الفصل الخامس.. (لعبة حُب).
-----------
رغم انجلاء الحقيقة وبزوغها كقرص الشمس الحارق، إلا أننا أحيانًا ندعي عدم رؤيتها أو لربما لم تُلَوَث نوايانا بالوساوس القهرية بعد.
--------
أشعل عود الثقاب لتستعر فوهة سيجارته بناره، بدأ ينفث الدخان في وجهها بعد أن تفحص الصور بانبهار رغمًا عنها، سعلت باختناق وهي تردف بخفوت:
-هشام، أبعد السيجارة دي عني وهات الفون لو سمحت.
افتر ثغرهُ عن ابتسامة عريضة وهو يرى وِجنتيها المُخضبتين من أثر الخجل، بادر بوضع فوهة السيجارة داخل المنفضة ضاغطًا عليها حتى انطفأت ومن ثم تابع بنبرة حانية:
-وادي السيجارة ممكن بقى افهم قاعدة بعباية وطرحة ليه؟! دا غلط على الجرح وبعدين علشان تقدري تتنفسي براحة.تقوى بتلعثم:
-لأني مينفعش اقعد قدامك بشعري وبلبس البيت!
هشام بابتسامة ثابتة:
- أنا مش غريب يا تقوى وبعدين إنتِ هنا في بيتك مع أهلك وجوزك المستقبلي وأبو عيالك ولا إنتِ بقى عندك رأيّ تاني؟
لمعت عينيها ببريق، عضت على شفتيها بخجل ومن ثم أردفت بنبرة مُتهدجة من فرط سعادتها بحديثه:
-أكيد طبعًا ماليش رأيي تاني بعد الكلام الحلو اللي انت قولته دا.
وضع أنامله أسفل ذقنها لتلتقي أعينهما، لعب على حبال قلبها الواهية وقوة هُيامها به، بادلته ابتسامة خجلة فيما تابع هو بتساؤل مهتم:
-تقوى، انت بتثقي فيّا ولا خايفة مني؟!
تقوى وهي تهتف بنفي قاطع:
-إنت نقطة الأمان الوحيدة في حياتي هخاف منك إزاي بس!، أنا ثقتي بكُل كلمة بتقولها أكبر مما تتصور، أنا بحبك أوي يا هشام وممتنة لكُل لحظة وقفت فيها جنبي وصديت عني أي أذى وحقيقي غيابك عني مش بحاول أفكر فيه للحظة.
التقط هشام كفها ثم قبل باطنه قُبلة طويلة، تمادى أكثر فأكثر ليقترب من وِجنتها الحنطية الناعمة وراح يلثمها بحرارة، ابتعدت عنه قليلًا وهي تقول بنبرة خافته في محاولة للهرب من تصرفه:
-رن على غفران بقى!
أرادت تغيير مجرى الصمت القاتم وقربه منها، فقد كان على قيد أنملة من تقبيل ثغرها، شعرت بمدى توترها وخجلها منه فيما أمسك بطرف حجابها وراح ينزعه بهدوء قائلًا:
-مفيش مجال للكسوف، لازم تفهمي إنك ليّا ومن حقي أشوف القمر بتاعي بكُل حالاته علشان نتخطى مرحلة الخجل قبل الجواز.
تسمرت في مكانها تستمد من كلماتهِ طمأنينتها ثم لانت قليلًا وتركته ينزع حجابها، بدأ يمرر أصابعه بين خصلاتها السوداء الناعمة قائلًا:
-إنتِ هنا في بيتك، لازم تبقي واخدة كامل راحتك وبالأخص وأنا جنبك.
----------
-عِندي تار يا خلج، خرجوني من هنيّا.
صدح بصوته في المكان، أعلن حارس الدور عن وصول غضبه إلى قمته، اقترب من الباب ثم هتف بصرامة:
-إنت يا بلديات اللي بتعمله دا مش في صالحك، احنا كلمنا والدك زيّ ما طلبت وهو على وصول.
تيسير بعصبية مُفرطة وهو يضرب الباب بكامل قوته:
-أنا وش سويت؟!
لم يأته الرد من الطرف الآخر، استدار ثم استند بظهره على هيكل الباب وبنبرة متوعدة تابع:
-راح أشرب من دمك يا عاصية، وما راح تشيلي اسم جبيلتنا عاد.
----------
-هو دا وقتك؟!
توقف دكتور "ريّان" عن جمع مستلزماته الخاصة استعدادًا للذهاب بعد دوام شاق فقد انقطع التيار الكهربائي دون سابق إنذار، أشعل مصباح هاتفه الخلوي يبحث عن مفتاح سيارته، جحظت عيناه وهو ينظر في اللا نقطة يتذكر بأن مساعدته قد غادرت المركز من دقيقة واحدة فحسب، أي أنها لم تتجاوز المصعد الكهربائي!، جاء إلى مُخيلته هذه ذات اللسان المُشبع بالردود المُفحمة والكارثية وهي تقول له عندما سألها لماذا لم تستقل المصعد إلى الأعلى وكان ردها:
-"أصل أنا عندي فوبيا من الأماكن المغلقة والضلمة، نفسي بيروح وبحس إني بموت".
التاع قلبه هلعًا عليها ونسى مدى فظاظة أسلوبه معها، فالأمور الإنسانية تأتي في أولوياته حتى وإن كان ظاهرًا للناس بأنه فظ غليظ القلب لا يلين، مشى حثيث الخُطى يهتدي بضوء هاتفه حتى وصل إلى المصعد لتتضح مخاوفه وهو ينصت إلى صوت أنين باكٍ وهنا أردف بقلق:
-غُفران؟!
ارتفع صوت بكائها ثم أجهشت بالبكاء أكثر ومضت تصرخ بهستيرية:
-أنا بموت، الحقني الله يخليك.
مسح على وجهه بهلع، اهتز كيانه من رعشة صوتها، الآن هو في خضم المعركة، معركة تُعيد نفسها من جديد، هل سيتركها تموت أمام عينيه كما فعل من قبل؟ فقد ظن بأنه الجاني في المرة السابقة، أخذ يضرب بكامل قوته على الجدران فيما اندثر صوتها واختفى كُليًا ليصرخ بغضب:
-غفراااان!، ردي عليا، بقولك اتكلمي وإلا هخصم منك يوم كامل.
شُحب لون وجهه وقد تهدجت نبرته وكساها الوجع ليردف باختناق:
-طيب ردي قولي أي حاجة، غفرااااااان.
-ريّان بيه، إنت كويس؟
انفلتت أعصابه في هذه اللحظة، هدر باختناق وجبروت يأمر العامل المُختص بكافة أمور وحاجيات المركز بأن يحل هذه الكارثة:
-اتصرف بسرعة، شوف المشكلة فين وشغل الكهربا حالًا.
انصاع الرجل مهرولًا حيث الصندوق الرئيسي للمركز، فيما سقطت هي مُغشيًا عليها، فهي الآن في أكثر الأماكن المرعبة بالنسبة لها، بدأ العرق يتصبب من جبينها ولم تعد تعي شيء عما يجري من حولها، وبعد دقائق ليست بالقليلة عاد التيار الكهربائي ليتحرك المصعد وينفتح بابه، جحظت عيناه وهو يجدها مهمدة الجسد أرضًا، هرع إليها ثم حملها بين ذراعيه واستقل المصعد إلى الأسفل ثم إلى سيارته.
اجلسها في المقعد المجاور لمقعد القيادة، أراد احترام رغبتها في ألا يلمسها البتة، يتذكر الشرر الذي يتطاير منها غيرةً على نفسها وجسدها من الجنس الآخر وقبل أن يهمّ بلمس كفها ليربت عليه، أبعد كفه على الفور ثم تناول قارورة العطر الخاصة به وقربها من أنفها، بدأت تتلوى في المقعد وتبكي وكأنها مازالت في خضم هذا المشهد المُقهر والقاسي عليها فيما تابع هو بنبرة هادئة:
-آنسة غفران، إنتِ كويسة؟!
غفران وهي تفتح عينيها ببطء:
-أنا خرجت من الأسانسير؟، الحمد لله، أنا ما مُتش؟.
ريّان بمزاح غير معهود عليه:
-لأ موتي وأنا أعمالك الخيّرة، وإحنا دلوقتي في القبر وبنتحاسب.
غفران بعد أن استوعبت الموقف ومضت ترمقه شزرًا:
-دا إنت لو أعمالي الخيّرة أنا مش هورد على جنة ثم إني كُنت هموت بسببك قعدت تقولي الأسانسير أسهل وأريح علشان لو متأخرة واقنعتني بيه.
ريّان بابتسامة صادقة بعد أن رفع أحد حاجبيه مُستنكرًا ما قالته:
-أقنعتك بس ما أجبرتكيش، إنتِ اللي اديتي له الأمان زيادة.
غفران وهي تتأهب للترجل خارج السيارة:
-على العموم شكرًا.
-إنتِ رايحه فين، أنا هوصلك لحد البيت، أنا بردو رب عمل رحيم.
قالها وهو يُبادلها ابتسامة عابثة استفزتها، لترد هي بثبات:
-لأ، أنا عارفة طريق بيتي كويس و …
وقبل أن تستكمل وصلة اعتراضها وجدته انطلق بالسيارة دون أن يهتم لما تقول، صمتت لوهلة تستوعب ما حدث وهنا قطع صمتها سؤاله:
-قولي عنوان بيتكم؟
أغمضت عينيها وراحت تتنشق الهواء داخلها وكأنها تكظم غيظها منه، انفرجت أسارير وجهه وارتفع صوت قهقهته قائلًا:
-إنتِ هتتحولى ولا أيه؟
غفران وهي تنظر أمامها:
-عنواني في حي شعبي لا يليق بمعالي حضرة دكتور " ريّان الشُهبي" أكبر وأشهر جراح عيون.
ريّان بنبرة باردة:
-أصلًا عيشت واتولدت في حي شعبي، وبعدين هو مفيش احترام لفرق السن بينّا خالص كدا، واحدة في تالتة جامعة بتتلامض على دكتور عنده 29 سنه وفي طريقه للتلاتين!
غفران بضحكة ساخرة من جانب فمها وهي تتلاشى النظر إليه
-22 من 29 مش فارقة كتير.
ريان بنبرة مُصرة:
-لا، دي تفرق جدًا على الأقل نخف لماضة شوية.
انقضت المسافة بسرعة البرق وخاصة وسط لحظات الشدّ والجذب اللذيذة من كليهما، توقف أمام البناية التي أخبرته بعنوانها، أسرعت بالترجل خارج السيارة وقبل أن تُغلق الباب شعرت بشيء من الاحراج إن لم تدعوه كدعوة صورية من باب الذوقية فقط وخاصةً بعد ما فعله لأجلها، كانت مُتيقنة من رفضه لدعوتها ولذلك تحدثت بقلب متين وهي تقول بنبرة سادرة:
-اتفضل معايا أشرب حاجة؟!
ريّان وهو يترجل من سيارته:
-وأنا قبلت دعوتك، أهو يبقى بينّا عيش وشاي!
فغرت غفران فمها وهي تجده يُتمم غلق أبواب سيارته، حدقت فيه بدهشة وهي تقضم أظافرها مرددة بخفوت تتحدث إلى نفسها:
-دا وافق! أمنعه ولا اعمل ايه؟!، دي ماما هتجيبني من شعري.
-يلا!
قطع شرودها صوته الهادئ، تبدلت ملامح وجهها إلى الابتسام وهي تبتلع ريقها فتقول:
-أه طبعًا، اتفضل.
--------
-نورتنا يا دكتور، اتفضل.
أردفت شريفة بتلك الكلمات وقد احتلت السعادة معالم وجهها، ضيقت غفران عينيها باستغراب من ردة فعل والدتها، فهي لم تنهرها خفية حتى، ابتسم ريّان بصدق وراح يلتقط كوب الحليب من يدي والدتها وهو يردف بنبرة مُمتنة:
-دكتور أيه بقى؟، أنا ريّان وبس ولا إنتِ مش عاوزاني أقولك يا ماما شريفة؟!
شريفة وهي تناوله طبق البقسماط ثم طبق آخر مملوء بحبات الرمان وهنا تابعت شريفة بحب:
-اللي تحبه يابني، اتفضل أشرب كوباية اللبن دي علشان كُلها فيتامينات بدل ما إنتَ ضعفان كدا.
جابت ببصرها بينهما لا تعلم ما خطب والدتها؟! وهي التي ترفض استضافة أي رجل إلى منزلهما، أكملت شريفة باهتمام بالغ:
-وبعد اللبن كُل طبق الرمان دا، قشرته لك علشان عارفة شباب اليومين دول بيحبوا الرمان بس ما يقشروهوش، دا حتى غفران لو هتموت وتاكله ما ترضاش تقرشه، لازم انا اقشره لها.
تنحنح ريّان قليلًا قبل أن يضع كوب الحليب على الطاولة ويقول بهدوء:
_ أنا أسف اني جيت في وقت مش مُناسب ووالد آنسة غفران مش موجود، المفروض كُنت عرفت ميعاد رجوعه وجيت اتطمنت عليها.
جال الدمعُ في عيني غفران وهو يذكرها بوالدها الذي توفاهُ الله وهي بالسنة السادسة من المرحلة الابتدائية، نحت ببصرها إليه ثم تابعت بنبرة ثابتة قليلا:
-يبقى مش هتيجي خالص، لأن بابا مُتوفي من وأنا صغيرة.
افتر ثغرهُ عن ابتسامة متوترة وهو يرى نبرة الانكسار في خلجات صوتها ليردف بثبات:
-البقاء لله، طيب استأذن أنا وألف سلامة على آنسة غفران.
شريفة وهي تنهض من مكانها:
-أتمنى تكرر الزيارة تاني.
اقترب منها ريّان بتلقائية شديدة وراح يُقبل جبينها وسط ذهولها ثم قال بحُب:
-وعد يا أمي.
-------
لم يتحرك خُطوة واحدة من أمام البناية حتى الآن، مرّ عشر دقائق على مغادرته المبنى ولكنه بقي أسير لحظات الدفء داخل هذه الشقة، أحب هذه السيدة جمًّا، تُذكره بها، هذه التي أحبته وأغدقت عليه من فيضان أمومتها، لم ينعم بلحظة دفء أو سلام بعدما رحلت عنه وما أشد الفراق صعوبة وهي تموت أمام عينيه حتى محاولاته بأن تبقى معه باءت كُلها بالفشل، توفى والديه أمام عينيه ومن هنا كان لقلبه حظًا من قسوة الدنيا عليه.
يتذكر الطبق الذي امتلأ بحبات الرمان عندما كان يستذكر دروسه استعدادا لامتحانات الثانوية فتدخل عليه والدته بهذا الطبق الذي يفضله، يتذكر كذلك دعوتها له بصوت دافئ:
-"ربنا ينولك اللي بتحلم بيه يا ريّان وما يضيع لك تعب وتفرح دنيا وآخرة ويرزقك ببنت الحلال اللي تصونك وتغفر لك لو جيت عليها لحظة، ما هو انت عصبي بس طيب، واللي هتكمل معاك لازم تكون مؤمنة بالغفران في رحلة الدنيا.
-إنتَ لسه واقف؟!
استيقظ من حبل ذكرياته بوالدته على أثر صوتها، نحا ببصره إليها وظل مُحدقًا بها لفترة طويلة، ابتلع ريقه ببطء وهو ينادي اسمها في عقله قبل أن ينطق به فيقول بشرود وهو ينظر لها:
-غفران!!!!!!
أنت تقرأ
رواية "ضي البادية".. حرب مسلوبة الراء.
Romance"المقدمة" فُتنت بها وأنا الذي عنهن مُعرضا. أتى بيّ القدرُ إليها، من كُل حدبٍ وصوبٍ.. أنا مَن فُزت بها. وَلّيت إليها حثيثًا بعدما تخطيّت زحام العابرين والعراقيل مُضيًا ليجمعنا القدرُ. وفي وليجة نفسي بقيتُ حائرًا، لما القدرُ ألقاني بين أحضانها؟، هل سأ...