***
بَدَا الحُلْمُ أَكْثَرَ وَاقِعِيَّةً مِنَ الحَقِيقَةِ، وَأَشَدَّ دِفْئًا مِنْ أَيِّ ذِكْرَى. كُنْتُ هُنَاكَ أَجْلِسُ مُقَابِلًا لَهَا عَلَى طَاوِلَةٍ خَشَبِيَّةٍ مُسْتَدِيرَةٍ فِي مَكْتَبَةٍ وَاسِعَةٍ تُشْبِهُ تِلْكَ الْقُصُورَ الْقَدِيمَةَ، بِأَرْفُفِهَا الْمُمْتَدَّةِ مِنَ الأَرْضِ إِلَى السَّقْفِ، وَالتِي تَكْتَظُّ بِالْكُتُبِ القَدِيمَةِ وَالمَجَلَّدَاتِ الضَّخْمَةِ الَّتِي تَحْتَفِظُ بِرَائِحَةِ الوَرَقِ القَدِيمِ وَالحِبْرِ المُعَتَّقِ.كَانَتْ رَائِحَةٌ مُمَيِّزَةٌ تَتَسَلَّلُ إِلَى أَعْمَاقِ الرُّوحِ، تَعْبَقُ فِي الجَوِّ بِنَكْهَةِ الأَزْمِنَةِ الغَابِرَةِ، كَأَنَّ كُلَّ كِتَابٍ فِي هَذِهِ المَكْتَبَةِ كَانَ يَحْمِلُ أَسْرَارًا وَأَحْلَامًا مُنْذُ مِئَاتِ السِّنِينَ.
المَكَانُ كَانَ مُضَاءً بِضَوْءٍ نَاعِمٍ يَخْتَرِقُ النَّوَافِذَ الكَبِيرَةَ المُقَوَّسَةَ الَّتِي تُطِلُّ عَلَى حَدَائِقَ مُتَرَامِيَةٍ، تَتَلَأْلَأُ خَلْفَهَا سَمَاءٌ غَائِمَةٌ. أَشِعَّةُ الشَّمْسِ الخَفِيفَةُ تَتَسَرَّبُ مِنْ بَيْنِ السُّحُبِ، كَأَنَّهَا أَصَابِعُ ضَوْءٍ حَنُونَةٌ تُمْتَدُّ لِتُدَاعِبَ كُلَّ رُكْنٍ فِي المَكْتَبَةِ، تُعَانِقُ المَكَانَ بِهُدُوءٍ يُشْبِهُ الهَمْسَ.
وَفِي الجِهَةِ الأُخْرَى، كَانَتِ النَّارُ تَشْتَعِلُ فِي المَوْقِدِ بِهُدُوءٍ، تُضْفِي عَلَى المَكَانِ لَمْسَةً دَافِئَةً اشتَقْتُ لِلشُّعُورِ بِهَا مُنْذُ وَقْتٍ طَوِيلٍ. طَقْطَقَاتُ الخَشَبِ المُحْتَرِقِ تَنْسَجِمُ مَعَ صَمْتِ الكُتُبِ، كَأَنَّهَا مُوسِيقَى خَافِتَةٌ تُعَزَفُ عَلَى أَوْتَارِ الزَّمَنِ.
وَكَانَتْ هِيَ هُنَاكَ، تَجْلِسُ أَمَامِي، تَرْتَدِي فُسْتَانًا مِنَ الحَرِيرِ الأَخْضَرِ الدَّاكِنِ، يُنَاسِبُ لَوْنَ عَيْنَيْهَا الخَضْرَاوَتَيْنِ العَمِيقَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا تَلْمَعَانِ بِتَرْكِيزِهَا عَلَى الكِتَابِ المَفْتُوحِ أَمَامَهَا.
كَانَتْ هِيَ جَالِسَةً أَمَامِي، تَرْتَدِي فُسْتَانًا مِنَ الحَرِيرِ الأَخْضَرِ الدَّاكِنِ، لَوْنُهُ يُشْبِهُ لَوْنَ عَيْنَيْهَا الخَضْرَاوَيْنِ العَمِيقَتَيْنِ الَّتَيْنِ كَانَتَا تَشْعَانِ بِتَرْكِيزٍ غَيْرِ مَسْبُوقٍ عَلَى الكِتَابِ الَّذِي فَتَحَتْهُ أَمَامَهَا........
الفُسْتَانُ كَانَ بَسِيطًا فِي تَصْمِيمِهِ، بِلَا زَخْرَفَةٍ مُفْرِطَةٍ أَوْ تَطْرِيزٍ، وَلَكِنَّ تِلْكَ البَسَاطَةَ كَانَتْ تَزِيدُ مِنْ أَنَاقَتِهَا، تَبْرُزُ جَمَالَهَا الطَّبِيعِيَّ بِطَرِيقَةٍ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَتَجَاهَلَهَا. أَكْمَامُ طَّوِيلَةُ تَنْسَابُ بِلُطْفٍ عَلَى ذِرَاعَيْهَا الرَّقِيقَتَيْنِ، وَيَاقَةٌ مُسْتَدِيرَةٌ تُظْهِرُ عُنُقَهَا النَّحِيلَ بِوُضُوحٍ..........
YOU ARE READING
Lady De Jorgia
Historical Fictionشَعر بني كشلالٍ من الشوكولاته...عُيون خضراءٌ لامعةٌ... رمزُ الجمالِ النابع من الطَبيعة.... فَتاة عاشَت تحت كنفِ وَالدهَا المُحب .... ذكِية بمَا يكفِي لتَعرف أنهاَ مُميزة أو لنقُل مختلفَة.... مبادئٌ ثابتَة فِي زَمن كَانت المبادئُ فِيه مجَرد كلامٍ...