الفصل الأخير

58 22 5
                                    

صلوا على أشرف المرسلين

تصوبت + رأي
قراءة ممتعة
************************

كانت الأيام الفائتة أشبه بتيار جارف حمل معه معاناة وألم لا يُحتمل. أرواح جريحة وقلوب مفعمة بالأسى تتماسك أمام رياح المحنة العاتية. وكان والدا غرام يقفان كصخرتين تحت زخات الصدمة التي ضربت بلا هوادة، متخذة أنفاسهما رهينةً أمام حقيقة غرام الجلية التي بُعثرت في كل جانب من جوانب حياتهما.

تكشفت معالم الواقع المرير مع رؤية غرام تُنقل مُسرعة نحو أروقة المستشفى خاضعة لقيود الغيبوبة. رضا الذي طالته يد القدر برصاصة، أُلقي به في عمق العناية، يتحدى في صمت حدود الموت والبقاء. وكنان صلة الواقعة، انهارت عتبات أيامه خلف القضبان وألهب الخبر أحشاء سيرين ووالدته بلا رحمة. كانت سيرين مغمورة بذهولٍ حاولت فهم عمق الغضب الذي سكن قلب شريك حياتها، بينما والدة كنان غرقت في بحر من الدموع لابنتها المأسورة في غيبوبةٍ وابنها المتهم بالقتل.

فُتحت بوابة الهم لأنس الذي طوقته سكرات الخبر المذهل، كانت قدماه تقودانه بحثاً عن الأمل في ردهات المستشفى، حيث كانت الفجيعة بما ارتكبه كنان تنتظره. لم تسلم ياسمين من أمواج غضبه، تلاه شهاب ونور وسيرين في توالٍ من الملامة، لكنَّ أي عتاب تضاءل أمام قسوة ما نثرته الظروف على أرجاء حياتهم.

وعربي، المغمور بأعباء العمل، تحول بلمح البصر إلى زوبعة من الهواجس عند سماع الخبر المفجع. كانت أقدامه تنقله عبر أميال القلق والمخاوف ليصل إلى حيث غرام، ليقف متحفزاً على عتبات غرفة الإنعاش، وعيناه شاخصتان نحو ملامحها التي تلاشت زهوتها وبهاءها بفعل مرضها العتيد. وصدره يحترق بلهيب الأسى وينتفض بقسوة الواقع الذي ألمّ بها.

عندما وقف على عتبة الغرفة البيضاء، التي أطبقت روحها بصمت الغيبوبة، وجدت عيناه نفسهما في مواجهة مباشرة مع الفراغ الذي كان يأكل من أطراف روح غرام. لم تكن زوجة تنتظر منه عهوداً، بل كانت تلك الروح المعلقة على أطراف أنفاسه، التي تتسرب بهدوء خلف الأقنعة الأوكسجينية وأنابيب الإنعاش. وقف على مقربة من سريرها، يضبط نبضات قلبه التي بدت كأنها تُترجم كل شريط الذكريات المشتركة بكل حلوها ومرها.

عيناه التي باتتا مستودعاً للدموع الحبيسة، كانتا تتطلعان إليها وكأنها شعاعه الذي بدأ يخفت شيئاً فشيئاً. يعلم في قرارة نفسه أن لا وعود تستطيع إحياء ما انطفأ من شمعة الأمل، لكن الدعاء المتدفق من شفتيه لم ينقطع عنها. كانت هناك لحظات يغمر فيها الشك كيانه، يشعر بثقل الدهر على كتفيه، كيف لا وهو يرى النور يتلاشى من العينين اللتين كانتا دوماً مصدر إلهام له ولا يستطيع أن يفعل شيئاً لمنع ذلك الظلام الذي يهدد بابتلاعهما.

**

في زاوية الغرفة البيضاء، حيث تطغى على جدرانها صرخات الصمت، جلس ممسكاً بالأسى، ممسكاً بيدٍ كانت ذات يوم سبب زمجرة عواصفه الداخلية. هي ذات اليدين اللتين زرعتا في صحراء روحه شوك الغدر. الآن، وقد اكتست عظامها بالهشاشة يتأملها بعيون دامعة، ليست غزيرة لكنها كانت كفيلة بأن تغسل الحقد القديم من قلبه.

غرام وانتقام عربيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن