دخل محمد إلي شقته بعد طول يوم منهك وعندما
أقترب من غرفته سمع صوت ضحكات بياضة المدللة
والتي كان يحب سماعها كثيراً وهي صغيرة ولكنه الآن
عند سماعها يغضب ويجد نفسه يتعامل باستفزاز معها
حتي يطفئ هذه الضحكات علي وجهها ، هو لاينكر
جهله لما يفعله معها ولماذا بعد أن أتمت العاشرة وليس
قبلها ؟!! ولكنه لن يرهق نفسه بالبحث عن أجوبة
لأسئلة لاتهمه كثيراً فهو سيتعامل معها دائماً هكذا وكفي
... دخل غرفة أخته بدون إستئذان فنهضت بياضة من
نومتها علي الفراش والتي يمكنأن تكون لأي رجل غيره
بنظرها مثيرة جداً فانفعلت وغضبت فهدرت بوجهه :
أنت إزاي تدخل علينا كده من غير إستئذان ..
دي أوضة بنات حضرتك ومايصحش أنك تدخل من
إحم ولا دَستور .
ظل ينظر إليها بسخرية من كلامها ثم أمسك بمعصمها
بقوة وقال : صوت ضحتك دي لو سَمعتها تاني
هنقطعلك لسانك .. فاهمة يابت ولا لأ .
بياضة بغيظ وغضب قد بلغ حده : بت أما تبتك .. لأ
مش فاهمة وأني نعمل اللي عايزاه وقت مانكون عايزاه
.. بمزاجي يعني .. ماشي ؟
أنهت جملتها وخرجت فهي لن تقوي علي الوقوف
أمامه بعدما تفوهت بهذا التحدي الصريح أمامه فلابد
من خروجها من هذا المنزل وسريعاً ولكنه لم يمهلها
الفرصة فهتف بحدة كعادته : طب شوفي بقي ياحلوة ..
مرة تانية نشوفوكي واقفة قدام الزفت اللي اسمه حسن
.. هنقطملك رقبتك وأنتي عارفة إن أني ممكن نعملها
وكمان هتبقي فيها حبسة في البيت ومش هاتشوفي
الشارع ده أبداً بعنيكي الحلوين دول ... قالها وهو يشير
بالقرب من وجههها بإصبعين من إحدي كفيه .
نفضت معصمها بقوة لغيظها فقالت : أنت مين علشان
تعمل فيا كل ده ؟
أقترب منها محمد وهمس بفحيح غاضب : أني بابا يابت .
قالت بياضة وهي تنظر بثبات بعينيه : مش عليا ..
ثم نظرت للوزة وقالت بتحذير : لوزة دي آخر مرة
هندخلوا فيها الشُقة بتاعتكوا وسيادة المستشار فيها ..
سلام .
ثم رمقته بنظرة أخيرة تحمل الكثير من الحقد والحنق
وتركته يضحك خلفها كما فعلت لوزة وسناء مع هز
رأسيهما بيأس فهذا المسلسل يتكرر يومياً تقريباً وينتهي
بنفس الجملة التي تقولها بياضة بتحدي وغيظ .. كما
تنتهي بقول محمد مغيظاً لها : أيوووه .. كام مرة قولتيها
يابت وتاني يوم بنلاقوكي راشقة عندنا .. نفسي
مرةنشوفوكي بِتِوْفي بوعدك وماتجيش فعلاً .... ثم أكمل
ضحكته وهو بطريقه لغرفته فقد أنهكته هذه الشقية بمشاجرتها اليوم ككل يوم ويريد النوم الآن بعدما هدأ ..
فياللغرابة هو يرتاح بعدما تنتهي مشاجرتهما بغيظها منه
حتي ينتهي مفعول هذه الراحة ليبدأ معها مشاجرة
جديدة وتغتاظ منه مرة أخري ... وهكذا يستمر إمداده
براحة من إثر شحنها بالحنق منه دائماً .
***
تجلس بياضة تستذكر دروسها بغرفتها وحدها بعدما
أقسمت أن لاتدخل هذه الشقة التي تقابل شقتها إلا
بغيابه .. هذا المستفز ، الوقح والذي ينتهز الفرص دائماً
لتوبيخها وفرض أراءه عليها كأنها قطعة صلصال لاتعجبه
فيقرر تشكيلها بمزاجه هو ... ظلت تزفر بغيظ كلما يمر
طيفه علي ذاكرتها كما أنها غاضبة لأنها تحبس نفسها
بغرفتها لتحاول الإستذكار بمفردها دون لوزة ، فمشكلتها
أنها أعتادت أن تستذكر معها وأن تحفزها لوزة علي
الإستمرار وعدم الشرود بحسن أو غيره ممن سبقوه ..
تنهدت بيأس فمهما حاولت لن َثْبُتْ أي حرف بعقلها
الآن .. نهضت من مقعدها وهي تزفر وذهبت للمطبخ
باتجاه المُبرِد لتشرب القليل من الماء لعلها تبتلع مرارة
ماتشعر به تجاه محمد .. رأت والدتها تقف أمام الموقد
وتُقلب شيئاٌ ما بملعقة خشبية ، فتعجبت فالوقت
أصبح ليلاً ... ماذا تفعل أمي بهذا الوقت ؟!!!
بياضة بتعجب : بتعملي إيه ياأمه في الوقت ده هنا ؟!!
سمرا بابتسامة متعبَة : بنسلقوا الجزر علشان نعملولك
عصير برتقان بالجزر وتركزي كده في مذاكرتك .. أه أني
عايزة مجموع كبير يدخلك كلية الطب أو الهندسة .
ضحكت بياضة علي تفائل أمها رغم علمها أنها بالقسم
الأدبي بالمدرسة فقالت : يا أمه أني أدبي مش علمي
طِب إيه وهندسة إيه بقي !!
ابتسمت سمرا وقد بدأ التعب يأخذ ملامحه علي وجهها
وقالت وهي تجز علي أسنانها تمنعه من الظهور أمام
ابنتها : أيوووه .. أني نسيت ، خلاص تبقي إعلام أو
اقتصاد وعلوم سياسية .
بياضة وهي تحاوط أمها من الخلف بكلتا يديها بحب :
إعلام واقتصاد حتة واحدة .. أني لو جبت مجموع
يدخلني آداب يبقي تفرحي وترقصي يا أم بياضة .
ما إن أنهت بياضة جملتها حتي سقطت الملعقة من يد
والدتها ثم أسندت يدها علي حافة رخام المطبخ
فأمسكتها بياضة بفزع والدموع بدأت بالإنهمار علي
خديها لتخرج بها من المطبخ بعدما أطفئت النار علي
الجزر .. أوصلتها لفراشها ومددتها ثم بحثت عن الدواء
الخاص بمرض القلب التي تتناوله أمها منذ أن بدأ
مرضها اللعين هذا بالظهور وذلك بعد وفاة زوجها
وحبيبها علي يد من أرادوا الأخذ بالثأر منه منذ زمن
رغم هروبه منهم ولكن مايشاءه الله يحدث حتي لو
أختبأنا منه العمر كله .
وجدت العلبة أخيراً وفتحتها ولكنها فارغة .. نظرت لأمها
التي تتألم من الوجع ثم تركتها لتذهب سريعاً للشقة
المقابلة والتي أقسمت أنها لن تذهب إليها بوجوده ولكن
ليس بيدها حيلة الآن فلتترك أمور الأطفال هذه لوقت
آخر .. أطرقت الباب بعنف وبعد لحظات وجدته يقف
أمامها بملابسه الرسمية .. يبدو أنه وصل من عمله منذ
قليل رغم تأخر الوقت لبعد منتصف الليل .. نظرت له
وعلامات الفزع ترتسم علي وجهها ثم قالت : الدوا بتاع
أمي خلص عايزة ننزلوا نجيبوا غيره خليك معاها أو نادي
علي لوزة تفضل معاها لحد مانروحوا نجيبوه ونيجوا .
أنهت جملتها ثم استدارت بسرعة لتهبط درجات السُلم
حين أمسك ذراعها بقوة وقال بحدة : أنتي أتجننتي !!
تنزلي فين دلوقتي الساعة واحدة الصبح .. روحي أنتي
خليكي مع أمك وأني هننزل نجيبوا الدوا .. هو اسمه
إيه؟
أخرجت بياضة علبة الدواء الفارغة ومعها نقود ثمن
الدواء وأعطتها له فنظر لها بغيظ ثم ناولها المال وأمرها
بحدة أن تدخل وتغلق الباب ولكنها أصرت علي أخذه
للنقود فقال وهو يجز علي أسنانه بغضب : لولا الموقف
اللي إحنا فيه كان يبقالي معاكي كلام تاني ..
ثم دس المال بجيب سترتها القطنية الطويلة والتي ترتديها
أعلي بذلة منزلية مكونة من " تي-شيرت بيتي ضيق
وبنطال ضيق يجسم جسدها بصورة مغرية للغاية
فأغتاظ منها بزيادة وأمرها أن تدخل وتغلق بابها عليها
وأن تُبْدِل ملابسها بأخري فلايجوز أن تظل بها أمامه
.. ورغم تعجبها من قوله فهي دائماً ماترتدي الضيق
والقصير بالخارج فلماذا يطلب منها هذا الآن ولكنها
أومأت بالموافقة ... دخلت بسرعة لأمها فوجدتها مازالت
تتألم وتضع يدها علي قلبها وبدأت بالتعرق وبعدها
بدقائق سمعت صوت طرقات متتالية علي باب الشقة
فأغلقت سترتها جيداً علي جسدها ثم فتحت الباب ..
