بني فاتح .

25 10 0
                                    

هزائم مؤقتة.

أمضي في هذا العالم المظلم، حيث اتخذت العتمة موعدًا للزيارة، محاولةً استيعاب فقداني لأحبائي. بالرغم من محاولتي للاندماج مع المجتمع  ،إلا أن الايام تمر  بثقل شديد ؛ تارةً تتناوب فيها الأزمنة وتتداخل الذكريات، وتارةً أخرى تنسحب كشعاع ضوء مُنطفئ. أشعر بفراغ مُميت، يكاد يُقتلني وأنا أعبر عتبات الذكرى، حيث لا مكان لأكتاف والدتي التي كانت تضمني إلى صدرها، ولا صوت أبي الذي كان ينقش الأمل في قلبي.

إيفانور، ضوءٌ مُشع في عالمي المعدم، يُرافقني بخطواته.  في كل مرة أستعد للخروج معه، يخبرني أنه يسعى ليدخل البهجة إلى نفسي، ليشغل فراغات آلام الفقد التي كانت تسكنني. لازالت كلماته تتتردد في ذهني :

" سأكون عيناك على العالم، سأكون دليلك و سأقودك بدلا عن عصاك ."

في كل مرة يربت فيها على كتفي، كنت أشعر كأنه يعيد تذكيري، ليس فقط بوجودي، بل بمعنى الحياة بعد الفقد.

مع مرور الوقت، أمسى صوت إيفانور لحنًا مألوفًا أجد فيه دثرً للثغرات التي خلفها الفقد ، بحكمته  يدفعني للاستمرار في السعي نحو أحلامي. قررت أن أكون صوتًا لمن لا صوت لهم في فوضى الحياة ؛ وبذلك بدأ حلم ورشة "إيف" الموسيقية للمكفوفين يتبلور .  أكد لي السيد إيفانور بحماسة شعرت بها، إنه سيساعدني في تنسيق جميع التفاصيل التي قد تبدو غامضة .

الرغبة في مساعدة غيري كانت تشعل في داخلي شعلةً لا تنطفئ. لأجسد لهم عالماً مفعماً بالألوان، رغم عدم قدرتي على رؤيته ، و لأُعيد الحياة إلى ما كاد يندثر في قلبي.

بدأنا بتقديم الدروس ثم إقامة حفلات موسيقية لتقديم مواهبنا ، حيث يجتمع الجميع في مكان واحد، يتشاركون التجارب والأحاسيس من خلال الموسيقى. كنت آمل أن يُظهر للجميع أن الإعاقة لا تعني نهاية الإبداع.

في تلك الورشة، جسّدنا تجاربنا المؤلمة، وسلّطنا الضوء على مشاعر الفقد والحنين. كل صوتٍ يُعزف، وكل نغمة تُعبر، كانت تُعيد للذكرى طابع الحياة. شعور الفخر بدأ يتسلل إلى أعماقي، حينما أحسست  أن العيون تلمع بالفرح، رغم فقدانها للرؤية، كانت تنقل تلك المشاعر بطريقة لا توصف.

تضاعف الإقبال على ورشة " ايف " . بدأت  تجذب انتباه الجميع. أصبح المكان مثار حديث بين الجيران، من يمرون بجوار المركز الموسيقي يتوقفون للاستماع إلى الألحان المنبعثة من الداخل.

أخذ الطلب على أعمال مشتركينا يتزايد، وكأن حديث الناس عنا يُمثل إيقاع زفّة لم أكن أعتقد أنها حقيقية. صاروا يتحدثون عن مشروعنا، يتبادلون الآراء . كلما سمعت صوت  تصفيق الجمهور،  أشعر وكأن حلمي أصبح واقعًا ملموسًا .

كنت أشعر بالفخر،  كلما زادت الطلبات على عروضنا و رغبة المكفوفين في التسجيل فيها ، زادت حماستي. كل عرض  يتحول إلى احتفال. و شعور الانتماء يزداد قوة.

أحيانًا،  أقف في الكواليس، أستشعر تفاعل الجمهور، وكان ذلك أعظم عرض على الإطلاق. ضحكات، دموع، وتصفيق يُثني على الإبداع. كنت أدرك أنني أشارك في شيء أكبر من نفسي، شيء يحرك الأرواح، يُعيد لها الأمل. وفي ختام كل عرض و درس ، أُحس أن رسالتي قد وصلت.

كنت أجلس مع إيفانور ، حيث يقرأ لي كل التعليقات و الرسائل التي تلقيناها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي . جعلنا هذا نشعر أننا بالفعل أحدثنا فرقًا.

إلى أن  جاء صوت الكلمات من أحدهم كأزيز نحل غاضب، زارني صوتٌ جارحٌ من بعيد، يكتب نقدًا لاذعًا عن أعمالي الموسيقية. لامست أعصابي المتوترة و شعر قلبي بتلك الطعنة الغادرة، وكأنني غُرست في عزلتي مجددًا، وأعادتني للأيام التي كنت فيها تائهة بين حنايا الظلام، أسيرة لعواطفي. بدأ الحزن يتجذر ببطء، يغذي شعورًا بالانكفاء والتراجع.

تجمدت أنفاسي للحظات، و جمدت معها  في داخلي كل المشاعر  . أسترجع اللمسات الدافئة للذكريات التي رافقتني، لكنها الآن كانت أشبه بذكريات أشباح؛ تعيد لي ما فقدته من ثقة. هل حقًا بإمكاني الاستمرار في هذا الطريق؟

أخذت تفكيري بعيدًا إلى الفترات التي شعرت فيها بالبهجة، حيث كانت الموسيقى صدى لروح أعيشها رغم غياب النظر. لكن تلك اللحظة القاسية أغرقتني في بحر من الشك، وأحسست برغبة قوية في الابتعاد عن تلك الألحان التي كانت تعانقني .

لم يدع إيفانور هذا يحدث لي ، فشاركني  سرد قصصه عن الفشل والهزائم. كأنما أزال عني عباءة الضياع. أكد لي أنني لست وحدي في معركة الحياة، وأن لكل فنان طريقه الخاص الذي يكتشفه من خلال آلامه وأفراحه. بينما كنت أستمع إليه، شعرت بدفء صغير ينبض في أعماقي، كأن جزءًا مني بدأ يُقاتل لرؤية النور رغم العتمة.

COLOURLESS حيث تعيش القصص. اكتشف الآن