اوركسترا تحول المشاعر .
همست قلوب الحضور بالترحيب، تلمستُ طريق الخروج نحو المنصة، بدأت أقترب، لم أكن أستطيع إنكار الدقات المتسارعة في صدري التي كانت تلح على الخروج ، تنادي بشجاعة كنت أجهلها ، كما لو كانت تطلب الخلاص من دائرة الخوف التي أحاطت بي. أناملي تتحسّس تجاعيد الخوف في جبهتي، وكم كنت أود أن أُشعر الآخرين أنني على أتم استعداد.
جلست في مقعدي، مستندةً إلى الحائط، تلك الحماية الصامتة التي طالما كنت أفتش عنها. الزوايا المظلمة من ذاكرتي استيقظت، وتذكرتُ كل لحظةٍ شعرتُ فيها بالعزلة.
إلى حيث لا أرى، لكنني أشعر، ركعتُ أمام الألواح السوداء والبيضاء، بدأتُ بأول المقطوعات، نغمةً قاسية نسجت تفاصيل الحزن بحُبٍ أمين ؛ ألحان حزينة صارت جزءًا من هويتي و قوتي ، نغمات تتسلل برفق إلى مسامع الحضور، كل نغمة كانت كحكاية تُروى بلغةٍ مفقودة. شعرتُ بأنفاسهم تتداخل بي، تتراقص في فضاءٍ مُحاط بالحنين والأسى. كل لمسة على مفاتيح البيانو كانت توصلني إلى تلك الأعماق المعتمة من نفسي، حيث كانت المشاعر تخوض معركةً مريرة بين الأمل واليأس.
أناملي تتنقل بين المفاتيح ترسم بورتريه للوجع، حيث كل نغمة تعبّر عن صرخةٍ مكتومة. المشاعر تتداخل كالألوان على لوحة فنية؛ الحزن يتجلى بالأزرق العميق، والأمل بلونٍ أخضر فاتح يميل نحو التفاؤل البعيد.
في أعماقي، كان صوت قلبي يُحدثني عن الحياة التي افتقدتها. شعرت بالدفء يتسلل إلى روحي كلما سرت في عالم الأنغام. كل نغمة تُحيي شوقًا للإنجاز، بينما الأخرى تدعوني للغوص في أحزان الوجود. كان ذلك التناقض مؤلمًا، لكنني كنت أُفضل أن أعيش في هذا الصراع على أن أكون عابرة بلا ذكرى.
وأنا أعزف، تخيلت أنني أستطيع رؤية الوجوه المجسدة أمامي. هناك من يُغلق عينيه، يستسلم لنغمة تُوقظ فيه شيئًا مضى، وآخر يُبتسم برغم المعاناة، كأنما يتمنى انتهاء كل هذا. كل زائر فيها يحمل جرحا خفيا خاصا .
بينما كنت أعزف، كنت أشعر بشعورٍ غريب، كأنني أستطيع سماعهم، وهم يتنهدون في صمت، تتسلل إليهم نغماتي الحزينة. تفاصيل تتلاشى، وأرواح معذبة تخرج من ظلالها لتتفاعل مع مرآتي الموسيقية. شعرت بالثقل في قلوبهم، وكأن كل نغمة تُعزف تفتح جرحًا في ذاكرتهم. كنت أستشعر كيف أن الألم يمكن أن يولد جمالاً.
أثناء مقطوعتي الأخيرة، تذكرت أن السيد إيفانور جالس في مكان ما في هذه القاعة. راودني شعورٌ آخر أقوى: الرغبة في تعويضهم، لمدهم ببصيص ضوءٍ وسط ظلمة الآلام. قررت أن أترك الألحان الحزينة، وأرتجل شيئًا جديدًا، شيئًا لم أعزفه يوماً، نغمات السعادة .
انتقلت إلى ألحان مفعمة بالحياة نابضة بالأمل. خفة الأصابع وهي تتراقص على المفاتيح، جعلتني أجسد الفرح ذاته، شعرت كأنني أستطيع تهدئة كل قلب مكسور .
تلاحقت الألحان، فابتسمت شفتي دون أن أعي، وكأنني أستمد السعادة من تلك الأنغام. شعرت بحركات الجسم البطيئة لجمهوري، تعكس تفاعلهم، بل أسمع بينهم همسات ترقب، شعرت بأنني أقترب من نقاط تحول في حياتهم، حيث أمكنني إحداث تأثير حقيقي بألحاني.
كنت على يقين بأن الموسيقى قادرة على تجاوز الكلمات، وأنها لغة عالمية تجمعنا جميعًا رغم اختلافاتنا.
عند انتهائي، عم صمت عميق ، تلاه تصفيق متحمس، لم أكن بحاجة للنظر لأعرف أنهم قد تأثروا. كنت أرى بقلبي.
بعد التصفيق، كانت الابتسامات تعكس تأثير اللحظة. بدأت الأحاديث تتدفق، وكأن الحواجز قد تلاشت. تبادل الحضور التجارب، وبرزت ذكريات جميلة تحركها النغمات التي سمعوها. شعرت بأنني لم أكن فقط عازفًا، بل وسيطًا ينشر الأمل في قلوبهم.
انتهت الحفلة، وعاد بي السيد إيفانور إلى منزلي بعد أن ودعني بلمسة دافئة على كتفي. لمسة كفيلة بأن تشعل في داخلي بركانًا من الفرح، خليطًا من الشغف والحماس،
دخلت إلى المنزل، وتركزت في عبق الذكريات الذي ما زال يطاردني. غلفني صمت الليل، لكنني اخترقت هذا السكون بخيالات أستعيد فيها تفاصيل ذاك الحفل الموسيقي. كنت أعيش كل نغمة ، كل مقام، كل لحن، ما ينصبُ في صدري شلالات من المشاعر الجياشة.
كلما سرحت بخيالي، كنت أعود إلى تلك الأمسية الساحرة. عشت تجربة لم تُشبه سواها. كأنني كنت داخل أحلام تتجسد أمامي، تحكي عن عالمٍ مفعم باللون والضوء، رغم أن عيني لم تشهد شيءً من ذلك.

أنت تقرأ
COLOURLESS
Short Story• مكتملة • هل فكرت يومًا ما الذي يعنيه أن تتجرأ على الغوص في الأعماق بلا بصر؟ تخيل كيف يكون التنفس في فضاءٍ خالٍ من الألوان. قصة جسدي الذي يتجول في عوالم لا يراها، بل يشعر بها. بأعينٍ مغمضة، لكن بروحٍ تتوهج بحكايات لا تحصى. من أعماق غير مرئية، أ...