الفصل الحادي عشر.

106 10 0
                                    

الفصل الحادي عشر.
_ (وقفة مع النفس) _
--------
يا فؤادي لا تقبل التعازي
فصاحبتك لم تمت تمهل!
أبق إلى جواري ولا تخون من علمتك التهادي
كيف تهتدي وإلى أين؟! لا بأس فقد سِرنا معًا؛ فكُن ليّ في وقت ضعفي وقلة حيلتي ذاك الأب المفقود في حياتي .
----------
ارتمت على الفراش عقب انتهاء مكالمتها معه، وضعت كفها على عنقها والضيق يخنقها بلا رحمة، نظرت للفراغ بوجه شاحبٍ، ماذا فعلت؟ وما الذي تفعله في نفسها!، لكم هي ضعيفة لا حول لها ولا قوة، خزي داهم جدار قلبها المكلوم وقد تحجرت الدموع في عينيها تتحسس خطواتها إلى الوسادة حتى دثرت نفسها وهي لا تستوعب بعد ما فعلتهُ.
رفعت بصرها إلى سقف الغرفة وظلت مُحدقة إليه في ريبة، أصبحت مُخيفة بشكلِ مُروع، يسبها بأقذع الشتائم مُبررًا حالته العصبية التي تدفعه لذلك، يهددها باستمرار بنهاية علاقتهما إذ لم تفعل ما يرضيه.. حتى أنها؟
أغمضت عينيها بألم لتنساب العَبرات من جانب عينيها إلى الوسادة، استدارت لتنام على جنبها الأيمن ثم كتمت صوت شهقاتها الذي بدأ يعلو رويدًا رويدًا لتهتف بنبرة خافتة:
-أنا إزاي عملت كده؟! علشان أنا ضعيفة وسلبية، بس مش عاصية زيّ ما تيسير بيقول لي ولا أنا بقيت كدا فعلًا!
دفنت وجهها في الوسادة تبكي بقهر ومرارة على ما تساهلت فيه، شعور مُقزز يراودها، شعور لا يلائمها أبدًا، حقًا ما فعلته قبل قليل كان فقدان كامل لوعيها وضميرها وكأنها فتاة ليل تقف أمام شخصٍ يتفحصها قبل أن يدفع ثمن ليلتها، شهقة عالية خرجت منها فاستيقظت على أثرها تلك النائمة إلى جوارها.
فركت غفران عينيها بتكاسل وسرعان ما حدقت إلى صديقتها الباكية ومضت بالاقتراب أكثر منها وهي تردف بتساؤل مريب:
-تقوى، بتعيطي ليه؟!
وقبل أن تجيبها الأخرى، وقعت عينا غفران على الوشم في كتف صديقتها، شهقت بخفة لتقول بنبرة مصدومة:
-أيه دا؟ وشم يا تقوى!، عملتيه امتى دا؟
اعتدلت تقوى في الفراش جالسة بتمهلِ لتنظُر إلى عيناي صديقتها المُتسائلتين وبنبرة مهزومة بكت وهي تخبرها:
-احضنيني يا غفران واوعي تكرهيني، أنا مش رخيصة .
اتسعت حدقتا عينيها وهي تنظر إلى انهيار صديقتها أمامها، أسرعت بضمها إليها ومضت تمسح على خصلاتها بثبات في محاولة لتهدئتها وقد ارتأت الصمت على استجوابها وهي بحالة يرثى لها وهنا فاجأتها تقوى وهي تقول بنبرة منهارة:
-هشام رسم ليّ الوشم، أنا ما كُنتش عاوزة بس علشان ضعيفة سكتت، هو ليه دايمًا بيهددني بحبي ليه؟ هو اللي بيحب حد بيستضعفه ويستغله يا غفران!
غفران تجيب بثقة مُنقطعة النظير:
-الحُب هو حلاوة الدنيا مش مرها.
تقوى بنبرة واهية بالكاد تُسمع:
-كان نفسي أبقى زيّك يا غفران، مشاعرك مش مُستهلكة ونقية، إنتِ ربنا بيحبك بس أنا لأ.
غفران وهي تقبل جبينها بتنهيدة عميقة:
-ربنا أحن علينا من نفسنا، وكُل يومٍ بيستناكِ تدقي بابه علشان يراضيكِ، أيه رأيك نصلي سوى!!
أومأت تقوى برأسها بإيماءة خفيفة لتبادلها غفران ابتسامة باهتة عاقدةً النية على أن تجعل صديقتها شامخة كالجبال أمامه ليعلم قيمة من أوشك على خسارتها، ستعمل جاهدةً على ألا تفقد صديقتها رونقها.
---------
"في صباح اليوم التالي"
مع بزوغ الشمس واستقرارها في كبد السماء، ألقت غفران لها قُبلة في الهواء ثم توجهت إلى مركز "الشُهبي"، تنهدت تقوى باختناق وهي تتذكر مُعاناتها ليلة أمس وشعور الراحة الذي اجتاحها بعد أن صلت وهي تبكي لله همها، في هذه اللحظة صدح هاتفها باتصال منه، نظرت إلى الشاشة بألم وضيق منه ولكنها مازالت على أملِ بأن يكون لها ذاك الرزق لتجيب بنبرة باردة:
-أيوة.
هشام مكررًا كلمتها في شيء من الاستنكار:
-أيوة!، ما تقفلي الخط في وشي أحسن.
تنهدت تقوى تنهيدًا ممدودًا بعُمقٍ ثم مسحت على وجهها بثبات لتقول بهدوء وتريثٍ:
-اسمع يا هشام، أنا مش رخيصة ولا بايعة نفسي وياريت اللي حصل إمبارح تنساه خالص.
صمتت لوهلة ثم تنهدت وهي تُضيف:
-كان نفسي متستغلش حبي ليك ضدي، بس على العموم لو عايزني يا هشام هتلاقيني مستنياك في الميعاد اللي متفقين عليه وغير كدا أنا مش هضعف نفسي نتيجة لحبك تاني وكفاية إحساسي بالذنب وقرفي من نفسي، ما تتصلش تاني يا هشام إلا لو في أي تطور في موضوع ارتباطنا.
أغلقت الهاتف فور انتهاء حديثها دون أن تستمع إلى رده، وتكون هذه المرة الأولى التي تنصت فيها جيدًا إلى نصيحة صديقتها، انهارت باكية وأوجاعها كادت أن تخنقها ولكن لا بأس فهذا القرار حتمًا سيختزل أوجاعها في لحظات قليلة ونتائجها مُرضية لها.
--------
قامت بفتح باب الشقة بهدوء شديدٍ، تقدمت إلى الداخل بمرونة فتاة في العشرينيات تواعد حبيبها سرًا فتكشف عن مدى حماقتها ولكن كيف تُبرر سيدة في الأربعينيات إقامة علاقة غير شرعية مع أحدهم!
اطلقت ضحكة مائعة وهي تمشي في عنج ودلال لتجد ذراعيه تلتفان حول خصرها وقُبلة يطبعها على وِجنتها وهو يهمس بخفة:
-وحشتيني؟!
بحركة مرنة التفتت لتواجهه وعيناها تلمعان ببريق مُتلهف ثم ألقت ذراعيها حول رقبته بخفة وتابعت بهمس:
-مش أكتر مني!
ابتعد عنها قليلًا ثم قبض على كفها يجذبها وراءه وهو يقول:
-طيب تعالي بقى.
---------
خرجت تقوى وشريفة إلى السوق كي يبتاعان الحاجيات الخاصة للشهر القادم من طعام ومتطلبات أخرى، ولجتا  داخل محلات للملابس والأزياء العصرية لتنتقي تقوى طقمًا لها وآخر لغفران.
بقيت طيلة الطريق شاردة رغم حديث "شريفة" المتقطع لها في بعض الأحيان ولكنها لم تتفاعل كثيرًا مع الأحاديث الدائرة، جرى الوقت بسرعة شديدة وأخيرًا قد انتهت شريفة من شراء كُل ما يلزمهن، فجأة صوت صراخ طفلة يقطع ضوضاء الأجواء من قبل الباعة والزبائن، قام رجل بالقبض على ذراع الطفلة بشراسة بينما تجاهد هي في التملص منه وهي تبكي بقهر ولوعة:
-والله يا عم ما سرقت حاجة، سيبني الله يخليك، أمي تعبانة وانا اللي بخدمها.
نهرها الرجل بقوة وعنف يجرها خلفه عازمًا النية على تسليمها للشرطة، ألقت تقوى الحاجيات من بين يديها ثم هرعت إليه وهي تحثه على الوقوف وما أن أصبحت قبالته حتى انتشلت الطفلة منه وهي تقول ببرود:
-البنت بتقول إنها مسرقتش!
الرجل بأسلوب فظ وأحمق بعد أن أزاحها بعيدًا بقوة وقد أوشكت على السقوط:
-وإنتِ مالك يا آنسة! وسعي كدا.
قال جملته الأخيرة وهو ينتشل الفتاة منها في حين أسرعت هي بالاقتراب من جديد لتقبض على معصم الفتاة وهي تجذبها إليها مرة أخرى ثم هتفت بنبرة حادة:
-سرقت منك كام؟!
