أرجواني قاتم .

30 10 0
                                    

عتمة و غياب .

أستيقظت متمنّية لو كان الظلام صديقًا، لكنّه غدا عدوًّا يلتف حولي .  أشعة الشمس تتسلل من خلال الستائر، لكنني لم أكن أراها. لطالما كانت تلك الإشراقة تُشعرني بالدفء، لكن اليوم،  الصمت هو ما أسكنني. إذ أن عيني لم تعتد سوى على الظلام، ولكن فقدان والدَيَّ أعمق من هذا السواد.

انكمش جسدي على وسادتي التي كانت تعكس رائحة أمي، لكنّ تلك الرائحة الآن صارت عبئًّا يثقلني . بتثاقل، نهضت من سريري،  كل خطوة أخطوها على الأرض تصطدم بموانع الحزن، سرت بخطوات بطيئة، أستجلي تفاصيل بيتي.

صباح اليوم كان أكثر قسوة. اشتممت رائحة القهوة، التي غالبًا ما كانت تُعزف كأنشودة في مطبخنا. لكن هذا الصباح كان مختلفًا، خاليًا من تلك الأحاديث المتبادلة، من ابتسامات الأمل.

أستند على الحائط، أشعر بتجاعيد الملمس تحت أصابعي، كما لو حاول إخباري بأسرار الوداع. كل إنش في المنزل  يتذكرهم، ينتظر عودتهم، أصداء أصواتهم تتردد في الفراغ، تملؤه بذكريات لا تُنسى، تمزقني الخيبة بلا رحمة.  أشعر وكأنني أبحر في محيط من الهموم دون طوفٍ يحملني إلى بر الأمان، غارقة في عمق المياه، تجرني التيارات العاتية..

تساءلت كيف يمكن للعالم أن يستمر بدونهم. كانت مشاعري تتصارع بين الحزن على فراقهما والغضب  على كوني السبب في ذلك والحنين إليهما ، كل واحدة منهن تُنازع الأخرى على السيادة.

خطوت ببطء إلى المطبخ، خطوة تلو الأخرى، محاولة استحضار تلك اللحظات السابقة حيث كان والدِي يُعدّ القهوة، بينما والدتي تضحك وتنتقده بتعليقات لطيفة أثناء إعدادها للفطور . الآن، كل شيء انقلب؛ حاولت استحضار تلك الصورة في ذاكرتي ، و لكن دون جدوى.

تلامست أصابعي مع الكراسي، تتلمس الأماكن التي كانا يجلسان عليها،  أبحث عن أنفاسهما المتبقية. تملّكني شعور بالضياع، أتذكر وجههما ، وكيف  يجلسان معًا يتبادلان النظرات الودودة، لا شيء كان كما كان، أفتقد لرائحة أمي الدافئة، وللمسات أبي الحانية . ومع كل ذكرى، أحس بثقل الغياب يزداد .

خرجت إلى الحديقة،  بخطوات تتأرجح بين أمل وإحباط.  الهواء يلامس بشرتي، ولكنه  يحمل معه غبار الذكريات، كما لو أنه يُعيد لي صوت والدتي، يناديني إلى الزهور التي اعتادت أن تُرسم حولنا. لمستها بيدي، وشعرت برائحة الياسمين تعبق في أنفاسي،  كمحاولة يائسة لتعزيتي.

شمس الخريف بدأت تغرب، ولون السماء يتغير إلى درجات دافئة  ، كذكرى عناقها الأخير.

جلست على السرير، أناملي على حافته، تشعر بخشونة الخشب، تذكرني بتلك الليالي الشتوية حيث كنا نتقاسم الحكايات والأحلام المتلاشية. فأمدّ يدي نحو الأشياء من حولي، أتلمس كل تفصيل.  لا أدري ما يجلب لي العزاء؛ ذكرى قبلة على الجبين أم دفيء يديهما في ليالي الشتاء .

أسندت رأسي إلى الجدار، و تذكرت كيف كانت أصواتهم تعزف لي الحياة. كثيرة هي الأحاديث التي كانت تُدغدغ روحي، لكن صدى ذكرياتهما لا يزال يتردد في أذني، وكأنهما يجلسان بجواري،  أستسلم أحيانًا للرغبة في البكاء، ولكنني أكتشف أن الدموع لا تُعيد ما فقدته.

أُحدّق في الفراغ، تحاصرني الجدران بصمتها الثقيل، وكأنها تشارك العزاء بطريقة غير مفهومة. أشعر بتقلص صدري، في كل مرة استرجع فيها ضحكة والدي.

كونِي عمياء جَعلني أفتقد  رُؤية الألوان بما في ذَلك الأسوَد ، و لكن خَسارة والدَاي جعلتنِي أخيرًا أغرق في بَحر لا مُتناه من السّوادِ ، لم أستطع تقبل وفاتهما،  لذلك في كل مرة أحاول التّشبث بِشيء يُنجينِي يكون خدعَة تجرّني نحو الظّلام أكثَر .

اليوم، لا شيء يُعزيني. صوت الفراغ، ذلك الصمت القاتل الذي يحيط بي، كان أكثر إيلامًا من أي جرح. لا أعلم لماذا بدا لي الزمان كئيبًا، وإذا ما جاء أحد لزيارتي، كانت قفزاته الصوتية تتحول إلى هزائم مهزوزة.

COLOURLESS حيث تعيش القصص. اكتشف الآن