32 : مطرٌ خفيف

675 13 15
                                    





ألفظ اسمك في هذه الليلة المُعتمة
‏ويرنّ اسمك فيّ أبعد مما كان يومًا
‏أبعد من كل النجمات
‏وأوجع من مطر خفيف!

                                         - لوركا
____________________


عن القلب أحكي، عن المشاعر التي تُقاس بالسنتيمترات، عن الهواء، والاحمرار، عن الالتهاب والحمى المُصاحبة له، عن الرجفان والبرد، عن طرح الفراش. . . عن الحب ذاتهُ. النظرات المُلتحمة، والعناق.

ومن السماء نحو الطائرة التي حلقت من العاصمة المُمطرة، حيث تجلس شيهانة على كرسيّ فاخر تراقب السحاب، وانتقلت عيناها الواسعتان من فوهة النافذة إلى مقطورة قسم الأعمال حيث تجلس.
تتنعم الهدوء والسكينة وتتحسّسها بكُلّ الحواس، إذّ لم يكن غيث وحده قدّ تخلص من أغلال الرياض، وهي قدّ تحررت، لا عائلة ولا خصام، ولا مواعيدٌ ولا مستشفيات. . .

كانت الطائرة ساكنةً اليوم، بالكادُ فيها شخصان أو ثلاثة، ومن ضمنهم يجلس غيث في سكونٍ عجيب شدّ شيهانة لأن تتأمله، هادئاً ورزيناً ومنذُ بداية الرحلة وهو إما نائم أو منشغلٌ بكتابٍ ما.

كانت تبدو أشدّ صلابةً مما تظهر، رغم هذه الرقة المتنامية على أطرافها، لكنّها باتت أسيرةً للصلابة منذُ وقتٍ طويل وبالرغم من البزخ والرفاهية، إذّ سقطت كل المسؤوليات على عاتقها حتى نست نفسها، من هي؟ وفي أيّ فريقٌ تنتمي؟. . . كان الحزن موتٌ آخر وطويلاً لكنّها تساءلت متى عادت للحياة؟ ومتى أمطرت السكينة في قلبها؟

قطع سكون المكان صوت صراخها الذي اعتلى حينما سقطت العاملة بين قدميها في نوبةٍ اثارت خوف شيهانة.
بفزعٍ وصوتٍ عالِ اقتطع اخر جزء سكينة كان متأرجحٌ على طرف خيطٌ رقيق:
- بسم الله تشهدي يا بنت ، قولي لا إله الا الله. . .
أمسك بها غيث من كتفها يبعدها وأحسّ بالقلق، إذّ أنّها كانت ترجف بين يده بصورةٍ مُخيفة:
- اهدي يا بنت لا يصيبك شيء. . 
ما أن انتهى جلس بهدوءٍ عند رأس العاملة يتفحص عينيها ويراقب تشنجاتها وقال مازحاً محاولاً تخفيف قلق هذه المُنتفضة بجانبه:
- تتشهد!! بالله كيف استنتجتي انها بتموت؟
لتصيح به بانفعالٍ وخوف:
- البنت طاحت عندي تتشنج تكفى يا دكتور شوف لها حل لا تموت . . .
كانت عينيّ العاملة تجحظان وتكاد تخرجان، وجسدها ينتفض كما آخر ورقةً على شجرةٍ اعترت أثر فصل الخريف. ورموشها تُصارعان كما جناح طائرٌ يواجه الإعصار ويحلق.
بمهنيةً رفع رأسها وسأل بلكنةً انكليزية:
- عندك ربو!!
هزت رأسها ثلاثاً، كانت تواجه الموت ووجهها يشتدَّ حمرة، صاح بهذه الواقفة فوق رأسهما :
- جيبي دواها من الشنطة
- أي دواء!!
صاحت به هلعة ليصيح بها أكثر محاولاً ايقاظها:
- دواء الربو بسرعة قبل تودعنا صدق. . .
ما أن سمعت تلك الكلمة فزعت تسحب الحقيبة من الأعلى وتبحث بداخلها لكنّها سقطت من يديها على أرضية الطائرة، لتنهار باكيةً بينما تبحث بيدٍ مهزوزة عن قارورة -مضخّة- الربو وتساعدها المُضيفة القلقة بجوارها. .  وجدتهُ أخيراً لتمدهُ إلى الطبيب بذات اليدّ المُرتجفة وكاد أن يسقط ويتهشم لولا قبضة يده القوية على يدها تحت شهقات الواقفين من حولهم.
بحزمٍ قال:
- لا تكسرينه. . .
لحظاتٌ من الترقب ينعكس داخل الأعين الفضولية، الجميع ينتظر كيّ تنهض تلك العاملة، أيديهم تتشبث بمقاعدهم بقوة خوفٍ وفضول.
حينما تمسكت جيداً بالمضخّة أو البخاخ، حرر قبضة يده وسحب القارورة ليساعد العاملة أن تسحب نفساً وثلاث حتى عادت لها الحياة وشكرتهُ.
تنهداتٌ تتلاحم، و -الحمدُللهِ- تزدحم في المقطورة والأجساد تستريح بعد الشدّ والتمسك بالقلق. .
اختفى الزحام، المضيفات عادوا لعملهنّ، الكابتن يتحمد للمريضة عبر المذياع كما وشكر الطبيب على مُبادرته. . .

يا كوكباً أنا في أفلاكهُ قَمَرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن