٤

172 18 0
                                    



٤

بينما كنت أحاول النوم، هاجمتني الأسئلة من كل الجهات طاردة الكرى من عيني. احتلتني واستنزفتني وتركتني أتألم طوال الليلة الإبدية. بينما كنت أتقلب، لمحت مذكرتي القديمة على طاولتي بجانب النافذة. تذكرت كيف اتخذتها لتدوين يومياتي عندما كنت في المتوسطة لإعتقادي بأنه سيكون من الرائع قراءتها لاحقاً عندما أكبر؛ إلا أنني كنت لا أوليها اهتماماً حقيقياً وأهجرها لأسابيع. ولكن عندما تخرجت وأصبحت في المدرسة الثانوية، أصبحت كتابتي فيها شبه يومية. لا عجب، فأنا قد قابلت أكثر البشر إثارة للإهتمام. 

نهضت من فراشي واتجهت نحو الطاولة وأمسكت بالمذكرة. كانت أطرافها تالفة من عدد المرات التي أدخلتها وأخرجتها من الحقائب؛ دائماً معي لا أستطيع مفارقتها. فتحتها للمرة الأولى.. أكانت آخر مرة قبل أربع أو خمس سنوات يا ترى؟ لم أكن بحاجة للقراءة لأعرف أن أغلب ما كتب فيها قد كان عن إيما. كل تلك اللحظات مخلدة هنا في هذه المذكرة كلعنة أبدية لا تكسر، لعنة ستبقى بين يدي إلى الأبد دون أن أستطيع رميها بعيداً.

* * *

إيما لم تكن هناك في الصباح عندما كنت في المقهى؛ مرت ساعة، ساعتان، ولم تأتِ. سألتنا المديرة إذا ما كانت قد أخبرتنا شيئاً في الأمس، أو تواصلت معنا في شأن عدم حضورها اليوم، ولكننا، بطبيعة الحال، لم نكن لنعرف شيئاً. بدى عليها القلق، ولم يكن قلقاً على غياب موظفٍ من العمل، بل قلق من نوعٍ آخر، وكأن في الموضوع شيء ما نجهله. فكرت قليلاً بالموضوع، وتذكرت حادثة الأمس؛ أربما أنها كانت متضايقة من رؤيتي لذلك الجرح البغيض على جبهتها؟ أي شخصٍ سوف يشعر بعدم الراحة بالتأكيد ولكننا نتحدث عن إيما، هي ليست أي شخص. حيرتي الشديدة في موضوعها بشكل عام جعلتني بارداً تجاه غيابها، فقد كان هنالك الكثير من الأشياء التي لا أعلم عنها؛ الكثير من الأشياء التي استغرقت سنيناً.. سنيناً كنت فيها أهيم بعيداً وضائعاً عنها.

* * *

في المساء سمعت جرس باب المقهى يفتح، ورفعت رأسي لتحية الزبائن، ولكنني توقفت لأتمعن في الشابتين اللتين دخلتا. أحدهما كانت ذات شعرٍ أسود طويل ربطته كذيل الحصان، وترتدي فستاناً أنثوياً لائقاً بجسدها النحيف. أما الأخرى فكان لها شعرٌ أسود قصير وترتدي بنطالاً، وحامل بشهورها الأخيرة على ما يبدو، وكم كان لا يليق بمظهرها، فلا أستطيع تخيل أطفالاً برفقتها. هذا كله لم يكن مهماً، فمظهرهما عادي جداً من الممكن لأي شخص أن يظهر به، وما جعلني أحدق بهما كانت ملامح وجهيهما. وجوه كتماثيل رومانية؛ كإيما. نفس العيون الحادة، والرموش الطويلة، والحواجب السوداء الكثيفة. تقدمتا نحوي، وسألتني الفتاة التي ترتدي الفستان، "المعذرة، أتعمل شابة بإسم إيما هنا؟" كان صوتها خافتاً وناعماً كصوت إيما. 

الذهاب إلى روسياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن