فضي .

90 27 3
                                    

لمسة غريب .

بعد رحلة استمرت عاما من صمت وحدتي  ، تلاها عام من الانغماس في التفكير .  أشعلتُ شمعة الإرادة في قلبي، وقررت الخروج من قوقعة ظلامي. أردت الانتقال من عزلتي إلى احتواء المجتمع، والاندماج في نسيج واقعٍ تنقض عليه الألوان، بينما أعيش في ظلالها. لكنني كنت أحمل في صدري عبء العزلة، كوكب تائه في فضاءٍ موحش، يبحث عن مجرةٍ تأويه.

قلب المدينة ، قاعة التدريب .

تنقلتُ بخطواتٍ متأنية نحو البيانو. لمستُ المفاتيح الباردة، تطايرت مني حبيبات من الذكريات. كل مفتاح  يحمل حكاية، ود، أحياناً حزناً عميقاً. صارت يدي تتنقل برفق بين الأوتار، باحثة عن نغمة تعكس ظلال خيباتي.

العزف بالنسبة لي ليس مجرد ألحان، بل وسيلة للتعبير عن كآبتي. تصاعدت أنفاسي مع كل نغمة،  أغوص في أغوار مشاعري. تُراقص أنغام البيانو ذلك الثقل، لتنسج تلك الأنغام خيوطاً من الأمل في عمق الحزن.  صوت البيانو يروي عطشي، مهما كان مرّاً. ومع كل نغمة، كنت أسترجع قطعاً من روحي الضائعة.

وجدني العزف في تلك اللحظات شريكاً وفياً ومرشداً. كنت أختار مقطوعاتٍ غارقة في الألم، تحمل همس الفراق، وتنقل صدى الحزن العميق. تداخلت الألحان بحسرة قلب، وانطلقت أشداؤها تبحث عن مخرج. أخذت أعزف بحماسٍ، رغم الدموع التي تسللت على وجنتي، تاركة وراءها أثر الألم.

مع انتهاء المقطوعة، ساد الصمت. شعرت براحة غامرة، وأعدت ترتيب أفكاري. لا يزال الحزن موجوداً، لكنه الآن يتناغم مع الأمل. بدأت أنظر إلى الألم كدرسٍ يمنحني عمقاً وقوة. كان الاندماج مع الموسيقى يساعدني على التعبير عن مشاعري المعقدة.

في الأيام التي تلت، أصبحت الموسيقى توجهني نحو شمس جديدة. بدأت أشارك موسيقاي مع الآخرين. في كل عرض صغير ، كانت ألحاني تعكس تجاربي، وتخبر قصة الجميع.  أصبح الناس يتواصلون معي، يشاركون قصصهم وآلامهم. اكتشفت أن الموسيقى تجمعنا، وتحتوي على قوة لا تُقهر. كل واحد منا يحمل جرحاً، لكننا نستطيع الشفاء معاً.

لقد أخبرتني إحدى منظمات الفعاليات أنها أحبَّت عزفي،  و أنها ستسجلني لعرضٍ كبيرٍ يحتشد فيه أرقى الناس. أغمضتُ عيني، وتخيلت الأضواء المتلألئة، قزحية الألوان التي تغمرني، لم أكن بحاجة إلى عيون لأرى؛ بل أحتاج إلى النغمات لتضيء عتمتي الداخلية.

أحسست بوقع خطوات خافتة تخترق سكون قاعة العزف، ثم تلويحات شبحية تقترب مني تعلن عن وجود كائن .  نسيم خفيف، يكاد لا يُلحظ، ولكنني أدركته. حركة صغيرة، تلويح يد. شعرت بنسيم الرياح  ينزلق على بشرتي برفق، وكأنه يخبرني أن هناك من يشاهد عن كثب و يستمع عن قرب  ، يحاول لفت انتباهي،  لم يكن يعلم أنني أعزف في ظلامي الخاص، لذلك لم أستطع أن ألتقط رسالته بأفضل شكل. وبدلاً من أن أستدير، واصلت العزف بتركيز، أصرخ في وجه العالم لأخبره أنني هنا رغم كل شيء.

COLOURLESS حيث تعيش القصص. اكتشف الآن