرة وهو يهدر بغضب:
-تساعدني لله؟ تخبرني إنك عرفت مكان هالواطي وما تبغى شيء!، ليكون هاذ فخ!
المجهول بنبرة ثابتة:
-ولا فخ ولا بتاع تقدر تقول تار بيني وبين هشام، يعني هو عدونا إحنا الاتنين وزيّ ما اعتدى على أختك تقدر تاخد حقك منه حالًا، العنوان "......".
ثبتت بصرها إلى تشنجات وجهه تتابعها بتوجس، ابتلعت ريقها بصعوبة بالغة ثم قالت بنبرة خفيضة:
-مين هالواطي؟
تيسير وهو ينهض من مكانه على عجلة من أمره:
-هشام.
طيف بصدمة وأسرعت تتشبث بتلابيبه ترجوه أن يتريث:
-اوعاك تلوث يدك بالدم، بلغ عنه وخلص يا تيسير، اوعاك تكسر فرحتي وبدل ما نتچوز، تنحبس!
تخلص من قبضتها الملتصقة بذراعه وهو ينفضها بقوة ثم تابع ثائرًا:
-بعدي من وچهي.
تجذف في سيره مُبتعدًا عنها يقصد الدار حتى يحصل على وسيلة انتقامه من ذاك الوغد، تركها في حيرتها مما يفعله بنفسه وضياع مستقبله وهي معه.
(داخل دار الشيخ )
-الله يرضى عليك يا شيخ، أبغى أسمع صوت بنيّتي دقيقة واحدة بس، اشتاقت لها.
أردفت نادرة بتلك الكلمات وهي تجلس بجوار الشيخ، نحا ببصره عن صفحات المصحف بين يديه ثم نظر إليها بنظرة راضية، فمنذ أن سمعت صوت ابنتها وعاد إليها صوتها من جديد، طلبت العفو من ابنتها؛ فاستجابت الأخيرة بصدر رحب، تنهد الشيخ تنهيدة ضعيفة ثم أغلق صفحات الكتاب ووضعه على الوسادة وهو يقول بثبات:
-ما بيصير هيك، بتسمعي صوتها كُل يوم وأنا ما بمنعك بس خافي عليها حتى ما يسمعك عابد أو تيسير!
مالت نادرة برأسها إلى كفه ثم قبلته بامتنان ثم عاودت النظر إليه وهي تقول بود صادق:
-أدامك الله على روسنا يا شيخ، تجوى ما راح يصير لها شي وإنت موچود، والله يخلي لها چوزها ويسعدهم ويرزقها الذرية الصالحة اللي تنسيها وچعها.
الشيخ وهو يربت على كفها بحنان:
-اللهم أمين يا بنيّتي.
اندفع إلى الغرفة يدخلها، صعد الدم إلى رأسه وهو ينتقل بعينيه بين جده ووالدته في دهشة، بقي على حاله لمدة دقيقتين ومن ثم صرخ باهتياج:
-تجوى عايشة وتچوزت!، كيييييف وأنا دفنتها بيدي.
صُعقت والدته فور رؤيته وقد التاع قلبها فزعًا، لم تعد قادرة على الكلام، تحدق إليه بصدمة فحسب، بينما تابع الشيخ بنبرة صارمة:
-كيف ما سمعت وصوتك العالي هاذ ما راح نهابه يا عديم الحيا، إذا تقرب لها بسلمك للنُقطة "الشرطة" بيدي انقلع عن وچهي.
---------
اندمجت بصورة كبيرة في تحضير وجبة الغداء، التقطت إحدى المناشف بين يديها ثم لمست بها الفرن الكهربائي الساخن تتفحص الطعام بداخله وتتأكد ما إن كان قد نضج أو لا، فتحت بابه ثم نظرت إلى صينية البيتزا التي أحضرتها، كانت رائحتها شهية وقد زينتها بدقة وبراعة، أخرجت الصينية على الفور قبل أن تحترق حوافها، وفي هذه اللحظة سمعت صوت صفيرًا عاليًا يأتي من خلفها، التفتت ببصرها إليه في اهتمام ثم باغتته بابتسامة هادئة وهي تقول:
-الماتش خلص؟ عارفة إنك جوعت، ثواني هقطع البيتزا وهحطها في الأطباق.
انتابه الفضول حول ما فعلته، اقترب بحركة هادئة منها ثم نظر إلى صينية الطعام وهو يقول بنبرة متلهفة وقد جرى ريقه فورًا:
-الواحد أخيرًا هياكل من إيد مراته حبيبته؟
اشاحت ببصرها عنه في خجل وارتباك، أسرعت ناحية الموقد تتفقد طاسة القلي فقد وضعت بها أصابع البطاطس وشطائر الدجاج، بدأت عملية إخراجهم من الطاسة بتوجس شديد؛ فهي تكره الزيت الساخن كثيرًا وينتابها حالة وجل وفوبيا منه.
شعرت بأنفاسه المُنتظمة بالقُرب منها حتى أنها قريبة جدًا، زوت ما بين عينيها باستغراب ولكنها وجدت صدره يلتصق بظهرها ثم حاوط خصرها بذراعيه وهو يقول مراوغًا:
-أنا جعان!
ابتلعت ريقها وهي تضع شطائر الدجاج داخل الطبق بكف مُرتعش وبنبرة متلعثمة قالت:
-هحط الأكل على السفرة، بس لو بعدت عني علشان مش عارفة أتحرك!
قالت جملتها الأخيرة وهي تطفئ نار الموقد، تنحنح بخشونة فهو يعشق توترها في قربه ويتلذذ بخجلها الفطري الذي يداهم وِجنتيها القمحيتين وهنا استأنف بثبات:
-طيب اكليني بطاطساية وهبعد.
أومأت برأسها في خفة، التفتت تواجهه على مضض ومازال هو قابضًا على خصرها بصورة أربكتها أكثر، تجنبت النظر داخل عينيه ثم وضعت الطعام في فمه بينما باغتها بحركة مشاكسة قابضًا على معصمها برفق ارتعشت شفتاها بتوتر وهي تقول:
-أيهم!
نظر داخل عينيها باهتمام ولكنه لا يستطيع الإجابة عليها، أصدر صوتًا من بين شفتيه المُطبقة على أصابعها لتستأنف هي في حنق:
-صوابعي؟ إنت بتعمل أيه!
حرر أصابعها من فمه على الفور، تنحنح بخشونة وهو يقول بنبرة متداعيًا بها الدهشة:
-أيه دا هو انا أكلت صوابعك، تصدقي ما أخدتش بالي من جمال وحلاوة وطعامة الأكل.

رواية "ضي البادية".. حرب مسلوبة الراء.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن