الفصل الثالث والعشرون

1.9K 83 5
                                    

جوى

٥ يوليو ٢٠١٦

لم أتمكن من استيعاب شيء وانا أرى فوضى تدور من حولي، دخان يخنق المدينة، وصراخ، أصوات سيارات الإسعاف تصل الينا رغم المسافة الشبه بعيدة، أفقت على صوت ياسمين وهي تصرخ، علي وعبد الله ذهبا هناك! دار داخل رأسي ما قاله اخر شيء، هل حقاً سمعت مجمع الليثي؟ ام انني توهمت، بقيت متوقفة اسمع ياسمين وهي تصرخ وتبكي بينما امي وجدتي تحاولان تهدئتها، فجأة انطلقت لأدخل للداخل، ارتديت عباءة جدتي بسرعة من غرفتها وجريت للأسفل لأخرج، اوقفتني ياسمين وهي تناديني: انتظريني.
وبختني امي وهي تسأل عن سبب خروجي، لم استمع لها، كان عقلي متوقفاً، اطرافي جميعها ترتعش، لا لا، انا ادعو له في كل صلاة ان يحفظه الله، لقد وضعت منذ زمن ورقة بها اية الكرسي في محفظته دون علمه، كلام الله معه لن يصيبه مكروه، هكذا طمأنت نفسي رغم روعتي، أتت ياسمين بقدمين لا تحملانها، جررتها من يدها بقوة لنخرج، كان مكان الانفجار على بعد خمس شوارع من بيتنا، جرينا وسط الناس الذين هرعوا لمكان الحادث المروع، جميعهم يبحثون عن خبر يكذب هواجسهم، وصلنا للشارع الذي تم تفجيره قبل قليل، كانت النيران تأكل جسده بالكامل، سيارات، محلات تجارية، كانت الجحيم بحد ذاتها امامنا، نيران تتصاعد لتنهش حتى السماء بدخانها، المت النيران وحرارتها التي رغم وجود مسافة اعيننا، بقينا متوقفتان نراقب نهاية العالم، الهول الذي التهم فلذات اكبادنا، جريت مقتربة اصرخ: عبد الله، لااااااا.
ناديته حتى تشققت حبالي الصوتية، التفت لياسمين التي كانت تجلس على ركبتيها تلطم وجهها والنيران معكوسة في عيناها، ضربت وجنتيها بمرارة لتنوح قائلة: مات، مات، رحل.
اقتربت منها وانا اصرخ واهزها: لا، لا، اخرسي.
كان الصراخ يملي المساحة هذه، النيران تقتد أكثر وأكثر، وكأنما هناك انفجارات تحدث وتشعلها أكثر، حاول الناس ابعادنا لأنها باتت قريبة منا، تريد ضمنا لمن نحب ايضاً، بقي الجميع يراقب بعجز، يرون تفحم أجساد كانت في يوم من الايام مجرة لهم، مجرتي كانت معهم ربما، ايمكن للمجرات ان تموت بإنفجار على سطح الأرض، ليس كوني؟ ياسمين شدت شعرها بقوة وضربت نفسها كثيراً، بينما انا اقترب من الحريق، وابتعد، لا لن اصدق شيء ما لم أرى جسده، ما لم يأتي ملك الموت نفسه ويخبرني انه سرق روحه مني، بهستيرية اقتربت من ياسمين لأمسك يدها أحاول انهاضها قائلة: غبية ربما ليسا هناك، تعالي نتأكد.
لكنها لم تنهض معي فتركتها وحاولت الاقتراب، الدخان يدفعني بيده والحرارة ترميني بقوة، حتى شعرت بأحد يحاول سحبي للوراء، جررني للوراء فالتفت لأدفعه: ابتعددددد عن
تجمدت في مكاني وتجمدت الدموع على خدي، حبيبي! اتسعت عيناي انظر له بينما هو ينظر للغول الدخاني خلفي، رفعت يداي اتحسس وجهه، هو حقيقي لم يصبه مكروه، نزلت يدي من على وجهه وتلمست صدره، قلبه الذي مازال ينبض، حتى يده التي كانت ترجف، صرخة ياسمين وهي تنهض مقتربة من عبد الله لتسأله بصدمة: لم يحدث لكما شيء!
أشار بسبابته تجاه النار ليجيب بجمود: هو هناك.
التفتنا للمكان الذي تسلقت فيه ارواحهم لتصعد للسماء، علي مات! لطمت وجهها بقوة لتصرخ: لااااا، لاااااا، ماااات، لاااا.
اقتربت منها لأحتويها، حاولت ان تدفعني، تضربني بقوة، بينما انا ابكي مثلها، ابكي على صديق رحل قبل اوانه، على زوج ترك عرسه الذي سيقام بعد أيام، على ولد لم تزين امه يده بالحنة، على حبيب لصديقتي الذي بات يحبها لسبع سنوات وأكثر، على شاب عراقي سيحتفل بالعيد هذه السنة في الفردوس.
من قال ان الاحزان تتضاءل؟ كيف تفعل ان كان مصدرها شخص فقدناه ليس فراقاً عادياً بل ابدياً لا لقاء بعده، لا مكالمة هاتفية ولا رسالة، لا شيء سيصل منه بعدها، لا صدى صوته، ولا ملمس يده، يومان مرا كأنهما دهراً، لازمت ياسمين خلال هذه الفترة، حينما تم نقلها للمشفى لأنها سقطت وخارت قواها من شدة البكاء والنوح، يومان وانا لا اعلم شيئاً عن عبد الله بعد ان فقد أخيه، يومان وعيناي متورمتان، ابكي واراقب التي ذبل جسدها على السرير تبكي بصمت، بلا صوت، بحنجرة خانتها بعد ان استغرقت هي كل قواها في الصراخ فلم يتبقى منها شيء، دارت عيني في الغرفة البيضاء التي امامي، عروس كان من المفترض ان تكون الان في احد الصالونات لتتجهز نفسها فبد أيام زفافها، وام تجلس على الكرسي الذي استقر بالقرب من السرير، تسند رأسها على يدها لتنظر بحسرة لإبنتها التي لم تذق طعم الهناء، تبكي وتسأل عنه وصوتها لا يساعدها لتقبض على الفراش بقوة، أي دواء واي مشفى ذاك الذي يمكنه ان يعيد لنا حبيب سكن في السماء؟ تمكنوا من صنع كل شيء، حتى انهم يهمون بصنع انسان كامل يشبهنا، لكنهم لم يجدوا حلاً للإنسان نفسه، للفقد، للموت، للشوق، لتلك الحاجة التي تنخرنا من الداخل. خرجت ياسمين وتمكن ساقيها من حلمها لتطلب منا الذهاب لمنزله، للعزاء، لذاك المنزل الذي منذ أيام كان مزدحماً بالتحضير للاحتفال بالزفاف، والان مزدحماً بزفاف لكنه من اخر، امسكت بيدها بقوة ونحن مقبلين على الدخول للمنزل الذي كان من المفترض ان يكون العش الذي سيقيمان به، كان صوت القران والبكاء يعمان في الأجواء. بدأت انتحب فور دخولي، رأيت صورته التي علق على طرف اطارها شريط اسود، علقت على الجدار، يبتسم هو بينما تحدق الابصار به باكية، رحل قبل اوانه، رحل دون وداع، التفت لياسمين، كانت هادئة، تنظر للجميع دون إدراك، تائهة ربما تنتظر قدومه او نزوله من غرفته ليخبرها انها كانت في كابوس، وان الزفاف سيقام، وستصبح هي ملكه، رأيت امه تجلس على الأرض بين النساء متربعة، تبكي وتمسح وجهها بشالها الأسود الذي أصبح رثاً من تجفيف الدموع، نادت بحسرة على ياسمين لتقترب وتجلس بجانبها، فهبطت ياسمين لتجاورها وهي تراقبهم بذهول، احتضنتها ام علي لتنوح قائلة: لم افرح به، لم احني يده بعد، لم أرى اطفاله بعد، ليتني مت قبلك.
ليتنا نموت عوضاً عنهم، نحن نفقد الحياة بموتهم، لا حياة لنا بعد موت مجاراتنا. أيام مرة مرت حتى شعرت انني أستطيع ترك ياسمين التي باتت فاقدة للإحساس بأي شيء، ياسمين التي ارتدت فستان زفافها الذي كانت سترتديه له ومعه، ياسمين التي قطعته اثناء ارتدائها له، والتي باتت تقبل صوره وتخاطب روح لم تعد تسكن هذه الأرض، ياسمين التي عشقت القبور لأن أصبح أحد ساكنيها حبيب رحل قبل الاوان. رغم قلقي على عبد الله الا انني كنت أخاف من ان اراه، لا يمكنني حتى تخيل حالته هذه؟ او ما يشعر به.
ذهبت لمنزله، كانت سيارته في الخارج غطاها التراب، طرق الباب وضربات قلبي تتسارع، خائفة منه وعليه، فتحه لي لأرى وجهه، ذاك السواد الذي يحيط بعينيه، وجهه الذابل، رائحة النبيذ المخلوطة مع رائحة عرقه ودخان سجائره، سار وترك الباب مفتوحاً لي، دخلت بهدوء وانا اراقب حال المنزل، كسر كل شيء، أصبح يسكن في خرابة، زجاجات البيرة مكسرة تفرش الأرض، كراسي مقلوبة على ظهرها، صحون متهشمة، سرير مبعثر ووسادات ملقاة على الأرض. اقتربت من حيث جلس هو امام سريرها على الأرض، جلست امامه كالقرفصاء، رفعت رأسه ليوجه كلامه لي: هذا هو البلد الذي تحبينه؟ تمجدينه؟ اتكون الأوطان كذلك؟
بقيت انظر اليه بحزن أعجز عن الإجابة فاستمر هو بسؤالي: اتقتل الأوطان أبنائها؟ يموتون ليحيى الوطن! من هو الوطن عفواً؟ أي وطن هذا؟ الساسة الفاسدين، ام المواطنين المخربين؟ علق بسخرية: لا تخبريني ان الوطن نحن؟ لأننا نموت كل يوم، نتناقص مع طلوع شمس النهار.
حلقي جف بأكمله، انا حقاً لا املك إجابة ولا الومه حتى علي أي كلمة قالها، نهض من مكانه فانتصبت انا ايضاً، ابتسم مقترباً أكثر مني: كنت سأكون معه لولا ان سيارتي تعطلت واضطررت لأخذها للصيانة قبل ذهابي، رفع صوته ليكمل: كنتِ ستصبحين مكانها، هل كنتِ ستحبين وطنكِ هذا؟
تدحرجت دموعي وانا اراه هكذا، لا يسعني فعل شيء، جر على اسنانه ليقول: انا أكره نفسي، وأكره هذا الوطن، وأكره الله لأن ما زال مصراً على ان يعذبني بأخذ جميع من اُحبهم، لا يأخذني عوضاً عنهم لأنفذ من هذا العالم.
اقتربت منه لأحتضنه وابكي، كان جسده متصلباً، لا يبدي أي حركة، دفعني بعيداً عنه وهو يمسك بمرفقي قائلاً: لحسن الحظ اننا لم نتزوج، انا سأرحل لا يمكنني البقاء اكثر على هذه الأرض.
ورحل!

انتِ مجرتيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن