الضياع هو أن تكون قريبًا من كل شيء بعيد، وبعيدًا عمن هو أقرب إليك من حبل الوريد.
أسمهان الحريمي
راقدة فوق الفراش الأبيض، جسدها مخفي بفعل الملاءة الناصعة والأجهزة الملتصقة بجميع أجزاء جسدها الحيوية، عيونه تطالعها لا تصدق ما ترى.. أهذه من كانت تصيح في وجهه مؤخرًا فتوشك على صم أذانه؟.. تستثير أعصابه حد الإحتقان. لا يملك القدرة على الرد بضربات ولكمات كما قد يفعل مع الرجال؛ فيلجأ للجرح الكلامي والإهانة الشفهية، ومن هنا تندلع نيران الروتين المعتادة، في تبادل لكلمات أشد وطأة من أقذع الألفاظ النابية وأعمق أثرًا من أي لفظ سوقي خرج من شفاهه صوبها دون وعي.
عيونها مغمضة بملائكية، بشرتها ذابلة وشاحبة مع مرتبة الشرف، يُرغِم اعتراف غاصب عن مدى قرب مظهرها الحالي من الموت عوضًا عن الحياة.
تبًا... مرات ومرات تصور خلاصه منها، وعودة حياته إلى ما كانته قبلها، كان ذلك الخيال الواهم هو أشد لحظاته سعادة... أن يتخلص من جسومها الخانق فوق أنفاسه.
سحب الكرسي يقربه من فراشها، جلس فوقه ومد يده يقبض كفها، وقتها توقف متذكرًا آخر مشهد بينهما قبل هذا الرُقاد، كانت تصرخ مُسلِتة كفها من بين أصابعه الكابحة لفرارها الثائر، يجذبها جهته معاكسًا حرب جسدها الدامية ناحية الباب، نظرات عيونها المغرورقة بدمعات نادرًا ما رأها في مآقيها البنية ذات اللمعة البرونزية الآسرة، تهتف بوجع فشلت في إخفاءه: ابتعد... ارحل عني!، دعني أنساك وأنسى زمنًا جمعنا سوية.
ثار وانتفخت أودجه، غِلًا اعتمر في صدره لتصريحها علنًا رغبتها بنسيانه!، عشتار لمحمد، بل عشتار لمحمد الجرّاح، وليس أي محمدًا آخر!، موشومة باسمه حتى الجد الثالث عشر.
هتف بصوت جهوري قوي لا يتناسب مع مظهره شبه العاري أمامها، لاحقًا بها، زاهدًا في خلوته المحرمة، ناسيًا شهوته الجارفة قبل دقائق: لن أسمح لك!... لا بالنسيان أو التفكير بالأمر، أنتِ لي حتى تزهق آخر أنفاسك.
والآن ترقد أمامه في انتظار آخر أنفاسها المزهوقة، ويالسخرية الوضع فهي تفعلها دون نسيانه كما توعد، فكرّ بضعف..
أغروره أهم منها ومن حياتها؟ كيف كان له أن يحكم عليها بهذه الحدة؟، كيف لم يتفهم هياج أعصابها وقد رأته في أحضان أخرى يشاركها حميمية مثل التي كانت بينهما، يطعنها بخناجر النكد كل يوم فيما يدلل غيرها دون وجه حق.
-نزوة، قسمًا بالله نزوة.
قالها مستندًا بجبينه فوق كفها المضموم بين كفيه الضخام عليها، عشتاره تنسل أنفاس الحياة منها وهو عاجز لا يستطيع القيام بشيء سوى البكاء، عاجزًا مقيدًا، عكسها هي حين كان الوضع معكوسًا، أتت بحقه أسفل قدميه، تعطيه حق الإنتقام أو التنازل بترفع ورقي، لكن ممنْ يأتي لها بحقها وهي الضحية والجاني بنفس القضية!
ربتة على كتفه، مليئة بالحنان والمواساة تبعها همس ناعم يحمل رائحة همساتها المرفرفة في رقة من حوله: يكفيك هذا يا بني، أذهب لترتاح وحين تستيقظ سأتصل بك.
هز رأسه متعبًا، طاقته فُقِدَت منذ وصله الخبر المأسوف: ما دامت لم تهتف بي الرحيل لن أفعل من نفسي.. مطلقًا.
أوجعتها حالته وأشفقت عليه، لكن قلبها الأمومي –جهة النائمة بسلام- ذكرّها بحالة ابنتها بعدما عادت من مشاهدة خيانته مرأى العين، كما أعمى لديها أدنى تقدير لانكساره. جحودها على من أحرق قلب طفلتها جعله بنظرها متبلدًا.
سحبت كفها عن كتفه بالنهاية؛ فهو أقل من استحقاقه للشفقة، وأدنى مما تفعله ابنتها لأجل عيونه.
أنت تقرأ
رواية حادث مع سبق خيانة
Romantikيظن المرء في نفسه القوة حتى تُختَبر. هو عكس أولئك الضعاف، المتهاونين في حقوقهم.. المتنازلين عن كرامتهم لأجل مسميات، أولها "الحب". لكن وقت الجد.. يكتشف كونه مثل عامة الناس، وإن كان للقاعدة شواذ؛ فهو بالأخص ليس من شواذها.. بعدما وضعته الحياة في تحدي م...