الرجل ببرود:
-يعني ايه الكلام دا!
تقوى بمجابهة وثبات:
-يعني هتاخد المبلغ اللي أخدته البنت منك وملكش حاجة عندها تاني.
حدجها الرجل ببرود وأنفة قبل أن يروعها بالمبلغ قائلًا:
-سرقت 1000 جنية.
الفتاة الصغيرة وهي تصرخ به باكية:
-يا أبلة والله ما سرقت حاجة.
قامت تقوى برفع اناملها ناحية أذنها، أبعدت الحجاب لتكشف جزءًا من أذنها ثم انتزعت منها قرطًا من الذهب ومدت يدها إليه لتقول بازدراء:
-امسك.
الرجل باستنكار:
-والفردة التانية!
اطلقت تقوى قهقهة متهكمة، لتقول بنبرة باردة للغاية:
-الفردة اللي مش عاجباك دي تعدي الـ 2000 لأنها دهب خالص أصيل ولا فاكرني الطفلة الصغيرة اللي بتفتري عليها!

التقط الحلق منها بغيظ وضغينة فيما حدجتهُ هي باحتقار وكره ليبتعد بخطواته حيث محله، نزلت تقوى إلى مستوى قامت الطفلة ثم وضعت وجهها بين كفيها ورأت دموع الطفلة المتحجرة في عينيها لتقول تقوى بإشفاق:
-أنا مصدقاكِ.
ظهر شبح ابتسامة على وجهها يذكرها هذا المشهد بآخر من سنوات مضت، عادت مرغمة إلى هذه اللحظة وما زالت تنظر في عيني الطفلة، كانت تقوى وقتها بنفس العمر عندما اتُهمت بسرقة "عُقد" يخص سيدة من أفراد عائلتها، بكت تقوى وقتها وهي تصرخ بهم بأن يصدقوها حتى والدتها ظلت تندب حظها مما فعلته ابنتها دون أن تتأكد أولًا ولم يكتفوا بذلك بل قرروا عرضها على المِبشع ليؤدي إجراءات البشعة عليها حيث تقوم بلعق قطعة حديدية تتوهج حرارة بعد تركها في النار لفترة، أخذت تستغيث بهم، فهي طفلة كيف تتعرض لتجربة كهذه تمثل لها الجحيم، حاول الجميع اقناعها بأنها إن لم تكن السارقة فلن تشعر بألم مطلقًا ولكن بعقل طفلة ظلت تبكي طيلة الوقت حتى تأذت نفسيًا ومن هنا بدأت عُقدتها تجاه أفراد عائلتها، فليس من بينهم من هو رحيم بها، فقط تردد صدى صوتها الطفولي وقتها وهي تصرخ بأمها:
-"يما الحقيني راح يحرقوني، ما سويت شي والله".
تلألأت الدموع في عينيها وهي تعود من ذكرياتها القاسية، لتلتقط من حقيبة نقودها مبلغًا ثم أعطته للطفلة وهي تقول لها بحب ورقة مشاعر:
-خدي الفلوس دي واديها لماما وحقك عليا لو الراجل الوحش دا زعلك، ربنا هيرجع لك حقك منه قُريب.
شكرتها الفتاة بابتسامة عذبة ثم انصرفت.
ربتت شريفة على كتفها بحنان وقبل أن تذهبا وجدت "شادي" يقف أمامها ثم يقول مرحبًا:
-أزيك يا تقوى!
نظرت تقوى لشريفة باطمئنان لتقول السيدة بتفهم:
-طيب يا بنتي هشتري فاكهة وأرجع.
-متقلقيش مش جاي أقولك حوار كُل مرة وإنك تبعدي عن هشام والكلام دا كله، أنا شوفتك بالصدفة مش أكتر، خلي بالك من نفسك يا تقوى وما تتخدعيش.
أولاها ظهره وهمّ أن ينصرف لتوقفه هي بنبرة هادئة:
-أسلوبك غير المباشر بيأذيني، كُل مرة بتقولي ابعدي عنه بس مش بتقدم ليّ أسباب!
شادي وهو ينظر لها مرة أخرى ليقول بتأنٍ:
-الأسباب مش هتريحك علشان تبقي ملهوفة تعرفيها، هشام صاحبي وانا قُلت لك كتير ابعدي عنه.
تقوى وهي تبتلع غصة في حلقها:
-وهو اللي يبتلى بمرض بسهولة بيخرج منه!
شادي بهدوء:
-أضعف الإيمان إنك تحاولي!
#ضي_البادية
#علياء_شعبان

رواية "ضي البادية".. حرب مسلوبة الراء.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن