الفصل ١٤

108 9 312
                                    

༺༽درب ملتوٍ༼༻

ركَنَ يوريس سيارتَهُ عندَ مبنى الإقامةِ الجامعيّةِ للبناتِ، كانَ الهدوءَ قد نشرَ أرديتَهُ في الأرجاءِ، إلّا مِن أنينِ الريحِ ووقْعِ خطواتِ المارّةِ.

بعدَ أن أطفأَ المحرّكَ، ألقى نظرَةً على الآنسةِ فوربس التي جاورَتهُ في المقعدِ، وقد أخفَتْ ثيابَها القاتمَةَ آثارَ الدمِ. أمّا ملامحُها، فكانتْ شاهدةً على ما قاستْهُ، رغمَ محاولتِها طمسَ ما يظهرُ مِن تعبِها.

خاطبَها بأسلوبٍ كستهُ الرصانةُ:
"ما شهدتِهُ اليومَ لا يقوَى عليهِ إلّا أولُو البأسِ، وقد صمدتِ صمودًا يُحمَدُ."

رفعتْ إليهِ طرفَها، وقد ارتسمَتْ على محيّاها ابتسامةٌ متواريةٌ خلفَ خجلِها، وقالتْ بصوتٍ يُخالطُهُ الترددُ:
"أحاولُ الصُمود دومًا، لكنْ أحيانًا لا أدري كيفَ السبيل إلى ذلكَ."

نظرَ إليها مليًّا، وقالَ بما يُشبهُ التوجيهَ:
"الثباتُ ليسَ في انعدامِ الخوفِ، بلْ في التقدّمِ رغمَ وطأتِهِ. إن كنتِ ترنوينَ إلى أن تُصبحي محقّقةً، فقد خطوتِ أولى الدروبِ بثباتٍ."

حدّقتْ فيهِ وقد بدا عليها العجبُ الممزوجُ بالحياءِ، ثمّ همستْ:
"أتخصّصُ في علمِ الإجرامِ والنفسِ الجنائيِّ، وأحيانًا أُحلّلُ القضايا التي أعثرُ عليها في الشبكةِ. أعلمُ أنَّها ليستْ واقعًا، لكنّها زادي للاستعدادِ."

ابتسمَ يوريس ابتسامةً يسيرةً، وتحدّثَ بما يفيضُ نصحًا:
"ما تفعلينَهُ يُمهّدُ لكِ، لكنّهُ لا يُحيطُكِ بحقيقةِ الميدانِ. فالواقعُ أشدُّ وطأةً وأبلغُ درسًا."

بدتْ وكأنّها تستغرقُ في تأملِ كلماتهِ، ثمّ رفعتْ طرفَها بعدَ صمتٍ قصيرٍ وقالتْ:
"أعلمُ أنَّ عليّ التجلّدَ أمامَ المشاهدِ الفظيعةِ، لكنْ... هل صادفتَ مثلَ هذا مِن قبلِ؟ أعني، هل يكونُ الأمرُ دائمًا بهذا الهولِ؟"

تردّدَ قليلاً، وقدْ بدا عليهِ أنَّهُ يزنُ كلماتِهِ بعنايةٍ. كانَ يدركُ أنَّ الحقيقةَ قد تثقلُ على قلبِها، لكنّها نظرتْ إليهِ بعينينِ تحملانِ إصرارًا لا يمكنُ التغاضي عنْهُ. فأجابَ، بنبرةٍ جمعتْ بينَ الصدقِ والحذرِ:

"نعم، شهدتُ مواقفَ أشدَّ وطأةً ممّا عاينتِهِ اليومَ. غيرَ أنَّ الفرقَ يكمنُ في كيفيةِ مواجهتِها. المأساةُ، مهما ثقلتْ، تصيرُ جزءًا مِن مسيرتِكَ. الأهمُّ أنْ تعرفي متى تتراجعينَ لتستعيدي قوتَكِ."

لمعتْ عيناها بما يُشبهُ القلقَ، غيرَ أنَّ صوتَها جاءَ ثابتًا، يحملُ عزيمةً خفيّةً:
"لنْ أدعَ ذلكَ يثنيني. أعلمُ أنَّ الأمرَ عسيرٌ، لكنني أريدُ أن أصنعَ فرقًا حقيقيًّا، مهما كانَ الثمنُ."

نظرَ إليها مليًّا، وكأنما يستكشفُ أعماقَ عزيمتِها. شعرَ بإعجابٍ صامتٍ تجاهَ شجاعتِها، لكنّهُ أبقى رسميّتَهُ وهو يقولُ، مشيرًا إلى المبنى أمامَهما:
"قبلَ أن تدخلي، أريدُ أنْ أتأكّدَ. هلْ تشعرينَ بالأمانِ هنا؟ إنْ شعرتِ بأيِّ قلقٍ، يمكنُنا أنْ نرتّبَ حراسةً إضافيّةً."

حراس المعرفة | Guards of knowledge حيث تعيش القصص. اكتشف الآن