الفصل الثاني.. (هروب اضطراري)
--------
عندما يجتاح الفؤاد طيف من الغُفران، تجدهُ يقبل المُرُ مُعتقدًا أن الدواءَ فيه.
فالغُفران في موضعهِ كالكلمُ إذ قيل من ذاك الذي حنكتهُ التجارب فلا يخطئ، والقلبُ إن كثُرَ نزفُهُ فهيهات للغُفران أن يُداويه،
كُن مُحنكًا يا قلب كصاحبك، فلم تعُد الدُنيا تنال من سذاجته أو تُدنيه أسفل قدميها.
-كيف تلدعها حية، أيش كانت مِجَيِله حدها (نايمة جنبها)؟!
أردفت "نادرة " بتلك الكلمات في حدة وانفعال شديدين، ترقبت "طيف" قسمات وجهها المحتدمة غضبًا لتصرخ السيدة بنبرة واجمة وهي تتحول ببصرها تجاه تلك الصامتة ذات الأطراف المُرتجفة:
-وين طسيتوا؟، ردي يا بنَيتي!
ازدردت طيف ريقها بريبة وقد تهدجت نبرة صوتها لتقول بتلعثم:
-والله يا حماتي كُنا جاعدين بالبر نرعى الغنمات ونفضفض..
حاولت "طيف" جاهدةً أن تخرج من هذا الموقف دون خسائر، لتقف في مكانها على الأثر وراحت تهتف بنبرة صارمة لا تليق بها تشرح لها كيف تم الأمر مُستخدمة حركات يديها:
-ولجينا الحنش بيجرب علينا وعينه تضوي نور أحمر، وما وكدت أصرخ لحتى هجم علينا، كُنت ابغى أضربه بالخوصة "سكين" بس خوفت.
لم تقتنع "نادرة" فسألت بتهكم:
-وكيف نط لحنك تجوى!، ليش ما لدعها من رجليها! والله العير (الحِمار) يفهم عنك.
نكست "طيف" ذقنها بعد أن ألقت نظرة أخيرة على صديقتها النائمة في فراشها أو ربما هذا الظاهر لأعيُن الجميع ومن ثم رفعت بصرها باتجاه السيدة واستسلمت قائلةً بتلعثم:
-مدري هالبنت طج راسها ولا أيش مِسكته وراحت جبلته مدري متل شو كان اسمها!، اديشها نِفسها حلوة.
تحسست "نادرة" جبين ابنتها فوجدته دافئًا فيما أردفت طيف بتساؤل حزين:
-لا تجولين إنها ماتت يا حماتي! والله بموت من الحسرة.
ردت "نادرة" بسخط وهي تتحرك صوب باب الغرفة:
-إذا بتموت بنرتاح، وش راح نجول لأهلك اللي إجوا ليخطبوها؟ الله ياخذها.. جاطعة علينا الفرحة.
أنهت كلامها ثم خرجت على الفور بينما اقتربت طيف من فراش صديقتها تجلس إلى طرفه، مسحت على جبينها بحُزن وما هي إلا ثوانٍ حتى وجدتها تفتح عينيها بثبات لتشهق طيف بسعادة قائلة:
-ضي، إنتِ بخير!
لمعت عيناها ببريق لامعٍ- تُشبهان بحرًا انعكس به ضوء الشمس الأحمر لحظة الغروب، جال الدمعُ في عينيها وقد أُحتجز الكلام في حلقها دون النطق به، عافرت مليًا كي تُبقي دموعها في محجريهما فيما حدقت "طيف" إليها بنظرة ثاقبة لتجدها وأخيرًا تقول بنبرة مُنكسرة:
-تبغيني بخير؟ وليش انتِ الوحيدة يلي ما راح تفرحي بموتي، ليش أنا مكروهة يا طيف، ليه ما يحبوني!
جرى دمعُ غاسق من عينيها ليسيل على وِجنتيها بلُطف يحمل معه أوجاع كلمات والدتها، كسا الحُزن قسمات وجه الأخرى وراحت تلتقط كفها تضعه بين راحتيها وتقول بمواساة:
-يُمك ما قصدت، جالت هيك من حُزنها عليك، لا تبكين.
رفعت "تقوى" ذراعها إلى وجهها وراحت تمسح عَبراتها الساقطة من محجريهما وهي تقول بشرود:
-وينه عمي ذا؟، كيف تمرد عليهم وسافر!
طيف بنبرة حانية:
-چدي داغر جال قبل هيك، إنه سافر قبل يبوك ما يتچوز، بس هو ليش ما بيسأل عليكن!
جاش الهمُ في صدرها وهي تباغت صديقتها قائلة بنبرة جافة:
-يجولون إني مُتمردة زيه لعمي كُل هاد لأني بدي أتچوز من برا الجبيلة!
طيف وهي تعض على شفتيها قهرًا:
-خلص لا تبكي حبيبتي، أنا بكلم چاد ويبعد عنك.
قهقهت تقوى بضحكة خفيفة وهي تردف باختناق:
-وإذا بِعد چاد بييچي غيره، أنا خايفة يا طيف.
طيف بهدوء:
-من أيش؟!
تقوى ببكاء صامت:
-خايفة أجولهم بحب حدا يحرموني منه أو يأذوه، ذي العادات ما أحبها ولا بدي تتفرض عليّ، إن البنت لابن عمها أو من جبيلة معروفة، أنا مش لاجيه نفسي هْنيّا، هشام وحده اللي بحبني ويخاف على مشاعري، هم بيأذوني.. المُر هم.. وعُمرهم ما كانوا لمُري دوا.
أجهشت باكيةً ترثي حالها وشبابها المكبوت تحت قبضة أهلها فقد سُحب منها حق الاختيار في حياتها رغم أنها وُلدت مُخيرة، مُخيرة أُجبرت على أن تعيش مسلوبة الحقوق تسير وفق ما يرغبون أو لربما وِفق ما يأمرون.
- موچوعة يا طيف.. بنزف.
في هذه اللحظة سمعتا صوت طرقات قوية على باب الغُرفة ومن ثم فُتح على مصراعيه، دخل والدها أولًا وبعده تيسير وهنا هتف بصوت جهوري يتوجه بحديثه إليها:
-كيفك هالوجت يا چلابة الفضايح، لحجتي العار بيّا وسط رچالة الجبيلة، من وين طلعت الحية باليوم اللي هتتخطبي فيه!
تيسير مُضيفًا بصوت حانق:
-جولت لك يا بوي، دي ما يتاخد برأيها، كُنا خطبناها لچاد وما اهتمينا لتعبها.
تقوى بنبرة حانقة:
-تخطبوني كيف؟! ، سألتني جبل ما تجابلون الناس!، أنا ما ابيه، الچواز مو غصب.
تطاير الشرر من عينيه وقد احتقن وجهه بالدماء وهو يتجه ناحية شقيقته ليلتقط بعضٍ من خُصلاتها بين كفه وبنبرة واجمة أردف:
-من مِتى يتاخد برأيك!، إنتِ تستعدي لتروحي بيت چوزك بس؟ إحنا بنختار وحنكك ما ينفتح.
رفعت " تقوى" بصرها إلى شقيقها ترمقهُ بثبات رغم تيار الألم الذي اكتنف مُنتصف رأسها من قوة قبضته لتهتف بنبرة مُختنقة:
-الله لا يفرحك بحياتك يا تيسير عُمرك ما اخدتني بحضنك ولا رچعت ليّ حجي من حدا أذاني، حقيقةً ما حدا أذاني أكتر منك، بيكفي تتاجروا بمشاعري واللي أحبه أو ما أريده، بيكفي تحركوني على هواكم، من حجي أجول "لا"، حجي أحب وأعيش، بيكفي تهددوني بالقتل إذا غلطت، إحنا تولدنا بهالدنيا علشان نغلط ونتعلم مش نخاف من الغلط لننجتل، بدي أعيش حُرة نفسي ومتل ما بريد.
تدخل الأب هاتفًا بحدة وهو يمد عصاهُ بينهما بينما يقف في مكانه دون أن يغضب لاقتراب شقيقها منها فيما تابع تيسير وسط ذهول "طيف" مما يفعل:
-وش الحياة يلي بدك تعيشيها!
تقوى والدموع تتساقط من عينيها:
-حياة بَلاك، حياة ما فيها جبر وإلزام، حياة ما فيها سوي هالشي بدون ما تنطجين، حياة بلاقي فيها مين يمسح دمعاتي، حياة ما فيها حدا يمارس جوته على ضعفي.
تيسير بضحكة مُتهكمة:
-في الچنة، أما هون إنت بنت جبيلة "آل داغر"، تطيعين الكلمة واللي متلك تچوزت وعِندها بدل الوِلد عشرة.
أسرع "عابد" بالقبض على ذراع ابنه، فيما تابعت هي بنبرة حادة:
-وانا ما راح أتچوز من جبيلتي ولا جبيلة غيري، كُل الناس بتطور إلاك يا تيسير، وأنا في الأصل بحب واحد وما أخذت برأيك.
