الفصل السابع..(وجه جديد)
-------
الحياة لا تكفل حق الغافل والضعيف أو حق الضحية فيه، تخلَ عن العيش داخل بؤرة انسحابك واللا مواجهة، قف على أرض صلبة وستنحني لك الدنيا آسفة على ما بدر منها وإن كان ضعفكِ بين يد آخر فحتمًا سيقبض روحك ويعزز قلة حيلتك وإن باءت محاولاتك جميعها بالفشل، فأنا رزق الله لكِ، والذي به لن تُذلي أبدًا، فخيارات الله لنا دومًا صائبة.
-------
-ما تجيب من الآخر يا هشام وقول ناوي لها على أيه؟
أردف شادي بفضول، نفث هشام الدخان في الهواء الطلق وبنبرة متجهمة تابع:
-لا ناوي ولا بتاع، البت عجباني وهتيجي لي برجليها.
ضيق شادي عينيه مردفًا بنبرة مترقبة:
-قصدك أية بالكلام دا؟!
دعس فوهة سيجارته داخل المنفضة ثم استأنف بنبرة مُتريثة كليًا:
-يعني بصريح العبارة مش عاوز منها غير ليلة واحدة وهديها الكارت الأحمر ولو إني بصراحة تعودت على سذاجتها في حياتي وأنا بعشق الساذجين، بحس إن ذكائي واضح وسطهم.
ضغط شادي نواجذه دون أن يشعر به الآخر ثم قال:
-بصراحة يا صاحبي كُل الناس مخدوعة فيك، إنت عارف إنك عامل زيّ السهل الممتنع، راجل مهندس في آخر سنه وبعد ما تتخرج هتتعين في مركز حلو ما هي الجامعة بفلوس أبوك، وشكلك ابن ناس ومليونير والبنات هتموت عليك يعني بمعنى أدق إنت إضافة وحلم لأي بنت لكن انت عكس كُل دا، صايع وخمورجي، المظاهر خداعة صحيح.
أطلق هشام قهقهة عالية وراح يعود بجسده للخلف مستندًا على ظهر الفراش وبنبرة عدوانية تابع:
-وهو المطلوب إثباته، رغم إن أبويا دا بنشوفه من السنة للسنة وقاعد في ألمانيا وسايبني هنا مع بنات مصر، إلا أنه برنس قدر يعملي مكانة في أي مكان بروحه، أنا مستني اليوم اللي هبقى فيه مُعيد، هقضي كُل ليلة مع واحدة شكل وكله بالدرجات.
شادي بابتسامة باردة:
-وإنت فاكر بقى إن كُل البنات رخيصة!
تابع "هشام" بابتسامة دونية:
-يا عم أنا الخضرا الشريفة قدامي تقبل الرخص عندك تقوى في الأول كل حاجة كانت عيب ودلوقتي! بتتنازل مرة ورا مرة، ليه بتتنازل علشان رخيصة زيّ باقي البنات.
تجهمت معالم وجه شادي بشكلٍ لا إرادي، تعمقت نبرة صوته وباتت ثقيلة رخيمة وهو يقول بازدراء:
-مش يمكن بتحبك بجد؟! ليه قولت عليها رخيصة لمجرد إنك طلبت منها تثق فيك وهي صدقت، أنا معاك إنها هبلة وبتصدق بس البنت سيرتها كويسة، ما تسيبها كويسة زيّ ما هي يا هشام؟!
هشام مُضيقا عينيه بتساؤل:
-إنت مالك بتدافع عنها كدا ليه؟! وبعدين أنا مش بجبر حد على حاجة، كُله بإرادته بييجي.
جاهد "شادي" في اخفاء ملامحه الغاضبة وقال:
-طيب ما إنت ممكن تقولها أنا مش بحبك وهي هتفهم وتبعد، ليه بتوهمها بحبك؟! نصيحة يا صاحبي سيب المحترمة بأخلاقها مش يمكن الزمن يلف بيك وهي تكون من نصيبك ساعتها هتحمد ربنا.
هشام بقهقهة عالية استفزت الآخر الذي ضغط فكيه وكاد يفتك بهما:
-إنت فاكر إني ممكن أتجوز وتيجي مراتي تخوني؟ سيبك، أنا كدا تمام لا عندي أخت ولا زوجة ولا بنت وعايش براحتي.
--------
-اللي إنتِ بتقوليه دا كارثة.
أردف ريّان بهذه الكلمات في صدمة من وجود عقليات كهذه حتى الآن، نكست تقوى ذقنها يائسة دون أن تنبس ببنت شفةٍ فيما دمدمت غفران بتلعثم ونبرة غير مُصدقة:
-يدفنوكِ بالجنين لو كانت بنت؟! ولو ولد الصلح يتم نهائي!، هم مجانين، إزاي أصلًا يتحكموا في أرواح بيد ربنا بس.
تساءلت غفران كيف تحملت صديقتها ما لا يطيق أن يتحمله بشر؟ طفلة ترعرعت على أنها خُلقت للزواج ما أن تبلغ مُجرد آلة لإنجاب جيوش من الأبناء والأحفاد لتكتمل عزوة القبيلة وإن تجرأت على العادات التي تحض من حُريتها، عُدت ضمن العاصيات اللواتي لا حق لهن بالعيش ومن ثم يتم وأدهن أحياء يخنقهن الثرى دون وجه حق، ماذا فعلن؟! لا شيء سوى أنهن يمارسن أدنى حقوقهن كبشر وهو حق اختيار طريقة عيشهن والبحث عن السعادة بين ثنايا خياراتهن.
تنهدت تقوى تنهيدًا ممدودًا بعُمقٍ وهي تمحو القطرة العابرة التي سقطت من إحدى عينيها رغمًا عنها لتستأنف بنبرة صامدة رغم تحشرج مخارج حروفها:
-أخويا قتل مش هنكر وهم قتلوه قصاصًا لبنتهم لكن أنا ذنبي أيه؟! أبقى جزء من بنود صلحهم ليه؟! دا أنا ركيزة أساسية علشان الصلح يتم مش مجرد بند من بنوده، هم شايفين إن لو جوزوا البنات من الشباب واختلط النسب هيخافوا يأذوا بعض، دا انا كُنت بحمد ربنا إن ماليش ابن عم يربطوني بيه.
توقف ريّان عن القيادة حالما وصل إلى البناية مرة أخرى، شكرته "غُفران بامتنان، فيما تكلم بحمية قبل أن تخرج "تقوى" من السيارة:
-إنتِ مش آلة وروحك مش بيد حد غير ربنا واللي بيتنازل عن آدميته بيعيش طول عمره مذلول، ربنا معاكِ وأنا موجود في أي وقت تحتاجيني فيه.
رمقتهُ تقوى بنظرة مختلفة عن ذي قبل، فكانت دائمة السخط عليه نتيجة معاملته لصديقتها وفي كُل زيارة لصديقتها في مقر عملها تحدث مشادة بينهما.
سعدت "غفران" بشدة من لين الحديث بينهما والذي أخيرًا لم يعد شدًا وجذبًا، نظرت غفران نظرات نافذة إلى عينيه ثم قالت بنبرة مُتعجلة وكأنها تتخلص من هذا الحِمل الثقيل خلف حديثها:
-عايزة أجازة بكرا، إلهي يسعدك ويرزقك محبة خلقه.
تراءت له ملامح وجه والدته فيها، عندما كانت تبتسم له داعية بنفس الدعاء في كُل ليلة وضحاها، في كُل فرضٍ وكُل حين، يتذكر لحظة أن تطبع قُبلة حانية على جبينه وهي تقول:
-"إلهي يسعدك يابني ويرزقك محبة خلقه ".
-موافق .
وجد نفسه ينطق بها دون عناء أو جُهدٍ، عاد ينظُر إلى ملامح وجه هذه الصغيرة مُبتسمًا، تشبه نقاء والدته للغاية، تشبه داخله بوفرة، رغم ضياعه في هذه الدنيا بوفاة والديه إلا أن والدته لم تنسَ أن تُنشئ رجلًا ذي بذرة صالحة مهما أظهر غير ذلك، لا ينسى دورها في بنيانه المشدود حتى أنه إن غفل وأخطأ مرة يتذكر تجنبها الحديث معه وهي تُخبره بأن شقائه في غياب الحديث بينهما أهون من عقاب الخالق جراء ذنب يفعله بنفس ضعيفة وَهنة، حدقت إليه في دهشة وهي تزم شفتيها باستغراب وتساؤل:
-أُقسم!
