تفرك بعينيها وهي مازالت ممددة علي فراشها بكسل
ولكنها تستجمع بعض من نشاطها وتنهض .. خرجت
نوسة من غرفتها تنادي علي والدتها فلم تجدها فهزت
كتفيها بلامبالاة فأغلب ظنها أنها ذهبت برفقة محروسة
الخادمة للتسوق بسوق الخضار .. كادت أن تستدير
لتعود غرفتها مرة أخري لتبدل ملابسها وتخرج إلي
الشقة التي أصبحت ملجأ لها مع السيد ليمارسا بها
حقوق زواجهما السري أو خطيئتهما ولكنها توقفت مكانها
حينما وجدت حسن أخيها يجلس واضعاً كف يده علي
وجنته شارداً بملكوت آخر .. نادت عليه عدة مرات
ولكنه لم يستجيب فسحبت مقعداً أمامه ثم جلست
محدثةً صوتاً مرتفعاً جعله ينتبه إليها ولكنه عاد مرة
أخري لشروده .. تحدثت نوسة معه قبل أن يعود فعلياً
للشرود فقالت : مالك يابني بنادي عليك من مدة
وأنت ولا أنت هنا ؟ فيك إيه يالول ؟
تنهد حسن بحزن ثم قال : ماأنتش عارفة يعني فيا إيه ؟
نوسة بإستهزاء : ماتقوليش البت بياضة بردوا ! يابني
البت دي قادرة .. لعبت معاك شوية واتسلت وبعدها
راحت أتجوزت سيادة المستشار اللي الكل بيعملّه
حساب وأولهم أنت .. تنكر أنك بتخاف منه وبتعبد
عنه أول أما تشوفه بقربها .
زفر حسن بضيق وغضب وقال : بنقولك إيه يانوسة
أني مش ناقص فلسفتك دي .. قومي شوفي طريقك
... الله يسهلك .
ابتسمت نوسة بإستهزاء من ضعف أخيها ثم نهضت
من مكانها ولكنها مالت عليه لتقول كلمتها الأخيرة : أني
هنمشوا ونسيبك بس هي كلمة عايزة نقولولك عليها ..
اللي تكسرك اكسرها ياأخويا ياراجل ياللي اتلعب
بمشاعرك من بت لسه ماطلعتش من البيضة.
أنهت جملتها بنبرة حاقدة خبيثة ثم تركته يفكر بما قالت
ويتمعن به وعندما كادت تغلق عليها باب الغرفة التفتت
إلي صوت رنين الهاتف المنزلي والذي أصبح يصدر رنيناً
كثيراً هذه الأيام والأسوء أن المكالمات الواردة إليه دائماً
بنفس الهدف فنظرت إليه ثم نظرت إلي أخيها الذي
سحب نفسه بالتدريج إلي غرفته وأغلق عليه فتنهدت
بحنق ورفعت سماعة الهاتف مجبرة وما أن قالت " ألو
" حتي سمعت نفس الفحيح ونفس الهمهمات الغريبة
المثيرة للإشمئزاز مرة أخري فأغلقت الخط ووعدت
نفسها بضرورة إخبار والدها أو والدتها عن فحوي هذه
المكالمات ثم سألت نفسها وهي تغلق باب غرفتها من
الداخل : إشمعني أني اللي بنسمع القرف ده كل مرة
ومفيش غيري بيسمعوا .. غريبة أوي كأن اللي بيتصل
عارف صوتي أني مخصوص ..
***
يجلس قدورة يحتسي النرجيلة بمكتبه داخل حلقة
السمك حيث أنتهي العمال الآن من المزاد وبدأوا بالبيع
القطاعي للسمك المتبقي .. أصوات العمال بالخارج
وأقدام المارة والزبائن لم تطغي علي صوت شياطينه
التي توسوس له بإختطاف بياضة وفعل ما أراد
دائماً معها ولكن كيف سيفعل ذلك دون أن يلاحظ
سيادة المسشتار زوجها وكيف سيختطفها وهي لم تري
الشارع منذ وفاة والدتها .. زفر بضيق لعجزه عن
الحصول عليها ولعجزه عن إيجاد حل لما يفكر به ..
جلس بجانبه صديقه الوفي عبد المعطي وعندما
وجده شارداً زافراً فسأله : مالك ياصاحبي ؟ مين
مضايقك وأني نريحوك منه ؟
قدورة بحنق : اللي مدايقني مش عارف نتحصلوا عليه
.. يبقي هنرتاحوا إزاي .
عبدالمعطي بتساؤل : لغز ده .. ماتفضفض لأخوك يمكن
يكون عندي الحل .
نظر إليه قدورة بقليل من التفحص ثم قال بهمس :
وليه لأ ؟
ثم سرد له ما يخطط له ومعضلته في خروجها من المنزل
.. حك عبد المعطي برأسه دلالة علي تفكيره ثم سحب
من يد قدورة خرطوم الشيشة ومسح بكفه المبسم ثم
سحب نفساً عميقاً به وزفره وبعدها قال وهو يبتسم :
واللي يقولك علي الحل .. تعمل معاه إيه ؟
قدورة بحماس : اللي يطلبه .. عينيا ليه .
عبد المعطي برجاء : تجوزني البت نوسة بقي الدراسة
خلصت من مدة والسنة الجديدة بدأت وإحنا كنا
متفقين بعد ماتخلص الجامعة وأجلتوه واني مش فاهم ليه
لحد دلوقتي .
قدورة بوعد وحماس : أعتبر جوازك من نوسة تم
خلاص وبعد أسبوع بالتمام هتكون في بيتك .. ها قول
بقي الحل يا أبو المفهومية عبد المعطي بخبث شيطاني :
محدش يقدر يمنع القرش من عمل اللي يريده .. حتي
ابنك ماكانش هيمنعك صح ؟
ضم قدورة مابين حاجبيه بتساؤل ولكنه لم يلبث أن
تجاوز الدقيقة حتي ابتسم بشيطانية هو الآخر ثم
سحب خرطوم الشيشة من يد صديقه الوفي الذكي
وسحب أنفاساً عدة مستمتعاً متفكاً بما آل إليه تفكيره ...
ضحك قدورة بشيطانية وصاحبه عبدالمعطي بضحكاته
حتي سعلا من كثرة الضحك معاً .. فهما يشتركان بنفس
الصفات .. فالشياطين علي أشكالها تقع .
***
وأخيراً استيقظت بياضة من إغماءتها أمس بعدما أنتهت
من بكاؤها الدامي لروحها الحبيسة وقبل أن تغرق بها
قررت وتوعدت أنها لن تستسلم أبداً لحبستها هذه
وتعود للطيران والتحليق بحريتها كما كانت سابقاً فلن
يفرض أحداً عليها أي قيود طالما بصدرها نفس ..
خرجت من غرفتها تتلكأ بمشيتها وتتلاعب بشعرها
الطويل كعادتها فلم تجد إلا خالتها سناء ترتب الشقة
وتنظفها بمفردها فتسائلت عن لوزة بعد أن ألقت تحية
الصباح فقالت لها سناء : راحت الكلية بتاعتها ..
النهاردة أول يوم في الجامعة .. مش كنتي سمعتي
كلامي وقدمتي معاها .
عضت بياضة علي شفتيها بندم .. كيف نسيت هذا
الأمر .. كيف تجاهلت أن ذهابها للجامعة قد يكون هو
مفتاح نجاتها من هنا .. كيف تناست بأن حريتها هي
إكمال دراستها .. فقالت لسناء : هو ماينفعش أني
نقدموا في الجامعة دلوقتي ؟
هزت سناء رأسها بالرفض وقالت بأسف : مش هينفع
لأن التنسيق قفل خلاص .. السنة الجاية تقدمي إن
شاء الله .. معلش يابتي موت سمرا الله يرحمها هو اللي
برجلك مخك كده .. ملحوقة .
زفرت بياضة بخفوت وضعف ثم انتبهت إلي عدم
وجوده .. رغم تأخرها بالنوم إلا أنها تخيلت أنه سيظل
متواجد حتي الآن .. لماذا؟! لا أحد يعلم لما خطر
هذا علي بالها حتي هي ولكنها سألت سناء : هو حمادة
نَزل يفطر ؟
سناء بإنتباه : لأ لسه .
بياضة بتعجب : لسه مانَزلش .. غريبة هو مش متأخر
كده ؟
توقفت سناء عن الكنس بالمكنسة اليدوية وقالت :
تصدقي مش عادته .. أني بدات أتوغوش عليه يكونش
تعبان يا حبيبي ومش عارف ينزل ؟
ثم تركت مابيدها واتجهت لباب الشقة وقالت لبياضة :
بنقولك إيه يابياضة أني هنطلع نشوفوه أحسن يكون
حصله حاجة .
جلست بياضة علي مقعد من مقاعد مائدة الطعام
واضعة كفيها أسفل وجنتيها الأثنين .. علي الرغم من أن
باب الشقة كان مفتوحاً إلا أنه لم يخطر علي بالها أن
تخرج منه ..
كان يقف أمام المرآه يهندم ملابسه الرسمية والتي
لايرتديها إلا عند دخوله قاعة المحكمة .. وهاهو اليوم
سيفعلها .. كان يرتدي حلة كحلية اللون وأسفلها قميص
من القطن الخفيف باللون الأبيض وربطة عنق بنفس
لون الحلة ..أمسك بفرشاة الشعر وبدأ بتمشيطه للخلف
ثم أمسك بزجاجة العطر ونثر القليل منها علي ملابسه
.. كل هذا تم بطريقة آلية وشرود فهو مازال منذ
الأمس يحنق علي نفسه .. يشعر بالذنب .. ولكنه
لايعرف أي ذنب أقوي هل هو ذنب زواجه بأخري
دون علم أحداٌ من أسرته ؟ أم هو ذنب زواجه دون
بياضة ؟ أم هو ذنب حبس بياضة الإجباري ووصولها
حد البكاء بإنهيار أمس وبين يديه .. أم توسلاتها له
ولأول مرة حتي تخرج من شقته .. تنهد بقوة وحيرة ثم
أغمض عينيه قليلاً حتي يستعيد توازن عقله والذي
أوشك علي فقدانه قريباً .. أفلا يكفيه إمرأة واحدة بريئة
ولكنها مشاغبة حتي يقع فريسة لواحدة أخري ليست
برئية أبداً وشغبها انتشر بين الرجال أجمعين ..
فتح باب الشقة ليخرج حتي فوجئ بأمه كادت تضغط
علي جرس الباب .. ابتسمت سناء بوجهه ثم تقدمت
خطوتين للأمام حتي لامست جبهته بظهر كفها لتختبر
حرارته وهي تسأله : أنت بخير ياحبيبي .. لما أتأخرت
قلقنا أني وبياضة عليك .. وهي اللي نبهتني أنك مش
بعادتك تتأخر كده في النزول .
اضطرب عند سماعه اسمها ... هل وصل بك الحال
لهذا ؟ لماذا دقاتك أيها القلب تعلن عن هذا
الإضطراب الآن ؟! أهدأ يامحمد واسترجع بعض
الأنفاس التي سحبت منذ لحظة علي ذكر اسمها ..
وقبل أن يخرج مع أمه للخارج قالت له بأن يأتيها
بملابسه المتسخة حتي تنظفها له فطاوعها وأتي بسلة
الملابس وحملها معهما للأسفل .. فتحت سناء باب
الشقة فتعجب محمد من عدم إغلاقها له جيداً ..
ولكنه عندما كاد ينطق بإستنكار عن ذلك الأمر
وخوفه أن تكون بياضة قد خرجت .. نظر بإتجاه
المائدة ووجدها تضع كلا كفيها علي وجنتيها وشاردة ..
فابتسم براحة ورضا ثم دخل وأغلق الباب خلفه ..
نظرت إليه بعبوس ثم توجهت بنظرها إلي سناء التي
قالت : اقعد يا حمادة وخمس دقايق الفطار هيكون
جاهز .. ثم اتجهت للمطبخ وتبعتها بياضة دون النطق
بشيئ .. ظلت بياضة تحمل الأطباق من المطبخ للمائدة
أمامه وظل هو ينظر إليها ذهاباً ومجيئاً ثم أمسك
بمعصمها وفي محاولة منه لإخراجها عن عبوسها الذي لا
يستطيع تحمله فيكفيه ذنوبه تجاهها وتجاه أمه وأخته
فقال بمشاكسة ليغيظها : أوعي تكوني أنتي اللي عاملة
الأكل ده ؟ أتصل بالإسعاف قبل ما أكل ؟
وللعجب لم تستجيب إلي محاولته البائسة فقالت
بابتسامة باردة : لأ مش أني اللي عملاه .. بس لو
عايزني نعملوه أؤمر بس ياحبيبي.
استدارت لتذهب للمطبخ ولكنها توقفت قليلاً
لاستيعاب ماقالته ثم هزت رأسها لليمين ولكنها لم تتوقف
كثيراً حيث ذهبت سريعاً للداخل وهي تلعن تسرعها
بالرد .. أما هو فابتسم رغم رعشته من سماع كلمة
حبيبي التي نطقتها من شفتيها رغم برودتها .. ابتلع ريقه
بصعوبة .. ثم زفر بقوة وحدة وأنّب نفسه علي ما شعره
.. فبياضة مازالت وستزال كلوزة بمكانتها ولن تتزحزح
هذه المكانة مهما حدث .
ترك الطعام كما هو وذهب لعمله .. فما أصعب
الإعتراف بتنازلات القلب ورضوخه عن قناعات كان
يظنها العقل راسخة وقوية ولن تتغير أبد الدهر ....
***