الفصل الثالث.. (تجبُر) .
-------------
الضعف يُدنينا.. يُنسينا مبادئنا ويجعلنا مُجرد ضحايا غابت عقولها وبمقدار قوة زلزال ريخترية يؤذينا.
.....................
هرعت إلى سيارته التي وقفت على قارعة الطريق المُوحش فهو يخلو تمامًا من المارة، أضاء هشام مصابيح السيارة لتهتدي هي به وما هي إلا ثوانٍ حتى وقفت أمامه وهي تخرج زفيرًا قويًا وقد ترقرقت عيناها بالدموع ومضت تهتف بنبرة مُرتعشة وهي بالكاد تلتقط أنفاسها:
-هشام؟!
أخبرته بالهاتف عما مرت به وطلبت حمايته فقرر أن يعاونها على الهرب، سقطت قطرات حارة من عينيها فأسرعت على الفور تحتضنه بقوة وهي تسكن بين ضلوعه فأخيرًا وجدت ملاذها الذي يُطيب ويُصهر جليد الكبت من داخلها، رفع هشام كفه على خصلاتها وبدأ يمرره عليهم بحنان وثبات مُردفًا:
-إنتِ كويسة؟!
-"موجوعة، علشان خاطري خليك جنبي، إنت المكان الوحيد اللي اتخلق علشان يدفيني من برودة قلوبهم، أحميني منهم، علشان خاطري أحميني من جبروتهم واستهانتهم بروح تعبت".
قالتها تُخاطبه في نفسها ولم تنطق بهذه الكلمات فقط ابدلتها بدموعها الغزيرة التي أغرقت قميصه القُطني، تنهدت بشهقة صغيرة ثم أردفت بصوت مُتهدج:
-احميني منهم يا هشام، ممكن!
افتر ثغره عن ابتسامة حانية، أومأ برأسه في خفة ومن ثم استكمل قائلًا وهو يلتقط كفها:
-يلا اركبي، خلينا نمشي من المكان دا.
انتابتها ابتسامة من وسط بُكائها نتيجة إصراره على حمايتها والذي ظهر في لمعة عينيه، تحركت بسرعة ناحية باب السيارة وهمّت أن تركبها ولكنها توقفت لوهلة ثم التفتت تنظُر لتلك الباكية في حالة انهيار بين ذراعي شقيقها، رمقتها تقوى بحُب ثم فتحت ذراعيها قائلة:
-تعالي يا طيف.
هرعت الأخرى مُنصاعة لندائها حتى استقرت بين ذراعيها وهي تشهق بقوة لتقول بنبرة مُنهارة:
-لا تغيبين عني يا تجوى، راح أشتاج لك يا ضي، خسروكِ بچحودهم ، الله لا يسامح تيسير، كوني بخير!
تقوى وهي تُقبل جبينها ببكاء ونحيب:
-اوعاكِ تسلمي قلبك لتيسير، الجاسي معندوش استثنا يا طيف، وإنتِ ما انولدتي إلا لتكوني مزروعة جوات جلب تربته أصلها خير.
رفعت تقوى بصرها حيث شقيق طيف الواقف على مقربة منهما لتقول بابتسامة صادقة:
-چاد، ليت كُل الرچال چاد، الله يرضى عليك، ما راح أنسى يلي عملته سويعة (ساعة) واحدة، يلي يطبطب على جلب تجوى المكسور.. تشيله بعيونها.
هشام مُقاطعًا إياها:
-يلا يا تقوى، مينفعش نستنى أكتر من كدا.
تنهدت بحُزن ثم ركبت السيارة ليقودها هشام مُنطلقًا على الأثر.
-------
-بنيتك يُبوي حاكة خشمها بالسما، بدها تتمرد علينا، طفشت لتذلنا، ذي البنت فاچرة يبوي وچتلها واچب.
أردف "تيسير " بتلك الكلمات وهو يقف بصُحبة والده والشيخ في بهو دارهم الذي امتلأ على أثر صراخ والدتها الباكٍ، تجمهر باقي أفراد القبيلة في حالة هلع وصدمة، رمق "عابد" ابنه بنظرة يقدح منها الشرر وهو يشرد في كلماته ليهتف بصوت جهوريٍ أشبه بفحيح الأفعى:
-أمر مني يا وِلد، راح تسافر على القاهرة وتچيب ليّ خبرها، اجتلها وطنك عايد لندفنها.
نادرة بصراخ مقهورٍ:
- ذي بنيتك يا عابد، اوعاك.
انهمرت عبراتها على وِجنتيها انهارًا، نحت ببصرها إلى الشيخ الكبير، ثم سارت تمشي على ركبتيها حتى التقطت كفه أثناء جلوسه إلى دكة خشبية بالبهو وراحت تُقبله بترجٍ:
-الله يرضى عليك يا عمي وجفه، تجوى بنيتي ما هي فاچرة، كفايانا ظُلم بحقها.
تيسير بعصبية مُفرطة وهو يضرب بقبضته الجدار:
-بنيتك بتشبه لعمي، هاد التمرد سبق وشافه چدي، كلامك مش هيغير اللي نوينا يصير واقع، كلمة شيوخنا زيّ السيف ما بنتراچع، وانسي إننا نشفق على عاهرة.
الشيخ الكبيرة بنبرة مُحتدة بالغضب:
-انطب، تجوى الداغري بنت فوارس يا عديم الأخلاج، تَوك تروح على مصر تچيب أختك وترچع واذا فكرت تأذيها روحك بتلاحقها.
جلست " نادرة " أرضًا وقد ثنت قدميها أسفل فخذيها ثم التقطت بين قبضتيها كومة من الثرى ومضت تُلقيه على رأسها وهي تنتحب في حسرة:
-تجوى ما انخلقت للموت، بنيتي ملاك مغدور بيه وانتوا يلي شرررر.
عابد وهو يحدق فيها مُعنفًا إياها:
-اخرسي يا مَرا وإلا بدفنك حدها.
نادرة بصراخٍ فاجع:
-لمِيتا(لمتى) راح اخسر عيالي؟!، أخوها من جبلها والدور إجا عليها؟! لِميتا تجوى هتدفع تمن تاركم مع هالجبيلة، صارت كبش الفدا في صُلحكم، كان عنده حق "بيار" يوم ما جالي (أوعاك يا نادرة تظني أخوي بطل، مفيش عاد بطل طاغية ).
ابتلع العجوز ريقة بصعوبة ومرارة تسري في حلقومه، نكس ذقنه ينظر إلى الخاتم الموضوع حول إصبعه، فهو دائمًا ذو قامة شامخة لا ينحني أو تهتز جذور أساسه ولكنه يجد نفسه وفجأة مُتصلبًا مغلوبًا على أمره ما أن تأتي سيرة الغائب الحنون.
وجد نفسه يعود بذكرياته للوراء لسنوات كثيرة حيث عشية يوم خفق قلبه بوجل طيلة اليوم ليتفاجأ بما شعر.
-يبوي، هسافر مع مرتي ما عاد بدي أرچع لهنية، أنا ما قابل ظُلمكم وعاداتكم الجايرة على قلوبنا.
الشيخ بنبرة حادة وهو يرمقه بعينين مشتعلتين:
-سبق وتمردت على عاداتنا وتجوزت بنت من مصر وهالحين بدك تسافر وتتفرق عنا؟ إذا سويت هيك فما عدت واحد منا وجبيلة الدواغرة ما تنربط باسمك.
بيار بابتسامة ساخرة:
-الله الغني عن جبيلة شايفة أن الشرف والهيبة في جساوة القلب يبوي.
الشيخ بنبرة صارمة:
-ذيك البنت چعلتك متمرد يا بيار، اللي تجسي قلب راچلها على يبوه، تستحق القتل.
بيار بنبرة حانقة:
-دعاك من مرتي يبوي، هي حامل، كيف هعيش وسطكم وعِندكم البنت اذا تنفست زيّ ربنا ما خلقها بتنجتل ما ابغى إذا رزقني ربي ببنت، تكره حالها وإنها بيوم انخلقت بنت.
استفاق من ذكريات هذه اللحظة المريرة على صوت " نادرة" ومازالت تنتحب بمرارة وأسى وهي تُنادي ابنتها داعية الله بأن يحفظها.
-------------
انقضت ساعات الليل بأكملها في طريقهم إلى منزل "غُفران " حتى تنفس الصبحُ وأصبحت الساعة السادسة صباحًا، أوقف هشام السيارة أمام المنزل بالفعل، تنهد بهدوء وهو يربت على وجنتها قائلًا:
-تقوى، وصلنا!.
تحركت أهدابها بثُقلٍ فهي لم تنل قسطًا كافيًا من الراحة، عدلت من وضع رأسها المرمية على كتفه ثم تابعت وهي تفرك عينيها كالأطفال:
-طيب انت هتمشي وتسيبني؟!
هشام وهو يمط شفتيه باستسلام:
-ما إنتِ رافضة تكوني معايا، مع إن ماما هتفرح بيكِ أوي.
تقوى بابتسامة هادئة:
-مينفعش العروسة تدخل بيت جوزها قبل يوم الفرح.
هشام وهو يغمز لها بعينيه:
-بس جوزها بيقول ينفع.
في هذه اللحظة قطع حديثهما صوت رنين هاتفها، وجدت الشاشة تُنير باسم صديقتها، تهللت أسارير وجهها فرحًا ثم أجابت على الفور بسعادة جمّة:
-غُفران أنا رجعت.
-اوعي تيجي البيت عندي، أخوكِ على وصول يا تقوى.
قالتا الجملتين في آن واحد، فغرت تقوى فاهها وأخذ صدرها يعلو ويهبط هلعًا ومن ثم تابعت بتوترٍ:
-عرفتي منين يا غُفران؟!
غُفران بنبرة شبه باكية:
-اتصلت وقالت ليّ، وبتقولك اطمني معرفوش إنها هربتك، بس خلي بالك على نفسك، علشان تيسير نصب صوان عزاكِ ومستنيين جثتك.قالت كلمتها الأخيرة لتنهار في البكاء بصوت عالٍ، فيما تابعت تقوى بنبرة مُرتعشة وهي تهتف به:
-امشي بسرعة يا هشام، أخويا قرب على بيت غُفران.
أسرع " هشام " بالانطلاق وأخذ يهتف بها مُتسائلًا:
-وهم يعرفوا بيت غفران منين؟!
تقوى ببكاء:
-يعني مش هيكونوا عارفين بنتهم عايشة فين ومع مين يا هشام!، أنا خايفة تيسير يأذي غُفران.
هشام بحنق:
- مش هيأذيها يا ستي، المهم إنك هتيجي معايا الفيلا.
تقوى بنبرة باكية وهي تصرخ:
-لأ يا هشام دا أخويا وأنا عارفاه ممكن يعمل فيها حاجة ومش هيصدقها أبدًا خلينا نرجع تاني، علشان خاطري.
هشام بنبرة هادئة:
-تقوى انا خايف عليكِ؟!
تقوى ببكاء:
-رجعني لبيت غفران يا هشام، لو سمحت!
انصاع "هشام" لرغبتها، حتى وصل بالقرب من المبنى مرة أخرى، حدقت تقوى إلى هذه السيارة التي تعرفها جيدًا، ارتجفت أوصالها وهي تقول باكية:
-دي عربية تيسير يا هشام، غُفران ومامتها لوحدهم.
هشام بثبات:
-طيب خليكِ هنا وأنا هتصرف، بس بلاش تظهري إنتِ في الصورة.
أومأت " تقوى" برأسها ايجابًا وهي ترجوه باكيةً، فيما تابع وهو يشير لها بإصبعه السبابة نحو المقعد الخلفي:
-اقعدي تحت الكرسي الخلفي واقفلي بيبان العربية كويس.
انصاعت للأوامر الصادرة منه، فيما هرول حتى الطابق الثالث، طرق الباب باندفاع وبعد مرور دقيقة على الأغلب وجد "غُفران" تفتح الباب له بوجه شاحبٍ وما أن رأته حتى تلعثمت فيما سبقها هو بالحديث قائلًا:
-إنتِ كويسة؟!
-مين يلي بيخبط؟!
قالها " تيسير" الذي يقف بالقرب منها مُشهرًا سلاحه صوبها، فيما تابع "هشام" وهو يترجل للداخل ينظُر إلى السلاح في توجس:
-زميلها في الكلية!
تيسير بسخرية:
-زَميلها؟، والعاهرة التانية عِنديها زمايل!
غُفران وهي تصرخ به في حنق:
-اخرس، إنت إنسان مش مُحترم.
حدجها تيسير بنظرة حادة ومضى يقترب منها مُمسكًا بحجابها من الخلف:
-انطبي، لأجتلك عاد!
أسرع "هشام" بمداهمته ليسقطا معًا أرضًا، مد هشام كفه يلتقط إحدى المزهريات فيما رفع الآخر سلاحه مُعلنًا عن تحرير طلقة منه.
يتبع
#ضي_البادية
#علياء_شعبان
أنت تقرأ
رواية "ضي البادية".. حرب مسلوبة الراء.
Romance"المقدمة" فُتنت بها وأنا الذي عنهن مُعرضا. أتى بيّ القدرُ إليها، من كُل حدبٍ وصوبٍ.. أنا مَن فُزت بها. وَلّيت إليها حثيثًا بعدما تخطيّت زحام العابرين والعراقيل مُضيًا ليجمعنا القدرُ. وفي وليجة نفسي بقيتُ حائرًا، لما القدرُ ألقاني بين أحضانها؟، هل سأ...