توالت الايام...
وإيما اصبحت جسد بلا روح....
اهملت تغذية جسدها....
وهالات سوداء تغزو عينيها.....
كأنها جماد ملقى على السرير....
وتنظر من النافذة بصمت قاتل.....
لم تعد تقوى على الحراك....
جسمها يضعف مع تركها للطعام....
هي لا تريد العيش إلا بجانب هاري.....
وتوماس يعتصر قلبه لرؤيتها هكذا.....
فهي مع ضعفها لم يعد لصوته تأثيراً عليها.....
نظر لها خلسة من وراء الباب....
انها لم تعد إيما التي عرفها....
تلك التي تحب الحياة....
هو سبب يأسها....
هو من جعلها هكذا....
اراد قتل نفسه ولكن وجه إيما يظهر امامه.....
خيالها يمنعه عن الموت....
انه يعشقها ولكنه لا يحب رؤيتها هكذا....
ماذا سيفعل؟!!!
ان افكاره تقتل خلايا عقله ببطء شديد.....
لا يعلم كيف سيبهجها؟!!
لا يعلم كيف سيعيد البسمة لثغرها؟!!
طرقت فكرة باب عقله....
ولكنه رمى بها بعيداً.....
انسحب الى غرفته يأساً حزيناً.....
ولكن صرخت الخادمة اعادته الى غرفتة إيما ودخلها....
قالت الخادمة وهي تبكي: سسسيدي.... لقد اغمى عليها.... انها لا تستمع لي....
اصابت تلك الكلمة نبضاته....
حملها وانطلق بها المشفى....
وضعوها في الغرفة وفحصها الطبيب.....
انها تحتاج الى التغذية والرعاية...
دخل توماس إليها....
نظرت له.... انها بلا حياة....
انها نظرة موت...
كأن الموت سكن بداخلها....
جلس على مقربة منها....
امسك يدها ونطق بحزن: انا اعتذر على حبي لكِ....
لم أجلب لكِ سوى الاسى والدموع....
انتِ في ذلك اليوم اسرتي قلبي....
بأبتسامتك النقية والمسالمة....
في ذلك اليوم انتِ لم تعرفي الدموع سوى من عيناي....
اندثرت ذكرياته امامها وكأنها عرض حي....
قال بتفهم: لا تقلقي انني لا استيطع التحكم في قواي الان... فأرجو منك ان تشاهدي طفولتي لوقت لاخطافك..... قبل يديها.... وجلست هي ولم تكن تريد المشاهدة ولكنها مجبرة....إيما.....
فجاءة ظهرت فتاةٌ شابة... خصلات حمراء... واعين من السندس الاخضر....
يمسك بيدها طفل لا يتجاوز الرابعة من العمر....
يبدو انه يشبه توماس... لا انه توماس....
يقول ببراءة وابتسامة: امي... هل ستأخذينني للملاهي؟!
بادرته بأبتسامة ولكن تفوح منها رائحة الغموض الغريبة: اجل... عزيزي... ولكني اريد ان اقول لوالدك شيء.... قف هنا وسأعود إليك حتماً.....
وقف هو ببراءته النقية سينتظر عودة امه.....
نظرة الى ما يوجد فوق توماس....
لوحة كبيرة خشبية تراصت عليها الثلوج....
"دار الحياة للأيتام"....
هل يعقل؟!! انها تتخلى عنه؟!!
ولكن لماذا؟!! إلتففت إلى توماس....
ولكني لم اجده؟!!! هل رحل وتركني اشاهد؟!!
صراخ الطفل شدني الى اكمال المشاهدة....
يصرخ ويقول بغضب ودموعه تتكور بمقلته: لا...دعوني... امي ستعود.... لقد وعدتني.. لقد وعدتني وعد الخنصر.... انها ستعود..... أمي... أمي....
هز كياني.... وخف من تسارع نبضاتي... وتباطئت انفاسي.... تبلورت دمعة على صفة عيني....
وكأنها تطلب الاذن بالسقوط....
سمحت لها رموشي بالانزلاق شاقة طريقها في خدي...
كبر توماس في ذلك الميتم المتهالك....
لا يأكل كثيراً.... ويتعرض للضرب المبرح...
وعندما وصل للعاشرة من العمر تبنته عائلة غنية...
نقش على ثغري ابتسامة ان معاناته انتهت هنا....
ولكن تكسرت تلك الابتسامة ما ان وجهت صفعة طرحته ارضاً من قبل والده المتنبنى....
هو لم يخطأ؟!! هو لم يفعل شيء؟!!
انه فقط يفرغ غضبه به؟!!
وكأن توماس نقل من جحيم مصغر الى جحيم اكبر....
طرده من المنزل....
جلس على احدى الطرقات....
ودموعه قد روت رموشه....
ولكن جاءت أمرأة بخصلات بيضاء...
وعينان من الدماء.....
وضعت يدها على رأسه وابتسمت له ونطقت بحنان: لماذا يا عزيزي تبكي؟!
انتظروا لحظة؟!! أوليست هذه أمي؟!!!
انها بالفعل أمي!!!! ولكن ماذا تفعل هنا؟!!
لماذا هي في ذكرياته....
لم يجبها ولكن خرجت من وراء قدم أمي...
فتاة صغيرة.... بيضاء كالثلج...وخصلات كالليل... وعينان من الدماء... وتتجاوز الرابعة من العمر...
انها انا!!!!! مااااااذا؟!! متى حدث ذلك ؟!!!
اردت ان اعود بالذاكرة الى الوراء ولكن لا فائدة...
إذا هكذا قابلني... أكملت المشاهدة...
مددت يدي إليه واعطيته بعض الحلوى وحفرت ابتسامة فاتنة على ثغري.....
مقلته لم تتحرك أنشاً واحداً من النظر إلي...
نادى والدي لامي....
قالت امي بلطف: لا تبقى هنا يا صغيري... ستصاب بالبرد....
امسكت يدي وذهبنا.....
امطرت السماء عليه....
لم يرتجف او يختبئ....
فقط ينظر الى تلك الحلوى.....
انتشل نفسه وعاد سعيداً الى المنزل.....
دخل البيت لتصطدم مقلته بمشاجرة والداها المتبنيان....
نظرة انسكار...
محيت تلك الابتسامة...
وهم بالصعود الى غرفته.....
جلس ومازال ينظر الى تلك الحلوى...
ولكن دخول الخادم لوكاس بقوة جعلها تسقط من يديه....
قال الخادم بخوف : ايها السيد توماس.. اريد ان تأتي الى غرفة الخدم فوالداك اليوم شجارهما سيطول.....
لم يتكلم... فقط إلتقط الحلوى ورحل بهدوء مع الخادم....
وفي طريقهم الى غرفة الخدم صرخت يتتبعها صرخات هزت القصر بأكمله...
رائحة حريق و دخان...
وكأن أحداً يحترق....
ركض توماس الى غرفة والديه....
ليجد ان والده المتبناه يمسك بعود الثقاب ووالدته المتبناه جثة هامدة محترقة ومقيدة....
ماذا؟!!! هل قتلها؟!! كيف تجرأ؟!!
أقلبه لا يوجد به رحمة ام انه مصنوع من الفولاذ؟!!
رمق الوالد توماس نظرة غامضة...
ماذا ؟!! ماذاااا يريد منه؟!!
اصبحت اصرخ في وجهه توماس: اهرب... لماذا تقف هنا؟!! لا سيقتلك....
ولكن توماس نظره موجه الى تلك الجثة التي لم يعد لها ملامح....
والخادم مازال في صدمته.....
قلت بصراخ: ايها الاحمق... انقذه... لا تدعه يمسك به....
استعاد الخادم وعيه وكأنه استمع الى كلماتي....
اغلق الباب وامسك بتوماس وهرول يصرخ: اخرجوا من المنزل.... هياااااا.....
وهو ينزل من أعلى الدرجات....
خرج الوالد وكأنه فقد عقله.....
تعثر بخطواته ووقع من اعلى الدرجات......
وسقطت منه عود الثقاب......
وبدأت النيران بإلتهام كل شيء....
الخدم استطاعوا النجاة....
ورث توماس كل اموالهم بأعتباره الوريث الوحيد....
ولكن لانه قاصر وضعوا جميع الاموال في البنك...
وبدؤا بأعداد توماس لأستلام الشركات.....
يا إلهي؟!! إذا هكذا اصبح ثرياً؟!!....الراوية.....
إيما تشاهد ذكريات توماس بكل حواسها...
تألمت مع تألمه... فرحت مع فرحه....
وبكت مع بكاءه.... شعرت بشعور غريب تجاهه!!!
هل هو الحب؟!! ولكنها واقعة في الحب مع هاري؟!!
هل هي شفقة؟!! هي للان لا تدري لماذا استوطنت تلك المشاعر الغريبة قلبها!!!!
لا تعلم لماذا تشاهد ذكرياته؟!!!
هو لم يجبرها!! بل هي شاهدته بأرادتها.....
وهي في اندماج مع ذكرياته.....
بعد بلوغه السادسة عشر وتلك الحلوى لا تفارقه رغم تلفها....
هو سيبحث عنها... هو يريد ان يرى تلك الابتسامة مجدداً.....
لقد أحبها..... وجدها أخيراً ولكنه لم يمتلك الشجاعة للاقتراب منها....
ماذا سيفعل إن لم تتذكره!!!
وهل هو ضمن ذكرياتها؟!!
تلك أسئلة عاشق ميتم.....
تطرق افكاره كل ثانية.....
يظهر وجهها امامه كل دقيقة....
ماذا سيفعل؟!!
راقبها كل يوم...
أفعالها... سلوكها.... ابتسامتها....
ولكن في الثامنة من العمر عند سن الرشد......
ظهرت اخت امه الحقيقة.....
لم يقابلها بالفرح والعناق....
فهو يظن ان والدته تخلت عنه.....
تركته عند دار الايتام ورحلت....
لقد خذلته رغم انها الوحيدة المتبقية له.....
ولكن عندما علم الحقيقة.....
جرح قلبه.....
لقد كسر ثقة نبضاته بأمه.....
لقد ظلمها.....
انها لم تتركه.... بل هي عادت فقط للانتقام من قاتل والده.....
انها علمت ان نهايتها لذلك وضعته امام دار الايتام....
ذرف دموعاً.... وصرخ لدرجة اختفاء صوته.....
اصبح فكره يسيطر على الانتقام.....
لقد غسل دماغه من قبل الحقد والظلام.....
فهو لا يعلم حقيقة والده او لماذا قتل؟!!