أختطفت بسرعة الدواء من يديه وتركته يلتقط أنفاسه
المتلاحقة نتيجة ركضه ذهاباً وإياباً وبعد لحظات بدأت
سمرا تفيق من ألمها ثم سمعت نحنحت محمد بالخارج
وطلبه الدخول للإطمئنان عليها فقالت لبياضة : دخليه
يابتي عايزة نشكره علي اللي عمله .
بياضة بامتعاض : علي إيه ياأمه يعني عادي .. هي أول
مرة .
سمرا بإستنكار : يابت متبقيش ناكرة للجميل كده ..مهما
عمل معانا لازم نشكره ، كفاية رجولته معاكي .
بياضة بغيظ : بنقولك إيه ياأمه بلاش والنبي السيرة
اللي بتعصب دي .. ثم فتحت له الباب وعلي وجهها
علامات الإمتعاض منه فتركته مع والدتها ودخلت
لغرفتها لحين يخرج من الشقة ..
محمد : عاملة إيه دلوقتي ياحاجة .
سمرا بامتنان وبنبرة مازالت متعبة قليلاً : الحمد لله يابني
.. كتر خيرك تعبينك معانا علي طول .
محمد بصدق : ماتقوليش كده إحنا أهل ومش من
قُريّب .. دي عشرة العمر كله .
سمرا بحب أمومي نابع من قلبها لهذا الولد الذي دائماً تراه
أهل لثقتها ولاتطمئن علي بياضة إلا بوجوده بمحيطها :
ربنا مايحرمنا من العشرة دي يارب .
محمد بابتسامة : طيب .. أستأذن أني وياريت لما الدوا
يخلص أبقي قوليلي وأني نجيبهولك .. بلاش تهملي في
صحتك علشان خاطر بياضة .
سمرا بابتسامة ممتنة : حاضر يابني ربنا الستار .. تصبح
علي خير ياحبيبي .
محمد بنفس الإبتسامة : وحضرتك من أهله .. عن
إذنك .
بعدما سمعت صوت الباب يُفتح ويُغلق تأكدت من
خروج محمد فتنفست الصعداء فهي لاتريد شجار معه
الآن بمنتصف الليل وبعد إنهاكها من قلقها وفزعها علي
والدتها ، ذهبت لأمها لتطمئن علي أن صحتها عادت
لطبيعتها مرة أخري وتدعو الله أن يبقيها سالمة لها
فليس لديها أحداٌ غيرها وإن تركتها بمفردها فستضيع
حتماً بدونها .
وأثناء تفكيرها بذلك نامت أمها بفعل الدواء فتدثرت
بياضة بيد والدتهاوانتوت النوم الليلة بأحضان والدتها .
***
أنتهي محمد من أعماله باكراً وبمعني أدق لم يكن يرغب
بالعمل كثيراً فالبارحة لم يستطع النوم جيداً وظل
يتقلب بفراشه طوال الليل .. من ناحية يراها بملابسها
المنزلية التي كانت ترتديها أمامه أمس ويزداد حنقه
وغضبه كلما يتصور نزولها بها بالشارع ورؤية أحدهم
لجسدها بهذا الإغراء والفتنة فيحدث نفسه بصوت
منخفض : وبعدهالك بقي يابياضة .. هتبطلي أمور
الإستهتار دي أمتي ؟
ثم يزفر ويغمض عينيه لعله يستطيع النوم ثم يفتحهما
مرة أخري ليتذكر تألم والدتها وكيف أنها تهمل بعلاجها
فيقرر أنه سيتحدث مع الطبيب المتابع لحالتها غداً لعله
يتوصل لحل مناسب لهذا الألم فبياضة بدونها ستنهار
وتنكسر وهو لن يسمح بذلك طالما يتنفس.
***
أدار موتور السيارة ليفاجأ بسيدة تفتح الباب المجاور
لمقعده وتجلس ويرتسم الخوف والذعر علي ملامحها كأنها
مطاردة من أحداٍ ما .. فنظر لها بدهشة وقد تعرف
عليها فوراً ولكنه تظاهر بالعكس حتي يفهم سر
ظهورها المفاجئ بذلك الشكل أمامه .. فوجدها تقول
بلهفة وهي تتلفت حولها : أمشي أرجوك قبل
مايشوفوني .. بسرعة .
قالت كلمتها الأخيرة وهي تنظر له باستنجاد وجده
مصطنع فامتثل لأمرها وأدار السيارة وذهب بعيداً فلم
يري تلك النظرة وتلك الإبتسامة التي أرتسمت علي
وجهها دليلاً علي نصرها المزيف ولكنه رأي ماهو أهم ،
يدها التي دستها بأسفل جانب المقعد التي تجلس عليه
وكأنها تخفي شئياٌ به فقرر التخلص منها بأقرب مكان
ليعرف ماهية هذا الشيئ والذي يبدو أنه صغير الحجم
جداً .
***