الفصل 20 : رابطة هشة

366 17 43
                                    

الدَّمُ أَثْخَنُ مِنَ المِيَاهِ......

حينما تتلقى طَعْنَةً في مكانٍ لَطالَما حَسِبْتَهُ مَأْمَنَكَ، يُصْبِحُ الأَلَمُ أَعْظَمَ مِنَ الجُرْحِ نَفْسِهِ. لَيْسَ لِأَنَّ الهَجْمَةَ غَيْرُ مُتَوَقَّعَةٍ فَقَط، وَلَكِنْ لِأَنَّ اليَدَ الَّتِي رَفَعَتِ السِّكِّينَ هِيَ يَدٌ مَأْلُوفَةٌ، يَدٌ لَطالَما ظَنَنْتَ أَنَّهَا خُلِقَتْ لِتَحْمِيكَ، لا لِتَطْعَنَكَ.....

تِلْكَ اللَّحْظَةُ الَّتِي تَنْقَلِبُ فِيهَا المَوَازِينُ، حِينَ يُصْبِحُ الأَقْرَبُونَ هُمُ الأَبْعَدَ شُعُورًا، تَفْقِدُ الكَلِمَاتُ مَعْنَاهَا، وَيَتَحَوَّلُ السُّؤَالُ إِلَى صَمْتٍ عَمِيقٍ يَغْمُرُ الرُّوحَ: كَيْفَ يَتَحَوَّلُ السَّنَدُ إِلَى عِبْءٍ، وَالحَامِي إِلَى مُؤْذٍ؟....

فِي عَالَمِنَا المَلِيءِ بِالتَّنَاقُضَاتِ، "الدَّمُ أَثْخَنُ مِنَ المِيَاهِ" لَيْسَتْ مُجَرَّدَ عِبَارَةٍ تُرَدَّدُ، بَلْ هِيَ ثِقْلٌ نُحَمِّلُهُ لِأَنْفُسِنَا، طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. إِنَّهَا الحَقِيقَةُ الَّتِي تَجْعَلُ الخِذْلَانَ العَائِلِيَّ أَشَدَّ وَقْعًا مِنْ أَيِّ خِذْلَانٍ آخَر......

فَحِينَ تُطْعَنُ مِنَ الخَلْفِ، يُمْكِنُكَ أَنْ تَبْتَعِدَ. وَلَكِنْ حِينَ تَكُونُ الطَّعْنَةُ مِنَ العَائِلَةِ، إِلَى أَيْنَ تَفِرُّ؟ وَكَيْفَ تَهْرُبُ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَمْلِكُونَ مَفَاتِيحَ مَاضِيكَ، وَيُشَكِّلُونَ جُذُورَ هُوِيَّتِكَ؟....

العَائِلَةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ صِلَةِ نَسَبٍ، بَلْ عَقْدٌ غَيْرُ مَكْتُوبٍ. هُوَ وَعْدٌ بِالحُبِّ وَالدَّعْمِ، وَلَكِنَّهُ وَعْدٌ هَشٌّ، هَشٌّ بِمَا يَكْفِي لِيُنْكَسِرَ تَحْتَ وَطْأَةِ الاخْتِلَافَاتِ وَالكَرَاهِيَةِ المُسْتَتِرَةِ. نَحْنُ نَعِيشُ هَذَا التَّنَاقُضَ يَوْمِيًّا، نَتَصَارَعُ مَعَ أَنْفُسِنَا وَنَسْأَلٔ

هَلِ الدَّمُ حَقًّا أَقْوَى مِنَ الجِرَاحِ؟ أَمْ أَنَّ هَذِهِ العِبَارَةَ مُجَرَّدُ وَهْمٍ نَتَمَسَّكُ بِهِ لِأَنَّنَا نَخْشَى الوَحْدَةَ؟.....

اليَدُ الَّتِي تَرْفَعُ السِّكِّينَ، لَيْسَتْ مُجَرَّدَ يَدٍ. هِيَ رَمْزٌ لِكُلِّ لَحْظَةٍ آمَنْتَ فِيهَا بِالأَمَانِ وَخُذِلْتَ. هِيَ صَوْتُ ذِكْرَيَاتٍ تُعِيدُكَ إِلَى الطُّفُولَةِ، إِلَى ذَلِكَ الطِّفْلِ الَّذِي نَظَرَ إِلَى العَالَمِ بِعَيْنَيْنِ وَاسِعَتَيْنِ، مَلِيئَتَيْنِ بِالثِّقَةِ......

حِينَ كَانَ البَيْتُ هُوَ الحِصْنَ، وَ العَائِلَةُ هِيَ الدِّفْءَ الَّذِي لا يَزُولُ. وَلَكِنَّ الآنَ، يَبْدُو ذَلِكَ الدِّفْءُ خَادِعًا، يَتَسَلَّلُ لِيَتْرُكَكَ مَكْسُورًا فِي لَحْظَةٍ لَمْ تَتَوَقَّعْهَا......

وَرَغْمَ الأَلَمِ، نَعُودُ. نَعُودُ وَكَأَنَّنَا مَسْحُورُونَ. رُبَّمَا لِأَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَجْرِي فِي عُرُوقِنَا لَيْسَ مُجَرَّدَ سَائِلٍ، بَلْ هُوَ ذَاكِرَةٌ حَيَّةٌ. هُوَ كُلُّ مَا يَرْبِطُنَا بِتَارِيخِنَا، بِكُلِّ نَجَاحَاتِنَا وَانْكِسَارَاتِنَا. رُبَّمَا لِأَنَّ الإِنْسَانَ مُبَرْمَجٌ عَلَى البَحْثِ عَنِ الانْتِمَاءِ، حَتَّى فِي الأَمَاكِنِ الَّتِي تُهَشِّمُهُ.

Lady De Jorgia Where stories live. Discover now