٣
في اليوم التالي بقيت مستلقياً في فراشي اتنهد غير راغب بالذهاب إلى العمل.. لا أريد أن أراها. عضضت شفتي وعكفت حاجبيّ عندما تذكرت ردها بكل برود وتجاهل، "آسفة، لا أعرف من أنت." ضحكت في داخلي على سخافتي وغبائي. ما الذي كنت أتوقعه؟ وأين ذهب كل ما كنت أحاول أن أقنع نفسي به خلال تلك السنوات الفائتة؟ أذهبت تلك السنوات كلها بلا جدوى؟ لا أستطيع إضافة تلك الأوقات الضائعة إلى عمري من جديد، فلا عودة للماضي الذي استهلك أرواحنا وأوقاتنا الثمينة في أشياء سخيفة قد لا نكون بحاجة إلى فعلها لو لم نكن أغبياء وأطفال متخيلين، وأخترنا خياراتٍ حكيمة.
هززت رأسي وكأنني أحاول إسقاط كل تلك الأفكار منه، وأخذت حماماً وتجهزت للذهاب إلى العمل. عندما خرجت من شقتي وجدت الجارة التي كانت تخرج القمامة كل يوم في مثل هذا الوقت تحييني. كل شيء يبدو طبيعياً، الناس كعادتهم متبسمون ترحيباً باليوم الجديد، وقطة الجيران مستلقية على سورهم نائمة ككل يوم، السماء صافية كأي يوم من فصل الربيع، وخيوط الشمس تتسلل بين الأفق كالعادة، وكأن شيئاً لم يحدث. أجل، لم يحدث أي شيء، فما حدث قد حدث في حياتي أنا فقط، ولا شأن لأحدٍ به؛ مع أنها قد علمتني شيئاً مختلف.. علمتني بأن حزني يهم وبأنه ليس شأني وحدي.. إنه أيضاً شأنها هي.. ولكن أين هي؟
اشتقت للأيام التي كنت اخرج بها إلى عملي سعيداً، مع أن آخرها كان في الأمس فقط. لكنني شعرت بأنني على هذه الحال المكتئبة منذ سنين.. ربما هذا صحيح، وكنت أهرب فقط، ولكن الحقيقة هذه المرة داهمتني وتمسكت بي حتى لا أستطيع الهروب بعد الآن. إنني جبانٌ ولا أستطيع مواجهة الحقيقة، ولا أريد سوى إكمال هربي حتى لو كان أبدياً. اتسع العالم وصغرت، فازددت وحده. تنهدت محاولاً اخراج كل ذلك الهم من صدري.
عندما وصلت إلى المقهى كانت إيما هناك أيضاً. وضعت حقيبتي ولبست المئزر واتجهت فوراً للعمل متجاهلاً إيما، دون أن أحييها.. ولو كزميل عملٍ على الأقل.
* * *
لم تكن إيما تأخذ الطلبات من الزبائن أو إليهم، بل كانت تعمل في المطبخ مع المديرة بعيداً عن أنظارهم. شعرت بها وكأنها وحش نحاول إخفائه حتى لا يفزع الزبائن، ولم تعجبني تلك الفكرة أبداً وسببت لي إزعاجاً شديداً. لكن على الأقل كنت هادئاً في هذا اليوم، بعكس الأمس، واستطعت أن أراقب إيما وهي تعمل دون أن أفقد نفسي وأغرق بالتوتر. عيونها لم تعد تلمع وكأنها ميتة، وألوانها التي لطالما ما أبهرتني استحالت شاحبة. لم تكن تنظر إلى أي شيء، أو على الأقل إلى أي شيء من هذا العالم؛ وكأنها تنظر إلى شيء بعيد يتعدى مدى أبصارنا.. ماذا يكون يا ترى؟ كان يبدو أن جسدها يتحرك بدون أي هدف؛ وكأنه دمية خشبية دون إدراك وحواس تلعب بها الأصابع.
أنت تقرأ
الذهاب إلى روسيا
Short Storyتعلقت روحي البريئة بك بسهولة، وشغفت بشخصيتك العظيمة. لكن كيف كان لي أن أعلم، وأنا الجاهل البريء، أنك قد تكونين مزيفة؟ الشك داهمني واجتاحني بلا رحمة.