كيف أفقت!

96 7 0
                                    

وصلت إلى البيت لأجد أن أبي كان ينتظرني بنظرته الحاسمة،ألقيت السلام و توجهت لغرفتي حتى أتحاشا تأنيبه..
- أمل!
عدت أدراجي ببطأ و أنا مطأطئة رأسي..
- نعم أبي!
- ما الذي يحدث،ما قصة السيد و قصة عدم إلتزامك منذ متى صرتي عديمة المسؤولية؟
" منذ أن باتت الحرائق تلتهب بداخلي.."  *رددت بداخلي من دون أن أتلفظ بكلمة* بقيت صامتة على غير عادتي.فلم أرد أن أشرح له،و لا أن أبرر إنعدام مسؤوليتي و رغم أني لا أبرر لنفسي إنهزامي إلا أني لن أبرر لهم عدم تفهمهم..
- أمل!
- نعم أبي!
- تكلمي!
بقيت أنظر إليه،أتأمل تجاعيده.. أتأمل تعبه،أتأمل صراعاته التي لم تهزمه مطلقا.. أتأمل كلماته التي لم تكن مطلقا مجرد كلمات..أعشق كلماتك أبي! أعشق تواجدك،أعشق دفئ إهتمامك صدقني.
لكني قد لا أجيبك، فأجوبتي لن ترتقي لإقناعك..فأنا عن نفسي لم أقتنع بعد..
- أعتذر أبي..لكني كنت متعبة !
- متعبة! تعلمين جيدا أن أكثر ما أكرهه هو عدم الإلتزام،أكره أن تصير إبنتي مجرد نسخة عن أولئك العديمي المسؤولية..أنت لا تشبهينهم! حتى حزنك لا يشبه حزنهم.. إبنتي لم تولد لتختبئ خلف غرفتها..

بقيت أصغي لكلماته،ليت الوضع كان بهاته البساطة!
ليت الأمر يحدث كما يحدث في مخيلتي،و كأن الكون يستجيب لإرادتي.. أعلم بأن الواحد فينا قد يستحيل أن ينضج من غير أن  يستشعر معنى أن يصير صغيرا في عين نفسه ، من غير أن يستشعر إرتطام عظامه ببعضها البعض، و كأن جسدي يضيق بي..و كأن جسدي يتآكل تدريجيا، أنا لا أموت يستحيل أن يحدث الموت مرات متتالية.. أنا فقط أتخبط! أتمزق! أنا فقط أندثر في صمت..
لم أعتقد بأني قد أصل إلى هاته المحطة، أن يتخدر جسدي بجرعة زائدة.. و أن تكون تلك الجرعة الزائدة شخصا وهبته أجمل ما بداخلك..
لم أتصور بأن للخذلان مرارة تشق أفئدتنا،فتجعلها تثمل بالخيبات..

- إبنتك قوية أبي! لا تخف أنا فقط منهكة من الدراسة،و قد توصلت لحل مع الشركة .. لا تقلق.
"كان ذلك ردي، ماذا كنت لأقول مثلا.."

ذهبت لأتفقد أمي،كانت في غرفتها مع إبن أخي تلاعبه..
- أمي!
- نعم؟
- أريد كعكة بذوق الشكلاطة!
- منذ متى تحبين ذوق الشكلاطة؟
لم أتفاجئ من رد أمي،يستحيل أن تخربط أمي بين الأشياء التي أحبها و تلك  التي يستحيل أن أحبها..
ربما لم أرد يومها كعكة بذوق الشكلاطة ربما ما أردته يومها حقا هو أن لا تكون الكعكة بذوق الشكلاطة!
- أحب كل ما تصنعه يداك..
إبتسمت أمي خفية،لكنها لم تشأ أن تظهر لي سرورها..

توجهت إلى غرفتي،أخذت حماما.. حظرت نفسي و خرجت بعدها..
توجهت إلى ذلك المقهى،كان الوقت باكرا.. لم يكن وقت الغذاء قد حان بعد..
دخلت لأجد بأن صاحب المقهى كان جالسا في شرفة المقهى..
- سيدي!
- بنيتي!
كان شاحبا على غير عادته،بدى مرهقا.. لم أعتده جادا إلى ذلك الحد..
- هل أنت بخير!
- بخير.
- لكنك تبدوا شاحبا!
- أنا بخير بنيتي!
- لنقصد الطبيب أترجاك!
- الأمر لا يحتاج بنيتي،زرته صباح اليوم،ضغطي إرتفع قليلا هذا كل ما في الأمر..
- لكن..!
- أنا بخير " قاطعني و هو ينظر إلي بنظرته المتجمدة تلك"
- ماذا عنك ؟
- بخير.
هنا توقف حديثنا، و شرد كل منا في تلك الأمواج التي كانت تبدوا هي الأخرى متمردة.. مر الوقت و نحن على تلك الحالة،لم يقطع أي أحد شرودنا..
- أمل!
" بدى الصوت مؤلوفا جدا.."
إلتفت كلانا ليتفقد صاحب الصوت..
بعد أن تعرفت على صاحب الصوت، أدرت ظهري و عدت أتأمل تزاحم الحياة خارج جسدي..
- كيف حالك سيدي!
- بخير، أجابه صاحب المقهى بصرامة.. من غير أن يسأل على حاله حتى.. ثم قام و غادر الشرفة بعد أن مسح على كتفي و همس بؤذني " تذكري! الله يختار أقوى جنوده،لأعنف إبتلاءاته"
أيعقل أنه هو الآخر بات خائبا منك مثلي.. أيعقل أن يكرهك هو الآخر،أم أنها خيبته فقط جعلته يكره كل ما يذكره بها..
جلست بجانبي..لم ألتفت لأتأملك.. لم يخفق قلبي كما فعل آخر مرة لما قابلك صدفة..
- أعتذر!
- معذور مسبقا! " أجبتك من دون أن أستدير بإتجاهك"
-أمل.. أنا أحترق!
-  أتفهم,الأمر صعب!
بقيت شاردة..
- أمل،تكلمي لما السكوت !
- و هل يغير الكلام شيئا.. أتنخمد النيران التي بداخلنا بمجرد أن نتكلم؟
- لا تفعل..
- و لن تفعل " أجبتك و أنا أنظر بإتجاهك.. و أنا أتأمل  شهامتك و هي تسقط من عيني تدريجيا.."
رن هاتفي لحظتها.. كان رقما لم أتعرف عليه
- مرحبا!
- كيف حالك أمل..
- عفوا من المتصل؟!
- مديرك!
لم أكن قد تعودت بعد،على هذا النوع من الإجابات..
- و ما الذي يريده مديري مني و أنا خارج ساعات العمل!
- أن تستديري!!
- أن ماذا ؟!!؟!
- إستديري أمل..😇

إستدرت لحظتها كان هو من جديد.. كان محملا بعلب كثيرة..
- ما الذي تفعله هنا!
-أعلم بأن الأكل هو أولى هواياتك! صدقيني أمل لم يسبق أن تفاجئت بطلب توظيف كتفاجئي بطلبك!.
- و ما به طلب توظيفي!؟
- أهناك شخص بكامل قواه العقلية،يتحدث عن حبه للأكل في طلب عمل! ماذا لو لم يكن مديرك طيب القلب مثلي.. كيف كان ليكون حالك ! " سألني بنبرته المستهزئة"
- أفضل من حالك على كل حال! " أجبتك محاولة إخفاء إبتسامتي "
للحظة نسيت أمر تواجدك،للحظة لم تكن أنت محور حياتي.. و لم تكن كآبتي عظيمة إلى ذاك الحد!
تقدم الأربعيني نحوك ببطئ، رمى بيده ليصافحك، صافحته بدورك و أنت تحاول أن لا تظهر توترك.. أعرفك جيدا.. أعلم كم تخاف على ممتلكاتك.. لا لأنك تحبها بل لأنك تعودت إمتلاك الأشياء..
- أعتذر إن كنت أقاطع شيئا !
- لم تفعل! إنتهى حديثنا أصلا..
- لم تعرفيني..
نظرت إليك..
- وداعا!
خرجت مع الأربعيني و أنا أفكر في الوخزات التي تغطي صدرك.. أتراها تشبه تلك التي وخزتني بها!

إنتظرتك في زاوية الطريق.. لكنك نسيت أن تستديرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن