جلس الجميع بينما وقف هو يرمقهم وكأنه يرمق مجرمين في قفص الإتهام، وحدها غرام من كانت أكثرهم توترًا، اعتادت نمط حياتها الجديد بدون علي وصادق وبدون الماضي بأكمله وبعودة علي قد تنقلب الموازين مجددًا! نظر علي إلى صالح الذي كان يدخن سيجارته بلا مبالاة، التقت عيناهما فطالعه علي بلوم كبير لذلك ابتسم صالح ثم قال :
-انا مليش دعوة! قالتلي مقولكش عشان لو قولتلك كانت هتسيب البيت وتمشي، تمشي تروح فين يعني؟!
وحينها نهضت مهرة وهي تشعر ببعض التوتر كذلك من نظرات علي لكنها تحلت الشجاعة الزائفة وهي تقول ببعض الحدة المصطنعة :
-جرا ايه ياسي علي احنا عملنا ايه لكل ده!
-مهرة!!صوته الهادر جعلها تجلس مكانها مجددًا ثم اخفضت وجهها وقالت في رقتها المعهودة :
-أوامرك ياسيد الرجالة
كتمت عائشة ضحكاتها بصعوبة وهي تنظر إلى مهرة بينما ظل قلب غرام يتواثب في هلع لذلك قررت إنهاء ذلك الأمر، أبدًا لن تُذل مجددًا، نهضت غرام فإلتقت عيناهما فقالت في هدوء :
-انا آسفة، انا عارفه اني مكانش المفروض اكون هنا بس انا همشي واوعدك انك مش هتشوفني تاني
عقد علي حاجبيه بتعجب بينما شهقت عائشة بخفة وهي تمسك بكف غرام قائلة :
-تمشي تروحي فين ياغرام بس!
وحينها نهضت مهرة مجددًا ثم وضعت يدها على كتف غرام وقالت بحدة :
-بقولك ايه ياسي علي انا اه بحبك بس معلش يعني الستات لبعضها، غرام مش هتمشي من هنا، بيتي بيتها واحنا أهلها!
نظر علي إليها وقد ارتفع حاجبيه في دهشة مما يسمع وحينها قال في هدوء :
-هو مين قال نيابة عني اني هخليها تمشي؟
اتسعت بسمات الجميع عدى صالح الذي كان يعرف قرار صديقه من قبل، نظرة واحدة إلى عينيّ علي كانت تمكنه من فهم كل ما يدور بداخل رأسه! تابع علي حديثه قائلًا :
-غرام هتفضل طبعا، بعيدًا عن كل حاجة اولًا انتي أم ابني ثانيًا انتي ليكي حق عندي
-حق؟! حق ايه؟!رددتها غرام بعدم فهم فإبتسم علي ثم قال :
-حقك من ميراث الحاج رياض الله يرحمه
ابتسمت غرام للمرة الأولى بإرتياح وقد التقت عيناهما، ما أشبه اليوم بالأمس! تلك الندبة في عينيه كانت ومازالت تشعرها بالألفة، بأنه علي مهما حدث، بأنه ذاك البطل الخارق الذي انقذها يومًا، ذلك البطل الخارق الذي يظهر دائمًا لينقذها مهما كانت الصعاب، لمحت بعينيه حنينًا إليها، وكأنه ظل مسافرًا لأعوام ولم يعد إلا الآن، وكأنه كان تائهًا وللتو اهتدي! ابتسمت غرام وهي تدرك انها على وشك الوقوع في حبه مرتين، احبته عندما كانت لاتزال صبية تحيا في حياتها الوردية، واحبته الآن كإمرأة ناضجة ما عاد في عالمها سوى الأسود وعلي كان اللون الأبيض المشع، فما يضرها لو اندمجت برفقته مجددًا والحب كل الحب لرمادية علاقتهما!
* * *
"بعد سبعة عشر عامًا"
كانت الشمس متوهجة هذا الصباح وكأنها فقط أشرقت لتتأمل بهاء حُسنها الأخاذ، سارت في ذلك الحي الصغير الذي كبرت وترعرعت به وهي متشبثة بدفاترها تعانقهم أثناء سيرها مبتسمة بعدما افترقت عن صديقاتها، وأثناء سيرها كانت تستمع إلى بعض التحيات من جاراتها وحتى بعض عبارات الغزل فترد مبتسمة وقد احمرت وجنتاها خجلًا، حتى وصلت أخيراً حيث البناية التي تسكنها ولكن قبل أن تقترب أكثر اهتزت ثقتها في حالها على الرغم من أن الجميع قد أكدوا لها مدى حسنها ذلك الصباح إلا انها توقفت واخرجت مرآة صغيرة من حقيبتها، تأملت حالها قبل أن تتابع سيرها، لم تقبل على المبنى فورًا بل اتجهت إلى "ورشة" عمل والدها حيث اليافطة الكبيرة التي تحمل اسم جدها وشقيقها أيضًا، كانت تعلم أنها لن تجد والدها أو صالح، وبلال في عمله بكل تأكيد وفارس بلا شك منشغلًا بعروسِه، لكنها حتمًا ستلقاه! أقبلت حياة على الداخل وللوهلة الأولى ظنت المكان خاويًا إلا أنها حين امعنت النظر حول السيارة المتواجدة بالداخل أدركت أنه يعمل عليها الآن فقد كان مختفيًا اسفلها لذلك تجددت بسمتها وهي تقول بعدما انحنت قليلًا عسى أن يراها على الفور :