-أقسم بالله موافق، هكلم صاحبي يبعت ليّ بنت من المركز عنده تكون موجودة مكانك بكرا.
غفران بسعادة كبيرة:
-ربنا يخليك يا دكتور والله إنت ابن حلال.
وضع ذراعيه على مقود السيارة يستند عليه وهو ينظُر أمامه والابتسامة لم تُفارق ثغرهُ قط، ربما هذا موعد السعادة التي وعدته الدنيا بها.
---------
دخلت الغرفة تحمل بين كفيها صينية صغيرة من النحاس المزركش بالفضة ويوجد عليها كوب من الماء إلى جانب شريط من أقراص الدواء الخاص بالشيخ الكبير إذ أنه مُصاب بضيق تنفس ويلزمه من حين إلى آخر جلسة تنفس صناعية عبر الجهاز أو ربما بخاخ.
قامت بوضع الصينية على الطاولة بهدوء، لم ينتبه الشيخ إلى وجودها لتتحرك صوبهُ بخُطوات وئيدة تتفحص البروازين القابعين بين كفيه المجعدين، ابتلعت غصة في حلقها وهي تنظر إلى صورة ابنتها الصغيرة والآخر صورة لولده الغائب، تنهدت بأسى ثم جلست القرفصاء أرضًا تحت قدميه ومضت تقول بنبرة مبحوحة:
-اشتقت لتجوى يا شيخ؟!، ولا زعلان من قساوة الدنيا لفراج التنين؟!
مسح بأنامله على صورة هذه ذات الجدائل السوداء الحريرية وهي تجلس وسط الغنم والإبل والضحكة تغدق ملامح وجهها، سقطت عبرة منه على الصورة فيما تابعت نادرة تؤنبه:
-هاذي كله ذنبك يا شيخ داغر من يوم ما چيت على هالبيت وإنت تشوف إن خلفة البنات إِتعرك، ربيت ولودك يهينوا النسوة فما تلوم بنيتي على چحود قلوبنا وما تلوم بيّار أنه فارقنا ونفد بچلده لأن الله رايد له الخير لهيك بَعد بس أنا مش مسامحه إي أذي يصيبها لضناي.
-ما راح يصيبها شي، تجوى راچعة لحضن شيخها، ما حدا حب تجوى زيّ من يوم ما انخلجت وأنّي صرت أعرف إن النسوة خير، أنا ما تذوقت الحنية إلا من قلب تجوى، تجوى وبيّار أزين وأطيب روحين على قلبي، الذنب ذنبي.
نادرة وهي تنحي الدموع عن وجهها بخرقة:
-الحوراني يبغي يدفنها يا شيخ، بنيتي إذا ما إچاها صبي راح تندفن وروحها فيها.
الشيخ بنبرة ثابتة رغم ارتعاش أطرافه جراء السن:
-الحوراني أطيب الخلق وما راح يضرها زيّ ما احنا ضرينا بنيته.
نادرة باختناق:
-كُله من ذيك الطاغية، الله لا يسامح عابد وتحريضه لعياله على القسوة.
---------
انزوى داخل حوض الاستحمام ينفض عنهُ عناء اليوم، جلس مُسترخيًا تماما ولم تغب الابتسامة عن وجهه حتى هذه اللحظة، أرجع رأسه للخلف مُستندًا إلى حرف الحوض وهو يتذكر جنونها التلقائي أمامه، لكم هي بسيطة؟، تطلق العنان لكلماتها التي تُعمر صدرها دون مواربة، هي شفافة للحد الذي ينفي هذه النقاط السوداء المُخادعة التي يراها في كل الناس باستثنائها، أيعقل أنها ذاك الغفران المنشود من فِي والدته؟! هزّ رأسه بعبث لتتبعثر قطرات الماء من خصلاتهِ، جاب شرد قليلًا لقد مضى على غيابهما عامان لم يذق فيهما إلا كُل مريرٍ حتى جمال الدنيا قد وُضع في والدته وقد انجلى لمّا فارقتهُ، تنهد بهدوء قائلًا:
-فينك يا أمي؟!، الدكتور ريّان عبد العزيز الشُهبي أصغر وأشهر دكتور عيون في مصر واللي مسك مقاليد الأمور في المركز بعد أبوه وأثبت جدارته، موجوع في غيابك، طفل بيعيط كُل آخر ليل وهو بيفتكر ذكرياتك معاه، لو بس كُنتِ قولتي ليّ أنك هتمشي أو حتى علمتيني أسكت الطفل اللي جوايا ازاي لما توحشيه، وحشني حضنك يا أمي بس أنا ثابت زيّ إنتِ ما وصيتيني، ثابت مش بتهز يا أمي.
[[أخذهُ عقله إلى هذه اللحظة الذي حاول مليًا أن يتلافاها، كان هذا اليوم هو يوم حفل تخرجه، قاد هو السيارة بعد أن أذن له والده بذلك فقد وعدهُ ذاك الطبيب من الطبقة المتوسطة ماديًا بأنه سيهديه سيارة لحظة تخرجه ليفي بوعده له، كانوا عائدين من صالة الحفل، بدأ قيادة السيارة بسعادة غامرة فاليوم قد حقق ما حلم به والديه، كان والده يجانبهُ في المقعد الأمامي يعطيه النصائح والارشادات أثناء القيادة فيما جلست والدته بالخلف، لا يتذكر شيء آخر سوى ضحكة والدته وهي تُثني عليه وتُخبره بأنها في أسعد لحظاتها الآن ومن ثم يجد عربة نقل كبيرة تُطيح بالسيارة بقوة حتى طاحت بها من فوق أحد الكباري لتسقط في المياه.
اغرورقت عيناه بالدموع نادمًا على رغبته التي قتلتهما، لا يتذكر سوى أنه استفاق ليجد عربات الشرطة والإسعاف مرابطة بالشاطئ ويجلس هو داخل عربة الإسعاف لجلسة تنفس صناعي فيما جاري البحث عن جثتي والديه.
انهار باكيًا كالطفل وهو يصرخ بألم:
-أمــــــي!! أبويــــا!!
---------
زوت "تقوى" ما بين حاجبيها وهي تجد صديقتها مُنشغلة تمامًا أمام حاسوبها، أسرعت بالجلوس بجوارها ثم تابعت:
-إنتِ بتسمعي أيه يا غفران؟!
أوقفت غفران مقطع الفيديو ثم أضافت بنبرة حماسية:
-دي يا ستي مُحاضرات لدكتور نفسي ممتاز ومشهور على السوشيال ميديا وكُل الناس بتحبه وبعد أسبوعين نازل مصر علشان حفل توقيع كتابه في طب النفس، جربي تسمعي له هيفيدك أوي.
رفعت تقوى كتفيها باستنكار وبنبرة متبرمة قالت:
-ماليش أنا في كلام المجانين دا، إنتِ عندك فراغ وفاضية.
غفران بغيظ وهي تشد وِجنتها:
-طيب جربي ومش هتندمي.
تقوى بحنق:
-سيبيني في حالي والنبي، هشام مش راضي يرد عليّا وانا قلقانة.
---------
-يا شيخ داغر، چاي لك مرسال من برات البلد.
أردف ساعي البريد بهذه الكلمات وهو يدلف إلى بهو البيت، مشى إلى الدكة التي يجلس عليها الشيخ الذي ما أن سمع حديثه حتى أردف متعجبًا:
-برات البلد!!
الساعي باستكمال:
-هاد المكتوب على الظرف.
الشيخ بنبرة آمرة وصوتٍ أجشٍ:
-اقرا عاد لشوف.
أومأ الساعي برأسه إيجابًا، التقط الورقة بعد أن فتح المظروف بتريثٍ، جال ببصره بين السطور وهو يعقد ما بين حاجبيه باستغراب ومضى يقرأ:
-"عزيزي الشيخ داغر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعد قرار دام لعامين من وفاة أبي، أود رؤيتك جدي.
المُرسل: حفيدة آل داغر ".
أنت تقرأ
رواية "ضي البادية".. حرب مسلوبة الراء.
Romance"المقدمة" فُتنت بها وأنا الذي عنهن مُعرضا. أتى بيّ القدرُ إليها، من كُل حدبٍ وصوبٍ.. أنا مَن فُزت بها. وَلّيت إليها حثيثًا بعدما تخطيّت زحام العابرين والعراقيل مُضيًا ليجمعنا القدرُ. وفي وليجة نفسي بقيتُ حائرًا، لما القدرُ ألقاني بين أحضانها؟، هل سأ...