نافذة أخرى ٣

104 15 1
                                    


نافذة أخرى ٣

ذلك الصوت كان واضحاً، وعلى عكس الأصوات الأخرى كنت أعرفه جيداً. قمت من مكاني بسرعة وكأن فيّ مساً، ومشيت باحثة عن مصدره بجنون. شعرت بأطرافي ترتعش حماساً وخوفاً. مع أن الناس كثيرون، إلا أنني كنت متيقنة بأنني سأميز صاحب الصوت فوراً في اللحظة التي ستقع عيني عليه، لأن وجهه سيكون هو الوحيد الغير مموه. فهو وجه قد حفظت ملامحه لزياراته المتكررة. 

سمعته مرة أخرى، وكان يميناً، مرة أخرى فكان يساراً. داهمني الشك بأنني أتخيل فقط، ولكن لماذا أتخيل الآن فقط؟ بدى أن بحثي أبدي، وازداد الإزدحام ومعه الأصوات. كان الناس يرقصون حول المكان، وأردت لو أصرخ بهم ليبتعدوا ويفسحوا لي الطريق. لم ألاحظ بأن المحل كان كبيراً لهذه الدرجة، أم ربما أنني أتخيل الجدران تبتعد مبعدة معها صاحب الصوت. سمعتُ الصوت يصرخ، وكان أقرب هذه المرة. الحماس اشتعل في داخلي، وارتعشت أصابعي أكثر. إنه قريب! شعرت بأنني ذئب يبحث عن فريسته المسكينة الغير موقنة باستهدافها. الشعور بالكبرياء تفجر في داخلي وتحمست لرؤية عيون ضحيتي ذليلة.. وبلا حيلة. أردت أن أضحك بجنونٍ مغاير لطبيعتي الهادئة؛ إلا أنني أكملت المشي بسكون بين الناس، وشكرت ازدحامهم، الذي كنت قد كرهته من قبل، لأنه وفر لي التمويه والتغطية.

لمحت شخصاً ما. شعر طويل مألوف، وملابس تشبه شخصيتها كثيراً. رجلٌ أمامها، بل رجلان؛ كان منظراً لا أستغربه في الحقيقة. لحسن الحظ لم تكن حادة مثلي، ولم يكن لديها أعيون خلف رأسها، لهذا لم أقلق حين مشيت نحوها. دون أن اقترب كثيراً، وبين الناس، حدقت بها لعدة لحظات لأتأكد ما إذا كانت صاحبة الصوت. نظرتْ إلى يمينها، وفوراً ميزتُ ذلك البروز في وسط أنفها. إنها هي، كلوديا، أو كما تسمي نفسها. كانت مشهورة جداً في السجن، لأنها لا تدع أحداً في حاله إلا وقد أزعجته وعكرت يومه. السجينات يحاولن تجنبها، وإذا ما فشلن نفذن أوامرها على أمل أن ترضى وتفرج عنهن. بالنسبة لي، كنت أريد أن أقضي أيامي بهدوء لسببين، أولهما أمل أن يخرجوني مبكرة لحسن سلوكي، والثاني طبيعتي الهادئة التي لا تحب المشاكل. لهذا لم أعبأ بكلوديا وإزعاجها، وكنت أتجاهلها كلياً ولا أنظر إليها حتى. لكن، شيء مزعج لم أتوقعه قد حدث، فأنا الأخرى أصبحت مشهورة لهذا السلوك "الشجاع" تجاهها، وأصبحت شخصية أسطورية يحتذى بنهجها.

* * *

بقيت أراقبها من بعيد حتى خرجت أخيراً من المحل. كان الوقت متأخراً، أم مبكراً؟، فهناك خيوط نور قد بدأت تتشكل في الأفق مخترقة الغيوم. منظرٌ كنت سأستمتع بمراقبته ليكتمل، ولكن بالي مشغول بشيء أفضل. لم أفكر بالقلق الذي لا بد أنه قد أصاب آن عندما نهضت من نومها ولم تجدني. بالمناسبة، لم يسبق لي وأن تأخرت في رحلاتي الليلية بين الحين والآخر، ولم يسبق لهم أن لاحظوا خروجي من الأساس. كنت أذهب بسرعة، وأرجع بعد أن ينتشر ويتناثر ما في داخلي في المحيط ويضيع مع الناس وصخبهم. إلا أن تلك الظلمة لا تنتظر حتى تعيد بناء نفسها والقطع التي فقدتها، واضطر لأخذ رحلة أخرى. 

الذهاب إلى روسياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن