الفصل العاشر الذكرى الأخيرة

1.7K 34 2
                                    



تقف أمام المرآة وتنظر الى انعكاسها ، شعر أحمر كثيف و وجه ناصع البياض ، عينان ناعستان تُغطي أجفانها ظلال سوداء وتحف أهدابها ألوان قاتمة ، تنطبق الشفتان بحقد وكيد وابتسمت لانعكاسها في المرآة ، ربما لو كانت المرآة تعكس داخل المرء مثلما تعكس خارجه لظهرت صورتها شديدة القبح وكانت ابتسامتها تلك لا تُسمَّى حتى بابتسامة .

تبدو بتعابير وجهها الحاقِدة مثل الخيال ، نعم هي خيال امرأة كانت ، وكل ما تبقَّى منها دموع سوداء وحقد دفين يزداد مع الأيام والحقد مثل حُمض قوي حارق ، يتغلغل في الروح فيقتُلها قبل أن تموت .

ماتت روحها الطيبة و وُلِدت أُخرى ، وُلدت هي بحقدها وكيدها وضغائنها ، لتثأر لروحها الطيبة التي ماتت ، تكره حالتها المزرية وأعمالها الحقيرة و كونها مُجرد بائعة هوى ، ولكنَّها تستمد قُوَّتها من هذا الكُره ، تستمد قُوتها من مشاعرها الشيطانية .

التقطت جَوالها لتُرسل رسالتها الأخيرة له " اليُوم بكشف لك حقيقتها .. انتظرني "

ضحكت وهي تُفكر في سلطان المسكين ، لَم تجد أبلهاً غيره لتقوم خُطتها على أكتافِه ، كم هو مثير للشفقة ومسكين .
نظرت الى انعكاسها في المرآة مرَّة أخرى ، تعشق ملامحها وشكلها الذي يُوحي بالقوة ، قوتها التي جعلتها تتلاعب بهم جميعاً ، ابتسمت بخبث فاللعبة على وشك أن تبدأ .



*


تجلس في غرفتها وحيدة ، فبعد أن تزوجت ليلى أصبحت تُطيل الجلوس وحدها لتستذكر دروسها وتستعد لاختباراتها النهائية التي أوشكت على البدء ، يجب عليها أن تستعد جيداً فهذه الاختبارات هي التي ستحدد مصيرها ومستقبلها في الجامعة ، أغلقت الكتاب بعد أن انتهت منه وتشعر أنها مستعدة الآن فكل ما في هذا الكتاب فهِمته بل حفِظته عن ظهر قلب ، دائماً ما كانت تُلقب في المدرسة بـ " الدافورة " بسبب علاماتها الدراسية المرتفعة ومحبَّة مدرساتها لها .

تمددت على السرير وهي تنظر الى السرير المُجاور لها ، سرير ليلى الذي أصبح مُرتباً بغير العادة ، كم تشتاق لها ولجُنونها وأحاديثها ، ومشاجراتهم السخيفة التي لا تنتهي ، ابتسمت ابتسامة رضا ، فأخيراً تصالحت مع ذاتها واختفت تلك المشاعر التي تنتمي ليُوسف ، فـ يوسف الآن مُجرد زوج أختها الذي تعتبره كأخ لها لا أكثر ولا تُفكر فيه بأي طريقة أُخرى ، وتتمنى لـ ليلى السعادة معه .

جحظت عينيها الى الأعلى بشُرود وأصابع يدها تعبث في أحرف اسمها المُعلقة على قيادتها الذهبية في نحرها ، كم تعشق هذه القيادة فهي آخر ذكرى لها من والدتها ، اجتاحها فيض من مشاعر متوترة وغريبة ، فبعد شهر ونصف من الآن سيكون زواجها من سلطان ، لم يتبقى الا القليل لتتغير حياتها وتُصبح على ذمة رجُل ، قُطِع تيَّار أفكارها على صوت طرق على الباب ، استدارت برأسها الى الهنوف التي دخلت مسرعة وهي تلهث : هــالة !!!! مو على أسـاس انك بتروحين معي العرس ؟؟ ليه ما جهزتي ؟

أجابتها بملل ويدها لازالت مُتعلقة بقيادتها بشرود : غيَّرت رايي ما أبي أروح ... وبعدين نور تقول أنَّ المفروض ما أروح أعراس هالفترة وزواجي ما باقي عليه شي

اقتربت منها الهنوف بنفاذ صبر : ما عليك من كلام اختك المعقدة .. يلا قومي البسي خلصيني يعني يرضيك أروح بروحي ؟؟؟

هالة وهي تنظر اليها : كلمتني ليلى وقالت انها بتروح معك

كانت الهنوف تعبث في خزانة الملابس وأخرجت فُستاناً أحمر اللون والقته على السرير باستعجال : ليلى عندها جلسة تصوير وما بتقعد معي ...يلا هالة قومي واتركي عنك الكسل ..البسي هذا الفستان حلو عليك ..اخلصي بسرعة عشان اخوك بوصلنا هناك بعد ساعة .

خرجت من الغرفة وهي غارقة في هواجسها ، تمردت دمعة من عينها تبعتها دموع ، لم تتخيل يوماً انها ستصبح بهذه الحقارة وتوقع باخت زوجها الصغيرة ، ولكن لا حل آخر ، إما هالة أو هي ، تمنت أن لا يكون الضرر الذي سيلحق بهالة كبيراً ، تمنت ان تفشل خطة تلك المرأة الحقيرة التي تُهددها ، تمنت أن تنتزع روحها منها قبل أن تمس هالة بأي أذى .


*

بهو فندق واسع المساحة شاهق الارتفاع قد يكوون بارتفاع دورين أو أكثر وتتدلى من أعلاه ثُريَّات كريستالية ضخمة ، ارضيَّة مُبلطة بالرخام والجرانيت معا وجلسات راقية متعددة الأشكال مُوزعة في الأرجاء ، نافورة دائرية تحتل متوسط البهو أضافت طابعاً جماليَّاً فمزهريات خزفية تستقر على جوانبها وبتلات ورود حمراء متناثرة على ماءها ، و كل ذلك يدل على رُقي و فخامة هذا الفندق ، تكثُر القلوب النابضة داخله في هذا اليوم ، اذْ انَّها عطلة نهاية الأسبوع ويزداد أعداد الضيوف والنزلاء .

كـان يقف خلف طاولة الاستقبال يقوم بعمله الاعتيادي ، حيث يُمثل هو وجه الفندق ، يرحب بالنزلاء ويُجاوب على استفساراتهم ، يُؤكد حجوزات سابقة ويُدرج حجوزات جديدة ، و يُجامل قاصديه بابتسامة وكلمات مُرحبة لطيفة ، فطبيعة عمله تتطلب منه ان يُرخي أعصابه لأقصى حد ، يُجامل قدر ما يستطيع و يتحدث فوق طاقته ، تراجع خطوتين الى الوراء بعد أن أنهى حديثه مع امرأة أجنبية تشتكي وتسأل كثيراً ، ابتلع ريقه الذي جف فقد مضت عدَّة ساعات وهو يقف على قدميه ولسانه لا يتوقف عن كلام مُعظمه مكرر ، استدار ليُعطي طاولة الاستقبال ظهره واتجه لخزانة تقع خلفه وأخرج عُبوَّة ماء ليُرطب بها حلقه ، ارتشف منها رشفتين على عجل وهو يُخرج جوَّاله من جيب ثوبه ، ليرسل رسالة نصية الى زوجته ، ليُجاوب على مكالماتها المتتالية التي تجاهلها وهو يعرف مغزاها ، تحرَّك إبهامه أسفل شاشة الجوَّال وهو يكتب " ما أقدر أطلع من نصف الدوام و أجيك ..الفندق زحمة والشغل لفوق راسي ، تعالي مع أخوك وبعدين أنـا أرجعك " ، أعاده الى جيبه بعد أن أرسل تلك الرسالة الى ليلى ، أراد أن يرتشف رشفة أخرى من الماء ولكن صوت مرتفع خلفه استوقفه " خلصنا يا بو الشباب ... صار لي سـاعة واقف انتظر جنابك تعطيني وجه " ، التفت ليجد شاب ذو جبهة عريضة يقف متململاً خلف طاولة الاستقبال ، فبالرغم من أن زميليه يقفان على جانبيه ويقومان بذات عمله الا أنَه لا يكفي لسد فجوة تغيبه حتى للحظات فالفندق مزدحم ومكتظ ، غير أن هذا الشاب من الواضح أنَّه مُتعجل ولا صبر له ، جامله يوسف بابتسامة وعاد الى مكانه وهو يقول : اعذرني اذا اخرتك .. تفضل بـ ايش أقدر أساعدك ؟

تعلقت عيني يوسف بالسيجارة العالقة في زاوية فم ذلك الشاب ، لقد نفث دُخانها في وجهه بلا أيَّة مبالاة ، كـان شاب أبيض طويل ذو جبهة عريـضة أنيق المظهر ، ويتضح من اسلوبه وطريقة كلامه أنَّه وقح قليل احترام وغير مُبالي ، كح يوسف بحشرجة من أثر دُخان السيجارة ولو كـان في مكان آخر ووضعية أخرى لشتم هذا الشاب وأهانه على حركته الوقحة ولكن عمله يفرض عليه تجنب افتعال المشاكل و تحمل فظاظة بعض الضيوف ولو على نفسه ، قال وهو يحاول اخفاء اشمئزازه ومسك أعصابه حتى لا تنفلت عليه : فيـه قسم خاص للمدخنين .. ممنوع تدخن هنا يا الطـيب

ابتسم ذو الجبهة العريضة باستفزاز وأخرج السيجارة من فمه ورماها على الأرض ليدعسها بحذائه وقال بامتعاض : انـا حاجز غرفة عن طريق البوكنج ..والأخ اللي برا رافض أدخل سيارتي في المواقف .

قـال يوسف بعملية : اعطيني بُطاقة الأحوال حقك أو أي اثبات عشان أأكد لك على الحجز وما يـصير خاطرك الا طيب .

أخرج ذو الجبهة العريضة بُطاقته من جيبه و رمى بها أمام يوسف بفظاظة ، التقطها يوسف وبدأ بتصفح نظام الفندق في جهاز الحاسب الذي أمامه ، مرَّت لحظات وهو يتفقد النظام وذو الجبهة العريضة يطقطق بأصبعه على الطاولة بطريقة تنم عن الملل والتذمر ، قال يوسف بتأكيد وهو يُطابق الاسم الذي ظهر أمامه في الشاشة بالاسم المكتوب على البطاقة : ولـيد سامي الزاهر ، رفع رأسه و رمقه بنظرة مُتفحصة سريعة وأعاد اليه البطاقة ، أخرج بُطاقتين من درج أسفله وقال وهو يمدهم اليه : تفضل يا وليد الغرفة في الدور الخامس .. وأنا الحين بكلم السيكيورتي عشان يدخل سيارتك .. عندك عفش تحب نصعده لك الغرفة ؟

أخذ وليد البطاقتين منه ثم رمى مفتاح السيَّارة على الطاولة و قال باستعجال : لا ما عندي .. بس على فكرة خدماتكم صايرة مثل الزفت

التفت ومشى في طريقه ولم يترك مجالاً ليوسف ليُبرر أو يعرض عليه خدمات أكثر ، ابتعد وهو يقصد المصعد الكهربائي نهاية البهو ، وبينما هو يبتعد كان يوسف يرمقه بنظرات متفحصة مُدققة ، التفت الى زميله الواقف بجانبه ليهمس له : بلَّغ معزبك أنَّ الضيف اللي ينتظره وصـل



*

بدأ يخطو خطواته داخل الممر الذي يُؤدي الى غرفته ، على يمينه ويساره أبواب متشابهة متتالية تؤدي الى غرف ما ، وهو يبحث بعينيه عن باب يحمل رقم 577 ، تنهد بتذمر من بُعد الغرفة التي أعاطه اياها موظف الفندق ، الم يجد غرفة أبعد قليلاً أيضاً ؟

مزاجُه أصبح سوداويَّاً ، يرمق كل شيء حوله بازدراء ، يبحث عن أي سبب يؤدي للتذمر ، يبحث عن أي سبب ليفتعل المشاكل ليُضايق من حوله بوقاحته المتعمدة ، مُنذ ذلك اليوم الذي حطَّم فيه الريم وهو يعيش حياته مثل ذئب تائه ضلَّ طريقه ولا يدري الى أين يتجه ، لا يفهم نفسه .. هل يبحث عن ضحيَّة جديدة ليُحطمها ؟

ولكنه دائماً ما كان يُبرر لنفسه بأنَّه لم يقصد أذيَّة الريم بل هي من جنت على نفسها بغبائها ، يُبرر لنفسه ولا يعترف بخطئه ويتجاهله وأدرجه تحت مسمَّى " لحظة من الَّا شعور " وهي التي جعلته يفقد شعوره في لحظة ، وجعلته يؤذيها بأبشع طريقة ، ولكن غليله منها لم يُشفى بعد لأنها وبكل بساطة ستتزوج وتتركه خلفها ، وهو يمقت أن يتخلَّى عنه أحد ، يكره أن يركض خلف فتاة لا تُريده ، ولكن ما الحل وهو يرغب بها بأي طريقة ؟ لازال يُريدها أن تكون له وتغلي دماؤه في عروقه عندما يُفكر بأنها ستتزوج غيره .

وصل الى نهاية الممر حيث أخيراً وجد غُرفته ، ولكنه تعجب من امرأة مُتشحة بسواد عباءتها تقف أمام الباب بشكل مُثير للريبة ، رفعت رأسها تنظر اليه ، وكانت تضع لِثاماً تغطي به النصف السفلي من وجهها ، اقترب منها وقد عرفها من عينيها الرماديتين ، هتف بعدم تصديق : خيـال !!!!


وقف أمامها وهو ينظر اليها بتساؤل واستغراب من وجودها المُفاجئ ، اذ انَّها لم تكن تُظهر نفسها الَّا نادراً ، بل تُرسل شخصاً عِوضاً عنها ينوب بعملها عنها ، ثُم انَّه تساءل في نفسه من أين عرفت رقم غُرفته وهو لم يُخبرها ؟ ، قال بسخرية : خيـال بجلالة قدرها جايَّة لعندي هنا ؟ من وين طالعة الشمس ؟


حدَّت بصرها إليه ، و قالت بتحذير : افتح باب الغرفة .. لا يسمعنا أحد
أخرج البطاقة ليضعها أمام مقبض الباب ، ثم استدار لها وقال بضحكة : بس وينها العروس ما أشوفها معك ؟ هههه لا تكون انتِ بس ؟
رفعت حاجبها بنفاذ صبر ، وقالت بهمس وهي تدفعه الى الداخل : عن المسخرة الزايدة .. وادخل لا تفضحنا


*

تجلس امام طاولة دائرية مزينة بالأزهار والشموع ، كانت ترتدي فستان أحمر قصير تغطي اطرافه ركبتيها ، وشعرها الكستنائي الطويل ينسدل على ظهرها بتناسق ، تراقب العروس الباسمة التي تجلس فوق منصة الاحتفال ، وتتخيل نفسها في محلها ، اذ ان اليوم الذي ستكون فيها في نفس وضعها و فرحها قريب ، تتأمل فستانها الأبيض المرصع بكريستلات تلمع و زهور صناعية بيضاء زادته زهوَّاً ، تساءلت في نفسها أيهما أجمل فستانها الذي ستنتهي الخياطة منه قريباً ام فستان هذه العروس ؟
ومن ستكون الاجمل والاسعد انا ام هي ؟ استدارت تنظر الى الهنوف التي تجلس بجانبها ويطفو على ملامحها الارتباك والتوتر .. وضعت يدها على كتفها لتوقظها من شرودها ، نظرت اليها الهنوف وقالت بتساؤل :وش فيه ؟
اقتربت منها هالة وهي تقول بصوت مرتفع لكي تسمعها ، اذ ان القاعة تضج بأصوات الاغاني المرتفعة : وش رايك في العروس ... حلوة صح ؟
اجابتها الهنوف بلا مبالاة : ايوا حلوة
قالت هالة بتساؤل : طيب اي احلى فستاني واللا فستانها ؟؟؟ اخاف الخياطة ما تطلعه بالصورة اللي فبالي
جفلت عيني الهنوف وشحب وجهها فجأة ، ارتجفت اطرافها واختلجت شفتيها ، وسرت في جسدها قشعريرة واضحة ، استغربت هالة حالتها فقالت بشك : وش فيك ؟؟ انا قلت شي غلط ؟
اعادت الهنوف نظرها الى هالة و اومأت برأسها بالنفي ، ثم قامت من كرسيها وهي ترفع رأسها مجددا لتنظر الى ما خلف هالة ، التفتت هالة خلفها لترى ما كانت تحدق به الهنوف وجعلها تقوم من مكانها بهذا الشكل ، وكان الكثير من النساء خلفها ولم تميز اي امرأة فيهن كانت تقصدها الهنوف الى ان رأتها تقترب من احداهن وتصافحها بابتسامة ، نظرت هالة الى تلك المرأة الطويلة ناصعة البياض ذات المساحيق الغامقة الكثيفة ، كانت تحادث الهنوف وهي تضحك ثم تقترب منها وتهمس في اذنها مطوَّلاً ، بدت لها الهنوف وهي تنظر اليها ، مرتبكة وكأنها خائفة ولكن من ما ؟ بدت لها غريبة اطوار وليست على سجيتها فما الذي حدث لها ؟
ابتعدت من تسمي نفسها بخيال عن الهنوف بعد ان همست لها بكلمات جعلتها ترتجف كأرنب مذعور ، ضحكت بصوت مرتفع ثم اشاحت ببصرها الى هالة التي تنظر اليها باستغراب ، ابتسمت لتلك العينين البريئتين بخبث ، وكانت اشبه بنسر عثر على فريسته بعد طول انتظار ، قابلت هالة الابتسامة بالمثل ، فابتسمت بود وهي تفكر في هوية هذه المرأة ، التفتت الهنوف لهالة بوجه باهت بلا تعابير واضحة واشارت بيدها لها بأن تقترب لهما ، فهمت هالة حركة الهنوف فقامت من مكانها بانصياع و وقفت بجانبهما و مدت يدها لليد الممدودة اتجاهها ، وصافحت تلك المرأة بحسن نية ، نظرت لها خيال بتفحص وقالت بترحيب : هلا وغلا ...كبرتي ما شاء الله وحلويتي وصرتي نسسخة من المرحومة امك
اختفت ابتسامة هالة عن وجهها وهي تعتصر ذاكرتها علها تعرف هوية هذه المرأة التي من الواضح انها تعرفها بل وتعرف والدتها ايضا : اهلين فيك ..بس سوري ما عرفتك
ضحكت خيال بضحكة صاخبة مرتفعة فنظرت هالة الى الهنوف بنظرات متسائلة فقالت لها الهنوف بجمود : هاذي روابي او ام جنى .... وحدة من معارفنا القدامى
اومأت هالة رأسها بتفهم ، ثم توقفت خيال عن الضحك وقالت : اخر مرة شفتك فيها كنتي صغيرة وكتكوتة يمكن كان عمرك سبع او ست سنين مو اكثر. بس ملامحك نفسها ما تغيرت كثير ... بعدك على نفس البراءة يا حلوك
ابتسمت لها هالة بخجل ، فهي بطبعها خجولة و تخجل من الحديث مع غرباء لا تعرفهم ، اتجهت بحديثها الى الهنوف : وين خوات زوجك الباقي ؟؟ فيه بنتين غيرها صح ؟
اشارت الهنوف الى ليلى التي تقف بعيدا عنهما وهي تقول : هاذي البنت اللي ماسكة الكاميرا ليلى الاكبر من هالة .
التفتت خيال لها وهي ترمقها بتفحص : ليلى المتزوجة صح ؟؟
الهنوف : ايوا وحتى هالة بنفرح فيها قريب ان شاء الله
اعادت خيال نظراتها الى هالة وقالت وهي تمسح على شعرها : وش رايك نقعد في مكان اهدأ شوي ابي اسولف معك.
قالت هالة : وين يعني ؟؟؟
خيال وهي تمسكها من ذراعها : نهاية القاعة ...على الكراسي اللي هناك ...ابي ارجع بذكرياتي الحلوة معكم يمكن تتذكريني
بدأت بالسير معها الى حيث اشارت وهي تبادلها الابتسامة : بس قبل لا نروح خلينا نمر دورة المياه ابي اظبط مكياجي
هالة : اوكي
ذهبت معها الى دورة المياه وكانت خالية الا منهما ولم تشعر الا بوخزة كوخزة الابرة في موضع ما خلفها ، ثم دوار شديد وتشوشت الرؤية حولها لتصبح مظلمة سوداء

*


مستلقي على سرير مريح ينتظرها بأن تأتي بما وعدته به ، تاركا شهواته تتحكم به ، يحيي هواه بها ويميت ضميره و تسود صحيفة اعماله بها ايضا ، نظر بشرود الى قنينة الخمر التي جلبها معه ، نهض من السرير ليفتح تلك القنينة ويصب نبيذها في كأس زجاجي بجانبها ، ينظر الى ذلك السائل احمر اللون بتعطش ولهفة وادمان ، يعلم انه يقتل صحته بهذا الادمان ولكنه وفي وضعه الحالي بالذات لا يأبه بشيء ، ولا يفكر الا بشهواته وكيف يُرضي هواه ، رفع الكأس ليرتشف منه رشفة بتلذذ ثم اعاده الى الطاولة وهو ينظر الى خيال التي دخلت الى الغرفة وهي تجر معها سواداً لا يظهر منه شيء ، رمت بذلك السواد على السرير وهي تقول : الا تبيه وصل لعندك ... وعليك بالعافية
قام من مكانه ببرود ليتفقد ذلك السواد بفضول تملكه ، نظر الى ذلك الجسد الصغير بهدوء ثم مد يده ليرفع غطاء وجهها عنها ، تسمرت عينيه على عينيها المفتوحتين بلا اي تعبير ، وكأنها عمياء لا تبصر وملامح وجهها الباقية في سكون غريب ، قال باستنكار : هاذي حية والا ميتة ؟

قالت وهي تخرج من الغرفة : انا بجلس في القسم الباقي من الغرفة وانت سكر عليك الباب وخذ راحتك
تابعها بعينيه وهي تخرج وتغلق الباب خلفها ، اعاد نظره الى تلك المرمية بجانبه وهو يتساءل في نفسه لِمَ تبدو كالدمية ؟؟



*
جلست على الاريكة وهي تنزع عباءتها عنها . اخذت نفسا عميقا براحة ، فخطتها تسير بأفضل ما قد يكون ، والآن كل ما تبقى بقي على وليد وتلك الكاميرا المخفية التي تسجل خلوته معها ، ابتسمت بانتصار وهي تتخيل وجه ذلك الرجل عندما يرى ابنته وهي بهذا الشكل المخل ، اتسعت ابتسامتها اكثر وهي تتخيل حجم الاضرار التي ستلحق بهم بسبب فضيحة مُلفقة ، فهو رجل مريض كبير بالسن وبالطبع لن يتحمل ، ولديه ابنتين متزوجتين ايضا فماذا سيحل بهن ؟ وماذا لو تهور ابنه وثار بسبب تلوث شرفه وهدر دماء اخته ؟
هي امرأة تسكن في عينيها أفعال ظالميها ، واصبح الحقد ملازما لروحها مسيطرا على وجدانها ، ومع مرور الزمن تحول هذا الحقد الى رغبة في الإنقام ، رغبة في الثأر لذاتها وروحها الطيبة التي ماتت ، ثأر لكل شيء جميل فقدته في حياتها بسببهم ، وتستمد قوتها من حقدها وغلها ، كل شيء كان مدبراً ومخططا له ، حتى خطبة هالة من سلطان كانت من تدبيرها ، فهي التي ارسلت نساء من معارفها الى ام سلطان ليخبروها عن ابنة محمود الجاسر ، وانها فتاة ذات مواصفات حسنة ومناسبة لابنها الذي تبحث له عن عروس ، حتى لو لم تتم تلك الخطبة كانت لديها بدائل اخرى ، المهم ان يتحقق مرادها وهو تحطيم ذلك الرجل و العبث في شرفه مثل ما حطمها هو ، وكانت ابنته هي الوسيلة لذلك ، وسيكون سلطان اداة انتقامها منهم

بدأت ابتسامتها بالتلاشي وهي ترى وليد يخرج من الغرفة ويمسك ذات الثوب الأحمر من ذراعها ، وعلى وجهه تتضح امارات الضيق ، رمى بها على الاريكة بجانب خيال وهو يقول : انت تلعبين معي والا وش قصدك ؟ جايبة لي وحدة ماتحس ؟ .. هاذي يا انها مريضة او محششة ... وغير هذا كأنها طفلة

رفعت رأسها اليه بغضب ، ونطقت من بين اسنانها : مو انت تاكل الاخضر واليابس جت على هاذي الحين ؟؟ خذها وانت ساكت
قال وهو ينظر لهالة بارتياب : جيبي لي وحدة غيرها .. ما عجبتني .. ما تحس ولا تتفاعل وشكلها ماخذة جرعة مضاعفة ... الا وش نوع المخدر اللي اخذته ؟ ، اكمل باستهزاء : شكله من النوع الفاخر
قامت من مكانها و وقفت امامه وهي تكاد تخنقه بيديها ، الوقت جدا ضيق ومحدود وها هو الآن يضيعه بسبب اعذار واهية ، و ستنتهي تلك المسرحية قبل ان تبدأ بسبب تبجحه ، قالت بنفاذ صبر : دبر نفسك فيها في الوقت الحاضر ... ما اقدر اجيب لك غيرها .. تفكر سهل ان اركب لك بنت في هالمكان؟؟ خذها و اذا قدرت بكرة جبت لك غيرها ... وتراها مو طفلة ... عشرينية بس حجمها صغير
قال بعدم اقتناع : ملامحها تستفزني .. ما ابيها
صرخت في وجهه وهي تكاد تنفجر : وليد كل تبن وخذهاا
قطب جبينه بعدم فهم ، لِمَ كل هذا الاصرار ليأخذها ؟ نظر الى خيال وهي تمسك الفتاة وترمي بها على صدره بقوة ، امسك بها وهو ينظر اليها بعدم اقتناع ، وقال بشك : ليش كل هالاصرار ؟
خيال : وليد خذها بتعجبك صدقني
تجاهل شكوكه ومشى مع تلك الفتاة الدمية الى الغرفة ، اغلق الباب خلفه و رمى بها على السرير ، بدأ ينظر اليها عن قرب بتفحص علَّه يقتنع بها ، سمراء نحيلة بثوب احمر يصل الى ركبتيها ، وجه صغير وملامح بريئة استفزته ، جمالها عادي وبسيط ولا يُرضيه ، قام من مكانه ليترجع نبيذه ، رفع ذلك الكأس الذي ملأه قبل قليل وافرغه في حلقه بجرعة واحدة ، اعاد نظره اليها وهو يرفع صوت الاغاني في هاتفه ، اتجه ناحيتها وامسك بذراعيها بكلتا يديه ، كان كل شيء فيها ساكناً ، سوى صدرها الذي يرتفع وينزل بتنفس بطيء وعيناها اللتان ترمشان ، قربها اليه وكانت بمثابة حمل وديع سقط بين مخالب ذئب جائع ، وبدأ باغتيال عفتها وهو يضحك .

*

مر وقت لا بأس به ، وقت كافي لتكون المهمة انجزت ، نظرت الى جوالها الذي يهتز بسبب مكالمات الهنوف المتتالية ، وضعت الجوال على اذنها لتقول وهي تبتسم من اعماقها : خليك جاهزة في نفس المكان دقايق وارجعها لك
اغلقت منها بدون ان تسمع ردها ، ودست الجوال في حقيبتها ، اعادت ارتداء عباءتها وحجابها وفتحت باب الغرفة ، ابتسمت برضا وهي ترى ذلك الفستان الاحمر مرمي على الارض ، اذاً قد اكتملت المسرحية ، اقتربت من وليد الذي يشرب من زجاجة النبيذ بنهم ، وبجانبه تلك السمراء مغمضة العينين ، قال لها وليد بسخرية : شكلها ماتت .. فجأة غمضت عيونها ... رعبتني بنت الكلب
قالت بهدوء بعد ان التقطت فستانها الاحمر من الارض : باخذها الحين وبجيب لك غيرها
قال لها وهو يمنعها : لا بنتظرها لين تصحى ... بعدني ما خلصت منها
قالت وهي تسحب هالة من ذراعها : لا .. انت من البداية قلت ما عجبتك .. باجيب لك غيرها
سحبها هو الآخر من ذراعها الاخرى وهو يقول : لا خليها
قالت بصراخ : يكفي يا بلوى ... ماخذ المسألة عناد يعني والا كيف ؟ باجيب لك غيرها يا ###
نظر اليها باستغراب ثم ابتعد وهو لم يفهمها ، لِمَ كانت تصر عليه ثم تراجعت الآن ؟ اختفت خيال من الغرفة بعد ان غطت تلك الفتاة بعباءتها ، لفت ناظريه شيء ذهبي يلمع على الارض ، قام من مكانه بتخبط والتقطه واذا بها قيادة ذهبية تحمل حروف اسمها " هالة "


*

نزلت بالمصعد الكهربائي الى قاعة الافراح التي تحتل جزء كبير من الدور الارضي بجانب بهو الفندق ، تسند هالة الفاقدة للوعي على كتفها ، مشت بهدوء لكي لا تثير شكوك من حولها عنها ، ثم دخلت من الباب الخلفي للقاعة بسرية ، اذ ان هذا الباب لا يدخل منه احد ، و قد كانت تملك مفتاحه ، كانت الهنوف تنتظرها بقلق ، رمت بهالة عليها و ملامح وجهها تتقلب بحقد ، التقطتها الهنوف وهي تشهق بقوة : وش سويتي فيها ؟ ليه حالتها كذا وكأنها نايمة ؟ وش صار ؟
أجابتها خيال بجمود : لا تخافي عليها ما فيها شي مجرد اغماء وشوي و تصحى طبعا ماله داعي اذكرك باللي بينا
الهنوف بخوف : لا تكفين لا ... انا سويت كل هذا عشانك ولو كنت بتكلم تكلمت من البداية
ابتسمت لها خيال بسخرية و ابتعدت عنها وهي تشعر انها اثلجت صدرها اخيرا ، وارتاحت بعد ان انتهت من تصوير هذه المسرحية الغامضة ، حيث ان هالة لها البطولة المطلقة فيها و وليد لم يكن الا ضيف شرف ، وتدور القصة كلها حول سلطان ، العريس المخدوع ، وكانت تلك المسرحية من اخراجها وتأليفها هي ، بقي الآن ان يتفرج عليها الجمهور وهذا ما سيحدث ، وقد صورت تلك المسرحية باتقان شديد وسرية تامة و لا احد سيشك بانها ملفقة او وهمية ، ولا احد بستطيع فضحها او الوشي بها أيضاً ، حتى لو تحدثت الهنوف فلا يهم ، فهي لا تعرف عنها أي شيء وخيال ليس اسم خيالي كمعناه .

*
استفاقت من غيبوبتها وهي لاتشعر بشيء حولها ، لا تتذكر شيئا ، ولكن صداع شديد يهاجم رأسها ، استوعبت ان رأسها ملقى على حجر ليلى وهي تنظر لتعابير وجهها القلقة : انتي بخير ؟؟
نظرت الى اختها ثم حركت ناظريها الى الهنوف التي تقف بجانبها ، تذكرت تلك المرأة الغريبة التي كانت برفقتها ولكن اين اختفت ؟ هل كانت مجرد خيالاً او حلماً وليست بحقيقة ؟ قالت بتساؤل : وش صار فيني ؟ وين احنا ؟
تعجنت ملامح ليلى بعصبية وهي تقول : الهنوف شافتك وانتِ مغمى عليك في الحمام .. طبعا شكلك كالعادة ذبحتي عمرك في المذاكرة ولا اكلتي شي صح ؟؟
وضعت هالة يدها على رأسها بألم وهي تشعر بهذا الصداع يسرق منها قدرتها على التذكر ، ولكنها حقاً عندما تنشغل بدروسها تنسى نفسها ولاتهتم بجوعها ولا تأكل جيدا ، وكثيرا ما كانت تتعب لهذا السبب ، قالت ببهوت وهي تنظر لليلى : ما اكلت شي من الصباح يمكن عشان كذا تعبت وطحت
قامت ليلى من مكانها وهي تقول : طيب يلا قومي اجهزي والبسي حجابك عشان نرجع البيت وترتاحين ... يوسف ينتظرنا برا


*

انتهى 

و هل ينتهي الحُــــب ؟حيث تعيش القصص. اكتشف الآن