جحظت أعينهما وهما ينظران إليها في صدمة، شهقت طيف بفزعٍ وهي تُهرول إلى صديقتها ومن ثم وضعت كفها على فمها لتقول بنبرة مُتحشرجة تهمس لها:
-الله يسامحك يا تجوى.
قطع خوفها المُريب صوت "عابد" وهو يهتف بصوت دبّ الرُعب في أوصالها:
-تحبين واحد من المدينة وهم أصلًا ما يحبونا؟!
وفي هذه اللحظة وجدت صفعة تهوى على وِجنتها بقوة جعلتها ترتد إلى الخلف صارخة ليستأنف تيسير عقابه لها وهو يتناول عصا والده وينقض على جسدها يضربه، عَلت صرخات طيف الباكية وهي تقبض على ذراعه تتوسل إليه ببكاء:
-الله يرضى عليك يا تيسير اتركها، هاي اختك حرام عليك؟.
التفتت طيف ناحية "عابد" ومن ثم هرعت إليه تُقبل ظاهر كفه والدموع تتساقط من عينيها بفزع وهي تهتف:
-وجفه يا عمي راح يموتها!!
عابد بنبرة صارمة وهو يُتابع الموقف بجمود:
-اتركها يا وِلد.
ابتعد تيسير عنها بعد أن ضرب رأسها بالحائط المجاور لفراشها فيما رمقتهُ تقوى بضعف وقلة حيلة قبل أن يُغمى عليها فاقدة للوعي وقد تحبر جسدها من كثرة الضرب وتجمع الدماء في أماكن مُتفرقة به وهنا ردد تيسير بحدة:
-بدها تصغرنا باتفاقنا مع جبيلة چاد؟ من بكرا يبوي بنعمل سامر (ليلة فرح) وبيعجد عليها وياخدها لبيته، هالبنت فاچرة، حلال عليها تتجطع وتترمي لديابة الصحرا.
دخلت "نادرة" فورًا ثم تصلبت مكانها وهي ترى ابنتها مُستسلمة كُليًا على فراشها وقد فردت ذراعيها باستسلام، ضربت صدرها بقوة وهي تجوب ببصرها بينهم ليقع على طيف التي تبكي بحُرقة:
-وش سويتوا ببنتي؟ مالها تجوى يا طيف؟!
نظرت "طيف" إليه بكُره وبُغض لتردف بنبرة خافتة بالكاد تُسمع:
-ملهوفة عليها!، هاي جدام عينك بتموت ودعوتك كنها تتحجج.
هرعت "نادرة " إلى فراش ابنتها ومن ثم وضعت ذراعها أسفل رأسها ترفعها إليها وبنبرة صارخة تابعت:
_ وش سويتوا بيها يا عابد؟.
تيسير بنبرة حادة:
-بنتك تحب واحد من المدينة، من ميِتى نچوز بناتنا للغُرب؟، ومن ميِتى عندنا بنات تختار؟ چهزي بنتك لنعجد عليها بكرا لچاد.
عابد بنبرة صارمة:
-روح بلِغ شيخ جبيلتهم بوقت العجد.
طيف وقد خرجت من صومعة صمتها صارخةً:
-بس هيّ ما تريده متل ما أنا ما عدت بريدك.
خرجت "طيف" فورًا لتتخذ قرارها بانفصالها عنه رغم الخوف الذي ينهش داخلها قهرًا على صديقة طفولتها.
ترجل "عابد" يصطحب ابنه معه لخارج الغرفة فيما أخذت نادرة تضرب على وِجنة ابنتها برفق وهي تهتف بنبرة قاربت على البُكاء:
-جلت لك خوفها بس ما تضربها يا عابد، وش ذنبها هيّا بماضيكم مع هالجبيلة، ليش لتكون هي الضحية وكبش الفدا؟! جلت ليّ الجسوة عليها راح تجعلها طوع لينا، بس جسوتنا دمرتها ودمرت أمومتي معها.
---------
"داخل إحدى العيادات بالقاهرة"
اتجهت "غُفران" حيث غرفة الكشف التي يجلس بها الطبيب، تنهدت تنهيدة ممدودة بعُمقِ قبل أن تطرق على الباب بخفة، لم يأتيها الإذن بالدخول، فعاودت الطرق على الباب حتى سمعت صوته يهتف بتبرم:
-ادخلي.
دخلت بتروّ وما أن وقفت أمامه حتى تابعت بهدوء:
-آسفة على الإزعاج يا دكتور، بس في مريض كبير في السن وتعبان جدًا، فأدخله دلوقتي!.
كان مُثبتًا بصره بها في جمود ونظرات برية اكتنفتها بقوة، رمقتهُ هي باستنكار وقد عبرت قسمات وجهها عن الامتعاض لتتحدث إلى نفسها بحيّرة:
-هو مسمعش دا ولا أيه!
لترفع بصرها إليه مجددًا مُضيفة:
-حضرتك!، ادخله؟!
برزت ابتسامة جلفة على شفتيه الغليظتين ليردف بوجوم وصوت أجشٍ:
-إنتِ شايفة ايه دلوقتي؟!
غُفران بنبرة مُتحيّرة:
-شايفه إن حضرتك حاطط الهاند فون في ودنك وبتسمع أغاني وفي مرضى برا!!
حدجها "ريان" بنظرة قوية ليعود بظهر المقعد للخلف وبنبرة صارمة أردف:
-لأن أنا مش آلة، ولازم أخد فترة استراحة.
غُفران وهي ترمقه بسخط:
-بس أنا بقول لحضرتك إن في مريض تعبان جدًا!.
في هذه اللحظة ضرب ريان على سطح المكتب ضربة قوية بقبضته لتنتفض هي على أثرها وهنا تابع بنبرة آمرة:
-اخرجي برا ودخلي المريض ومش عاوز دوشة.
أسرعت بإغلاق الباب على الفور فيما أطال هو النظر إلى الباب لفترة من الوقت قبل أن يستعد لاستقبال المريض القادم.
اتجهت صوب " العجوز" تعاونه على النهوض وقد سقطت عَبرة على طرف كمه لينظر إليها بفضول مُتسائلًا:
-مالك يا بنتي؟ بتعيطي ليه!، لو مش قادرة تسنديني، أمشي أنا لوحدي.
ارتسمت ابتسامة عريضة على شفتيها وهي تمسح دموعها وتقول بنبرة حانية:
-أصلك فكرتني ببابا الله يرحمه ويطول في عُمرك.
--------
" في تمام الساعة الثانية عشر مُنتصف الليل "
جلس هذا الشيخ الكبير في حُجرته، وقد تشتتت الصور على الفراش من حوله فيما أمسك هو بصورة تجمعه بولديه "عابد" وذاك المُتمرد كما يسمونه، تنهد بأسى وهو يتحسس وجه الآخر بأطراف أنامله، رغم حُزنه الشديد لفراق ابنه عنه وتمرده عليه ورغبته في ترك القبيلة والسفر خارج البلاد بعدما تزوج من فتاة قاهرية وود الاستقرار بحياته معها، إلا أن هذا الشيخ راضيًا عنه بحجم حنو هذا المتمرد عليه في صغره.
سقطت قطرة لا تليق بمكانته الكبيرة بين قبيلته فقد اعتاد بأنه يفوق البشر ولا يمتلك خِصالهم فلا يحق له أن يبكي أو يشتاق، بل يبقى صامدًا.. رابط الجأش وهنا أردف بنبرة واهية:
-وين أراضيك يا وِلد، وكيفها أحوالك، اشتجت يا ولدي؟ اشتجت أضمك، واشتجت اتسمع للقرآن بصوتك.
تنهد تنهيدة ممدودة بعُمقِ ليُضيف:
-تمردك على جبيلتك خلاك تجافي يبوك يا طبيبنا؟، ما ودك تشوفني؟.. أنا مش جاسي عاد.. انا بدفع تمن غلطة زمان كانت.. الله يرضى عنك مطرح ما تكون أراضيك.
في هذه اللحظة سمع صوت صرخات زوجة ابنه والتي فتحت باب غرفته وهي تبكي بصراخ فجٍّ:
-بتي هربت يا شيخنا، تجوى هجت وفارجتنا، عابد بدو يروح على القاهرة ويجتلها، وجفه الله يرضى عليك!
أنت تقرأ
رواية "ضي البادية".. حرب مسلوبة الراء.
Romance"المقدمة" فُتنت بها وأنا الذي عنهن مُعرضا. أتى بيّ القدرُ إليها، من كُل حدبٍ وصوبٍ.. أنا مَن فُزت بها. وَلّيت إليها حثيثًا بعدما تخطيّت زحام العابرين والعراقيل مُضيًا ليجمعنا القدرُ. وفي وليجة نفسي بقيتُ حائرًا، لما القدرُ ألقاني بين أحضانها؟، هل سأ...