٢

284 19 3
                                    



٢

شعرت بالراحة لأنني لم أعرض عليها المساعدة، فقد كانت تعرف ما تفعل، وكأنها قد عملت في مقهى من قبل. لقد مرت سنين كثيرة بعد تخرجنا من الثانوية، لا بد أنها حصلت على الكثير من الخبرات التي لا أعلم عنها خلال هذا الوقت. شعور الرغبة بالعودة إلى البيت لا يفارقني، وكأنني طفلٌ في أول يومٍ له في المدرسة. عكفتُ حاجباي واستدرتُ موجهاً ظهري نحوها؛ لم أرد منها أن تراني بهذه الحالة السخيفة. لم يسبق لي أصلاً وأن كنت في حالة مشابهة. مرتبك، قلق، ولا أعلم ماذا أفعل، وأشعر بأني قد نسيت كل شيء! ولم أعرف حتى كيف استخدم آلة القهوة التي استخدمها كل يوم! كان علي أن أفتحها وأجهزها قبل أن نفتح المحل، ماذا كان علي أن أفعل مرة أخرى؟ لا جدوى، كل سلاسل الأفكار التي أحاول إيصالها وإكمالها تقطعت. شعرت بالغرابة لأني أبقيت يدي مرفوعة ابحث عن الأزرار، وأنزلتها بسرعة. نظرتُ إلى ميكا، التي كانت في الجوار، وبعد أن اخفيت كل القلق في وجهي بإبتسامة مرتجفة قلت، "سأذهب إلى الحمام هل لك أن تجهزي الآلة؟" وذهبت بسرعة دون أن انتظر منها رداً.

* * *

انتهت ساعات العمل بطريقة ما، فقد نسيت كل شيء عنها بالفعل، وبدت وكأنها حلم.. وكأنها ذكرياتٌ غير حقيقية تطفوا في المخيلة. عندما أحاول تذكر وجوه الزبائن، أجد وجوههم مموهه وأجسادهم ترتجف. ونسيت من أتى اليوم من زبائننا المعتادين، لابد وأنهم قد لاحظوا هذا، لأنني دائماً ما أقابلهم بإبتسامة وأسألهم عن حالهم. نسيت أيضاً.. عدد المرات التي وقع فيها نظري على إيما بالخطأ، أكانت واقفة أم جالسة، أكانت تنظر يميناً أو يساراً؛ نسيت كل شيء تماماً. الشيء الوحيد الذي أتذكره بوضوح هو ميكا عندما كانت تسألني ما إذا كنت بخير.

كنت في الغرفة الخلفية أخلع مئزر العمل. لحسن الحظ أن إيما قد غيرت قبلي وخرجتْ بالفعل. أخذتُ حقيبتي وتوجهت إلى الخارج. عندما خرجتُ رأيت إيما تمشي من بعيد في الجهة المعاكسة لمنزلي. حتى من هذه المسافة، كان كتفاها العريضان وطولها واضحان. أتذكر عندما كنا لا نزال في الثانوية، بعض اصدقائي كانوا يسخرون منها ويقولون أنه لا وجود لشاب سيريد أن يخرج مع فتاة طويلة مثلها، وقال أحدهم ربما فتاة ستريد ذلك، وضحكوا. أعتقد بأنهم كانوا فقط غيورين منها، فقد كانت أعظم من أن يستطيعوا الوصول إليها.

لو لم يكن شعرها يغطي رقبتها، لتبين طولها أيضاً. كانت تربط شعرها دائماً في الثانوية وكانت رقبتها الطويلة ظاهرة. لسبب ما كنت أتخيل أن مصاص دماء سيكون سعيداً بغرس أسنانه فيها. هه، ماهذا النوع من السخافات التي أفكر فيها؟ يا لي من طفل أبله. مشيت في الجهة المعاكسة، وفكرة أن المسافة بيننا تزداد في كل خطوة نخطوها لم تفارقني حتى وصلت إلى المنزل.


قطع من مذكرتي

في وسط الحصة سقطت ممحاتي وتدحرجت بعيداً، بعيداً من أن أستطيع الوصول إليها؛ قريبة منها. لم أعلم ماذا علي أن أفعل، وقررت أن أخربش على ما أردت أن أمحيه وعندما تنتهي الحصة أستعيدها، وخطر لي أيضاً أن أشتري واحدة جديدة لاحقاً. امتدتْ يدٌ ووضعتْ الممحاة على طاولتي، وعندما تتبعتها اكتشفت صاحبها؛ كانت يد إيما الطويلة الرشيقة. "لقد أسقطتها" قالتْ بصوت خافت، ولم يكن خافتاً لأننا في وسط الحصة، بل كان صوتها هكذا. عندما أسمعها تتكلم مع صديقاتها لاحظت بأنها تهمس دائماً، لم أتخيل بأن صوتاً بهذه الخفة والنعومة يخرج منها. تصادمت أعيننا ومرت لحظة شعرت بها وكأنها ساعة. أتذكر كل التفاصيل المختزنة في عيونها المذهلة. كانت فاتحة اللون، زرقاء ورمادية مع أخضرٍ غامق حولها؛ أتذكر أيضاً بؤبؤ عيونها، الذي لم يسبق لي وأن رأيته بهذا الوضوح من قبل في عيون الناس. أتذكر الظلال التي تنزل من أنفها القائم، وتحيط عيونها العميقة. غرقت تماماً في ملامحها الحادة. بدت كغريبة، أجنبية، دخيلة، بين بقية الطلاب. الشيء الوحيد الذي كانت تشبهنا فيه هو لون بشرتها وصفائها ونضرتها.

"شكراً.." قلتُ وأنا أنظر بعيداً.

سمعتُ لاحقاً، من أحد الفتيات الاتي كن معها خلال المدرسة المتوسطة، أن جدتها روسية وتزوجت رجلاً يابانياً وكانت هذه بداية دمها. مع أنني أيضاً سمعت أن والدة إيما تزوجت يابانياً أيضاً، إلا أنني لم أصدق، لأنها تبدو أجنبية بشكل كامل، ولا علامة للعرق الياباني في مظهرها، سوى بشرتها، وربما لون شعرها، لأنه من الممكن أن لجدتها شعراً أسوداً.. ما الذي أفكر فيه؟ لماذا أنا مهووس هكذا؟!




الذهاب إلى روسياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن